الأربعاء، 30 أبريل 2008

المادية والمثالية

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود

المادية والمثالية
يوجد لدينا دائما واقع ووعى، فما هما ؟. وما العلاقة بينهما؟ الواقع هو كل ما هو موجود بشكل مستقل عن إدراكنا له أو عن وعينا به، ويتكون من أشياء لا نهاية ولا حصر لها، تتنوع من شدة الكبر كالنجوم و المجرات، إلى شدة الصغر كالجسيمات المتناهية الصغر التى تتكون منها الذرة. وتتفاوت فى طول فترة بقائها من أعمار تبلغ ملايين السنين إلى أعمار تبلغ أجزاء من المليون من الثانية، وما بين حية وجامدة، كل شئ من هذه الأشياء ذو عمر محدود، حيث ينشأ من شئ قبله، لينمو أو يتطور إلى شئ آخر، وهكذا فى سلسلة بلا نهاية ولا بداية.
وكل شئ فى الحقيقة هو عملية تبادل ما بين أشياء أخرى، هذه العملية التى تربط الأشياء ببعضها مكونة الشيء المعنى هى جوهر هذا الشئ، وبسببها تتواجد مظاهر الشيء من صلابة وسيولة وحياة وجمود ولون... الخ، وبالتالى نستطيع التعرف على هذه الأشياء من خلال تأثيرها على حواسنا المختلفة من بصر وسمع وشم.. الخ.
لحظة بدء العملية هى لحظة تكون الشيء المعنى، كما تصبح نهايتها هى نهاية هذا الشيء، فالإنسان شئ حى مكون من أشياء أخرى هى الخلايا الحية، التى تترابط فيما بينها فى عمليات تبادل وترابط فى غاية التعقد لتكون الإنسان، والخلايا بدورها عمليات بين جزيئات كيميائية معقدة وبسيطة، وبدورها هى عمليات بين ذرات، وبدورها هى عمليات بين جسيمات أولية معقدة وبسيطة... وهكذا.
لدينا نوعان من الأشياء..الأشياء الطبيعية : كالكواكب والبحار والجبال والنباتات والحيوانات ومن ضمنها الإنسان. وهى تحكمها ضرورات كامنة فيها، وأشياء اجتماعية : وهى المجتمعات البشرية، وهى التى تتكون من عمليتين أو علاقتين : علاقة المجتمع المعنى مع الطبيعة لتحويل أشيائها لمنتجات مادية تشبع احتياجات هذا المجتمع، وعلاقة أفراد هذا المجتمع بعضهم ببعض أثناء عملية الإنتاج المادى، وهى أيضا تحكمها ضرورات اجتماعية كامنة فيها... وكل من الطبيعة والمجتمعات تشكل كلا واحد نطلق عليه المادة أو الواقع، وبتعبير ثالث: الوجود.
وكما يوجد الواقع بكل ما فيه من أشياء، وما يحدث له من تحولات، توجد الأفكار المختلفة التى تكون الوعى.. والأفكار أو الصور أو المثل، تتنوع ما بين فردية واجتماعية : فالأخلاق والأفكار السياسية والفلسفية والعلوم والفنون والآداب والأديان... الخ - هى أشكال الوعى الاجتماعى المختلفة، التى لا يمكن تصورها إلا بوجود مسبق للمجتمع البشرى.
عند تفسير الوجود من حولنا بكل ما فيه من أشياء ومظاهر وعمليات، فإننا أما أن نرجعها لأفكار معينة - الصور، المثل، والوعى - أو أن نفسره بما هو عليه، وبما هو كامن فيه من ضرورات واقعية، ومن قوى مادية.. الطريقة الأولى فى التفكير طريقة مثالية : ترجع وجود المادة وحركتها وتطورها إلى فكر ما سابق على وجود المادة، والطريقة الثانية فى التفكير طريقة مادية، ترجع وجود المادة وحركتها وتطورها إلى قوى مادية كامنة فى طبيعة المادة.. هاتان هما المدرستان الأساسيتان فى الفلسفة فيما يتعلق بمبحث الوجود، حقيقته وحركته.
وإذا كان لدينا مادة ووعى. فعلينا أن إذن نعرف كيف ينشأ الوعى هل هو سابق على المادة أم لاحق عليها ؟ وهل يمكن لنا أن نعرف الواقع من حولنا أم لا ؟ وإذا كان يمكن لنا أن نعرف الواقع، فهل للمعرفة حدود ؟.. وعلى هذه الأسئلة أيضا تتحدد الإجابات وفق نظرتين : فإذا قلنا إن الوعى سابق على وجود المادة فنحن مثاليون، أما إذا قلنا العكس وهو أسبقية المادة على الوعى فنحن ماديون، وإذا قلنا بعدم إمكانية معرفة العالم من حولنا أو أن هناك حدودا لهذه المعرفة، لا يمكننا تحطيمها فنحن لا أدريون، وإذا قلنا بالعكس فنحن أدريون.
إن أية فكرة مادية متسقة لابد أن تقول بمادية الفكر نفسه، أى أن الوعى جزء من المادة مثل الشمس والقمر، كما أن أية فكرة مثالية متسقة لابد أن تقول بأن المادة وعى بمعنى ما : فهيجل المثالى يقول مثلا إن الطبيعة عقل متحجر، كما أن رؤيتنا للشمس هى ناتج عملية مادية تجرى بين جزئيات مادية فى المخ نتيجة هبوط الضوء الآتى من الشمس على شبكية العين، لينتقل هذا التأثير إلى المخ من خلال العصب البصرى، وهذا الانتقال يعتمد على تفاعلات كهروكيمائية داخل الجهاز العصبى.
مرة أخرى، فإننا يجب أن نشير إلى أن كل إنسان يمزج بهذه الدرجة أو تلك بين النظرتين المادية والمثالية سواء فيما يتعلق بنظرية الوجود أو نظرية المعرفة، ويبقى أن نعرف أن الخرافات عموما تقوم على أساس النظرة المثالية للعالم، فى حين أن العلم لا يقوم إلا على أساس النظرة المادية للعالم، من حيث إرجاعه ما يحدث فى الواقع لما هو كامن فى الواقع من قوى وضرورات، والاعتراف بإمكانية معرفة العالم، وإلا لما كان ضروريا أن نبحث عن الحقيقة، مادمنا مقتنعين بعدم قدرتنا على ذلك.
وأخيرا : علينا أن نشير أنه لا علاقة لهذه المصطلحات الفلسفية الخاصة بنظرية كل من الوجود والمعرفة، بالمثالية والمادية كمفهومين أخلاقيين شائعين : فنحن فى الحياة العادية نقول عن الشخص إنه مثالى فى سلوكه وأخلاقه حين يضع الأولوية دائما للمثل العليا والقيم الرفيعة فوق أى اعتبارات أخرى، ويسلك مع الناس دائما بما يتفق وهذه المثل والقيم التى تعبر عن الحق والخير والجمال من وجهة نظره ؛ فيضحى بأى مكاسب شخصية، مادية كانت أو أدبية، لو تعارضت مع التزامه بهذه المثل أو تلك القيم... ونقول عن الشخص أنه مادى فى سلوكه وأخلاقه حين يضع الأولوية دائما للمكاسب الشخصية فوق أى اعتبارات أخرى، ويسلك مع الناس دائما بما يتفق وتحقيق هذه المكاسب، فيحطم أى مثل وأى قيم اجتماعية أو أخلاقية، لو تعارضت مع تحقيق مكاسبه الشخصية، مادية كانت أم أدبية.
وفى النهاية : إن تقسيم الأخلاق والسلوكيات إلى مادية ومثالية هو تقسيم شائع فى الاستخدام العام، إلا أنه ليس هو التقسيم الفلسفى فى مصادر الالتزام الأخلاقى وفى ثبات أم تغير المعايير الأخلاقية، وفيما يتعلق بنظرية الأخلاق سواء على مستوى التفسير أو على المستوى العملى.
فالأخلاق كمبحث فلسفى تبحث في مصادر الإلزام الأخلاقى وفى ثبات أم تغير المعايير الأخلاقية ،وفيما ينبغى أن يكون عليه السلوك الإنسانى ،وهى تنقسم إلى أخلاق عملية تبحث فى الجوانب الأخلاقية للشخصية الفردية والأسرة والحياة المهنية والسياسية . وأخلاق نظرية تبحث فى نظرية السلوك ،ومدى تحقيقه للقيم الأخلاقية .وأهم مذاهب الأخلاق النظرية هى مذاهب السعادة أو الخير، والمذاهب الشكلية أو مذاهب الواجب.
الوعى الاجتماعى والوجود الاجتماعى :
يلاحظ أنه عندما يثار نقاش حول ما وصلت إليه الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أو حتى الثقافية من تدهور أو تأزم، فإن إجابات معظم الناس ترجع هذا التدهور وذلك التأزم إلى فساد الأخلاق، وموت الضمائر، ويلاحظ أن أشد ما يدفعهم للسخط هو ما يعتبرونه فسادا وانحلالا، وبالتالى فإن الحل دائما لوقف التدهور، وحل التأزم، ومن ثم الازدهار لن يتأتى إلا بإصلاح الأخلاق، وإحياء الضمائر، والقضاء على شتى صور الفساد والانحلال.
لاحظ كل الصحف والمجلات، ستجد أن أهم ما تتحدث عنه، ويثير الاهتمام، وأن أهم ما تهاجم به الحكومة، هى قصص الفساد والانحلال والتى يفسر بها كل ما تعانيه الجماهير ومن ثم يرسخ فى أذهاننا أن الحل لكل أزماتنا هو القضاء على الفساد الذى تمارسه النخبة الحاكمة بإزالة هذه النخبة لتحل محلها نخبة أخرى أخلاقها أفضل.. هذا هو جوهر ومضمون الرسالة الدعائية لكل صحف المعارضة من اليسار إلى اليمين، وهو الأمر الذى يصب فى النهاية لصالح الإسلام السياسى، حيث إن هذا هو جوهر برنامجه السياسى.
يكتب عادل حسين "فإن الملأ من قومنا يقاومون اتجاهنا إلى تقويم العقائد، وإصلاح شئون المجتمع التى فسدت مع فساد العقائد والأوضاع" (1). ويكتب "لقد فسق مترفونا وآن لنا أن نرفض مسلكهم. فواقع الأمر أن تحقيق الآمال العظام التى ندعو إليها يتطلب عزما ومكابدة.. يتطلب أن نعالج ما أصابنا من عادات سيئة، يتطلب أن نحتمل العمل المضنى الشاق لكى نزرع الأرض وندير الآلات" (2).
أن الكلام الكثير عن فساد النخبة يساوى التركيز على أخلاق النخبة، وبمعنى آخر : يساوى الدعوة إلى نخبة جيدة الأخلاق، باعتبارها هى المسئولة عن أخلاق المجتمع، وبمعنى أوضح : إن جوهر الأخلاق التى ينطوى عليه نقد من هذا النوع هى فىالواقع، أخلاق الثنائى "سيد/ عبد" فمشروع الإسلام السياسى هو مثل أى مشروع سلطوى يدعو لتولى سيد صالح أو بمعنى آخر مستبد عادل للسلطة، ليتولى بالقمع تقويم أخلاق العبيد وهم أفراد الشعب، فليكن هذا السيد فردا "كالخليفة العادل"، أو نخبة صالحة مثل "العصبة المؤمنة" أما العبيد المقموعون والخاضعون لوصاية السيد أو النخبة فلتبق لهم كل أخلاق العبيد السيئة : الكذب، النفاق، الدونية، الخنوع، الطاعة، السلبية إلخ!!
وإذا كان الشيخ صلاح أبو إسماعيل يرى كما ترى كل حركات الإسلام السياسى أن"فى الشريعة الإسلامية حلول لكافة المشكلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية"(3)فأنه يرى بناء على ذلك أن تقنين الشريعة الإسلامية"لا يحتاج إلا للرأس الذى أستوعب القرآن وأستوعب السنة وعرف بقدرته على الاستنباط ..وذلك فى إطار من التقوى والورع"(4) .وبذلك فلا دور لغير هؤلاء فى إدارة شئون المجتمع فالشريعة لم تترك لأحد التفكير فى حلول للمشاكل حسبما يدعون أولا، وثانيا فأمرها موكول للمتخصصين فيها، وليس لغير المتخصصين شأن بذلك .وأن لهؤلاء المتخصصين دون سواهم حق الشورى غير الملزمة للحاكم.
ويثور السؤال الأساسى : لمن الأولوية : الوعى الاجتماعى بما يشمل من أخلاق أم للوجود الاجتماعى، أى الطريقة التى ينتج بها الناس احتياجاتهم المادية، ويدخلون بذلك فى علاقات اجتماعية. ما هو الثانوى وما هو الأساسى.. الوجود أم الوعى ؟
الحقيقة أن البشر هم أبناء ظروفهم الاجتماعية.. ففى مجتمع يخلو من الملكية الخاصة ستختفى الجرائم الاقتصادية، وسيختفى اقتتال الناس حولها، أما فى مجتمع تتحدد قيمة الإنسان فيه حسبما يملك، فإن الصراع حول الملكية الخاصة ووسائل الحصول عليها والنزاع حول الفوز بأكبر قدر منها سيكون سلوك الجميع، مهما شددنا على وعظهم وإرشادهم بأن القناعة كنز لا يفنى، فقد عرفت البشرية عبر تاريخ الطويل، فى كل مكان وزمان، مالا حصر له من أديان ومذاهب وفلسفات أخلاقية ونظم قانونية، وعشرات الألوف من الوعاظ والحكماء والفلاسفة والأنبياء والمصلحين، وكلهم حضوا ويحضوا كتابة وشفاهه على حسن الخلق وطيب السلوك، ويمتلئ التراث البشرى بما لا حصر له من أدبيات تدعو للمثل العليا والقيم والرفيعة.
إلا أن هذا كله ظل يؤثر فى بعض البشر لا فى غالبيتهم، ويؤثر لبعض الوقت لا طول الوقت. وظلت البشرية تنتهك كل هذا ومــازالت. إلا أن البعض مازال يصر على نفس الطريق، ولم يسأل أحدهم نفسه : لماذا لا يستجيب البشر للوعظ ؟ وإن استجابوا أحيانا لماذا نراهم لا يستمرون؟. بعضهم يقول إنها الطبائع البشرية التى لا تستجيب إلا للقمع، سواء أكان قمع الدولة أو السلطة أيما كانت أم قمع الآلهة، ويظلوا يرددون "إذا لم يكن الله موجودا فكل شئ مباح!". ويتناسون أن الأخلاق ضرورة اجتماعية لكى تستمر أى علاقة اجتماعية، فلا يوجد أى مجتمع فى أى مكان أو زمان يخلو من أخلاق ما، إلا أنها تختلف من مجتمع لأخر، ومن طبقة لأخرى وهكذا. فإن أى أخلاق هى إفراز للعلاقات الاجتماعية المادية بين أفراد المجتمع، وتعبير عنها، وليست مجرد مثل عليا سابقة على وجود المجتمع، والعلاقات المادية بين أفراده وطبقاته، بل إن أصولها ترجع لهذه العلاقات.
فعدم السرقة قيمة لا معنى لها ولا وظيفة فى مجتمع مشاعى، لا يملك فيه أى فرد أى شئ، ويستطيع بالتالى الانتفاع بأى شئ يجده، إلا أن عدم السرقة تصبح قيمة جوهرية ذات وظيفة اجتماعية هامة فى مجتمع طبقى يملك فيه أفراده أشياءهم الخاصة، ولا يجوز لغيرهم الاستيلاء عليها أو الانتفاع بها إلا بناء على إرادتهم... وقس على ذلك سائر القيم الأخلاقية والسلوكية.
والإنسان هو ابن لمجموعة من الظروف المترابطة والمتشابكة، بعضها خاص بكونه كائنا حيا مثل العوامل الوراثية والنشاط الهرمونى... الخ، وبعضها خاص بكونه عضوا فى مجتمع بشرى، ويشكله هذا الأخير بما فيه من ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية، فتنشط لديه ميول ما فردية أو جماعية، مؤقتة أو دائمة، حسبما تفرض الظروف. والبشر بالرغم من خضوعهم لظروفهم البيولوجية والاجتماعية، إلا أنهم يتفاوتون فى التأثر بها، وإمكانية مقاومتها : فبعض البشر يقاومون آثار الفقر، إلا أنه عندما يهددهم الجوع، فإنهم لن يتوانوا عن السرقة درءا للموت، والبعض الآخر قد يكون بالرغم مما يملكه من ثروة، وطلبا للمزيد منها، على استعداد لأن يخوض بحرا من الخطايا من أجل زيادتها ولو قليلا، مادام المجتمع يقدر الإنسان بما يملكه، ويحدد المرتبة الاجتماعية للفرد حسب كمية الثروة المادية التى يملكها، وبالطبع فإن من يتمسكون بأن "أكرمكم عند الله أتقاكم"، يتناسون أن هذه الأفضلية عند الله فى الآخرة، وليس لدى البشر فى المجتمعات الطبقية القائمة على الملكية الخاصة.
إن الفشل الذريع الذى واجه الوعظ الأخلاقى دائما يرجع إلى أنه يحاول معالجة الأعراض ولا يقترب من أصل المرض، ففى كل المجتمعات الطبقية كانت الملكية الخاصة هى الشيطان الذى يوسوس للبشر ببعض الشر كالسرقة، وفى كل المجتمعات الاستبدادية كان القهر هو الشيطان الذى يوسوس للبشر ببعض الشر كالكذب، فهما الجرثومتان لمعظم الجرائم والآثام الاجتماعية، وبالقضاء عليهما ستختفي بلا شك هذه الأعراض المرضية الناتجة عنهما، وهو مالا يستطيعه أى وعظ و أى قمع.
وعلى خلاف ذلك يطرح د. عبد الهادى النجار الحل الإسلامى للمشكلة الاقتصادية على النحو التالى "الإسلام يدعو إلى مراقبة الله، قال تعالى "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح ليرفعه" ويحذر الله من مخالفة ذلك، لأن المخالف لن يفلت من مراقبة الله وعقابه، ولهذا قال "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" (5).. والحقيقة أن الإسلام بدأ من خمسة عشر قرنا، وقد شهدت هذه الفترة بلايين المسلمين شديدى الإيمان بالقرآن، وحقيقة كل ما جاء فيه من تهديد ووعيد لمن يعصون أوامره. إلا أن كل تاريخ المسلمين قد شهد منذ عهد الرسول وإلى الآن ما لا حصر له من جرائم وآثام وعصيان، رغم أن المسلمين يقرءون ويسمعون القرآن والحديث، مؤمنين بكل ما جاء بهما من أوامر وأحكام، إلا أنهم فى الحياة، وعندما يفرغون من عبادتهم، ويخرجون من المساجد، ينسون كل ذلك، عندما تتطلب مصالحهم، وعندما يحرمون من احتياجاتهم، يرتكبون المعاصى ويبررون كل أفعالهم المخالفة بشتى التبريرات، بما فى ذلك من تأويلات لكلام الله ترضى أهوائهم وتسكت ضمائرهم.
فمن قتلوا الحسين بن على وحاصروا أهل البيت النبوى وحرموهم الماء ومن دكوا المسجد الحرام كانوا على قناعة بأنهم يحاربون الخارجين على أمير المؤمنين الشرعى ،وهم بفعلهم إنما يتقربون إلى الله كما كان المحاصرين فى الحالتين على يقين من دفاعهم على حياض الدين ضد مغتصب السلطة.
ويكتب د. عبد الهادى النجار مرة أخرى "وهو ما يختلف عن الاقتصاديات المعاصرة على أساس أن الغاية من النشاط فى الإسلام هى عبادة الله، وليست الأهداف المادية إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية"،(6) "وفضلا عن ذلك، فإن النشاط الاقتصادى فى الإسلام لا يهدف إلى نفع مادى فقط، كأى نشاط اقتصادى وضعى، وإنما يتخذ من هذا الهدف وسيلة لغاية أخرى هى إعمار الأرض، وتهيئتها للحياة الإنسانية، تحقيقا لخلافة الإنسان فى الأرض، وإيمانا بأن الله سيسأل الإنسان عن هذه الخلافة" (7).
وكأن الأنظمة الأخرى لا تستهدف إعمار الأرض، وتهيئتها للحياة الإنسانية، وسيطرة الإنسان على الأرض تحقيقا لاحتياجاته الطبيعية.وهى عبارات تلخص جوهر الحياة البشرية على الأرض تحت أى نظام اجتماعى
ويتضح لنا من التجربة البشرية، ومما سبق الإشارة إليه، أن مثل هذه الدعاوى والمواعظ لا قيمة لها إلا عبر نظام اجتماعى يسمح للبشر، ويتيح لهم، أن يسلكوا فى حياتهم وفق هذه المواعظ. أما فى نظام اجتماعى يجبرهم على الانحراف عنها، فإن هذا الوعظ سيكون نوعا من العلاج لا يغنى ولا يفيد.
والحقيقة أن هذا الحديث حول نظام اجتماعى متميز يكفل وضع القيم الروحية فوق القيم المادية لا يمكن أن يكون مجتمعا بشريا مكونا من الكائنات المادية المسماة بالبشر، وإنما مجتمع مكون من كائنات روحية، تضع متطلبات الروح المتكونة منها فوق متطلبات المادة !. إن هذا الحديث يتناسى أنه قبل أن ينتج البشر فلسفة وشعرا وأدبا وفنا وعلما وقيما، عليهم أولا أن يملئوا المعدة بالطعام، حتى يستطيعوا الاستمرار فى الوجود، وهو الشرط الأساسى لكى يمارسوا الفكر والوعى بل وعبادة الله!.
إن مثل هذه الطنطنة تغفل أن القيم المادية شئ محترم جدا.. إذا نظرنا إلى أغلبية البشر المسحوقين الذين يعتبر توفير مقومات مادية أفضل لحياتهم عملا أخلاقيا عظيما، وأنه بدون القضاء على أساس الملكية الخاصة الذى يحرمهم من هذه المتطلبات تكون الدعوة إلى الأخلاق المجردة مجرد مخدرات لهم.
وحسبما يرى د. عبد الهادى النجار، يتحول عمل العامل إلى عبادة لله، ويصبح استغلال العامل عبادة لله، ويصبح إضراب الــــعامل العمل لتحسين شروط العمل امتناع عن العبادة؛ فالعمل المجرد والمنزه لا يوجد إلا على صفحات الكتب وفى أخيلة البشر، وهو ما يفقده بالضرورة أى طابع حى، أما العمل الحى الحقيقى فهو علاقة اجتماعية بالدرجة الأولى، فاستغلال هذا العمل فى علاقات إنتاج غير متكافئة هو عمل غير أخلاقى من وجهة نظر المستغل وأخلاقى من وجهة نظر المستغل، كما أن خنوع من يبذل هذا العمل لهذا الاستغلال وهو غاية ما يبغيه المستغلون وهو ما يفقده بالضرورة أى طابع تعبدى أو أخلاقى.
فعمل العبد لدى مالكه، والقن لدى سيده الإقطاعى، والعامل لدى الرأسمالى، هى علاقات إنتاجية متغيرة بطبيعتها، وهدفها الوحيد هو تنظيم الإنتاج المادى، ويستحوذ على فائضها الاجتماعى الطرف الأقوى فى العلاقة، مالك العبد أو الإقطاعى أو الرأسمالى.. أما عمل المنتجين الأحرار المتعاونين فى عملية الإنتاج، فهى علاقة إنتاج أخرى تخلو من الاستغلال، إلا أنه يظل هدفها الوحيد هو نفس غاية العلاقات الأخرى (الإنتاج المادى). أما افتراض أن "عمل المسلم - اقتصاديا كان أو غير ذلك - يمكن أن يصير عبادة يثاب عليها المسلم إذا قصد بعمله وجه الله وابتغى مرضاته" (8) ، فإنه سيتحطم لو سألنا أى عامل : لماذا تعمل؟ فلابد أن تكون إجابته إشباع الحاجات المادية الضرورية لاستمراره فى الحياة، وهو ما يضطره للتنازل عن جهده وحريته ووقته مقابل هذا الإشباع.. وإلا فكيف يعبد الناس ربهم أو ينتجون فنا وعلما وفكرا وأدبا قبل أن يملئوا المعدة بالطعام؟. وهل يعيش الناس على احتياجات الروح أم أن عليهم أولا إشباع احتياجات الجسد؟ وإذا لم يكن هذا هو الواقع.. أليس من الأفضل للبشر بدلا من أن يدخلوا فى علاقات إنتاج ظالمة أن يمارسوا حياة حرة ليعبدوا ربهم إذا شاءوا، أو يمارسوا فنا أو أدبا، أو رياضة ذهنية أو بدنية، أو يشرعوا فى استكشاف الواقع من أجل متطلبات الروح ؟!! وإذا كانت عبودية العامل، وبالتالى طاعته فى العمل، هى عبودية وطاعة لله فى نفس الوقت، إلا يصيب هذه العبادة بنوع من الشرك، حتى ولو تم الالتزام بأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
ويكتب راشد الغنوشى "وللغرب نظرة للإنسان تجعل أولوية الجسد وحاجاته الغريزية على الروح ومتطلباتها التى لا تقف عند حدود الجسد والتراب، بل تتجاوزها إلى عالم الحق والخير والجمال، إلى عالم الاتصال بالمطلق" (9). ولابد هنا أن نوضح الفرق بين الاعتراف بأولوية الوجود الطبيعى أو الاجتماعى على الوعى، سواء فى تفسير هذا الواقع أو معرفته، وبين النظرة العكسية التى تقول بأولوية الوعى، وبين قضية السلوك الفردى الإنسانى : فالنظرة المادية لا تعنى أن من يتبناها يعيش فى حدود إشباع غرائزه، واحتياجات جسده، كما لا تعنى النظرة المثاليــة أن من يتبناها هو وحده الذى يشبع احتياجات روحه، وأخيرا : فلماذا يتم حصر احتياجات الروح فى الدين وحده، والاتصال بالمفهوم الدينى بالمطلق. وهل من لا دين لهم، أو من لهم عقيدة أخرى تخالف عقيدة الغنوشى فى المطلق مثل الكثير من الملحدين واللاأدريين الذين لهم عقائدهم أيضا التى تفسر المطلق وتربطهم به يقصرون حياتهم فى الغرائز واحتياجات الجسد ؟! وماذا عن الأخلاق والفن والعلم والفلسفة والفكر، ألا تشبع بدورها احتياجات الروح ؟ وهل يمكن ان يخلوا مجتمع ما أو حضارة معينة من هاتين البنيتين الاجتماعيتين : البنية التحتية وهى أسلوب الإنتاج المادى،والبنية الفوقية المكونة من نظم سياسية وقانونية وأخلاق وعلوم وفلسفات وفنون ؟ وهل يمكن أن يعيش فرد ما فى حدود غرائزه الحيوانية فحسب، حتى إذا كان شخصا مريضا نفسيا ؟.
امتدادا للنظرة المثالية، التى تنطلق من أفكار مسبقة، ليس لها قاعدة على أرض الواقع، ومنها الفرض السابق مناقشته حول الغرب المادى والشرق الروحانى، يكتب عادل حسين "إن من حصروا أنفسهم فى أمور الدنيا كان طبيعيا أن يقيموا كل شئ بمقياس ما يتحقق للفرد منهم من متع حسية حيوانية، فاستبقوا الشهوات وغرقوا فيها" (10). والسؤال المحير فعلا : ماذا ينتظر المسلم المؤمن لقاء طاعته لربه ؟ أليست هى الجنة بكل ما فيها من متع حسية حيوانية؟! وما هو وصف الجنة كما ورد فى القرآن الكريم ؟. أليست هى الفواكه والأعناب والأنهار التى مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مثلها ؟! وفى وسط هذا النعيم الحسى المقيم، سيخلد المؤمن إلى الأبد، لا يفعل من شئ سوى التمتع بما فيها من ملذات حسية، من طعام وشراب وكساء وإشباع للغرائز الجنسية، دون أدنى مجهود، فوق تمتعه بوافر من الصحة والشباب والجمال والحيوية والقوة.. وكل هذا لقاء إيمانه وطاعته وصلاته وصيامه، وحرمان نفسه من بعض هذه المتع، خلال فترة حياته القصيرة فى هذه الدنيا، وإتيانها بالطرق التى حددها كل من القرآن والسنة، وما هو المطلوب من المسلم لقاء كل هذا؟ أليس أن يعبد ربه ويطيع أوامره ويجتنب نواهيه لكى يتقى النار بما ما فيها من عذاب أبدى ؟ فما معنى هذه النغمة عن الروح والجسد التى ترددها الحركة الإسلامية؟
وهل يمكن أن يوجد مجتمع ما يمكن أن يحقق تقدما اقتصاديا فقط دون تقدم على كافة المستويات الأخرى من علم وفن وأخلاق ونظم قانونية وسياسية وفكر.. أو ليس التقدم فى هذه المجالات ما هو إلا انعكاس لتقدم الاقتصاد؟ وهل يمكن لمجتمع تضرب المجاعة أبناءه، وفى أحسن الأحوال يتضورون جوعا، وبالتالى فعليهم تكريس حياتهم للبحث عن لقمة العيش أن ينتجوا تقدما فكريا أو علميا أو أدبيا، ومن هنا فالفصل مستحيل ما بين مجالات الحياة المختلفة.
يكتب سيد قطب "إن تجارب البشر كلها تدور فى حلقة مفرغة ، وداخل هذه الحلقة لا تتعداها - حلقة التصور البشرى والتجربة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى (11). وهكذا يتحول كل التاريخ البشرى منذ أن كان البشر يعيشون فى الغابة قطعانا وحشية أشبه بالقردة إلى أن استطاعوا غزو الفضاء، وبكل ما أنجزوه خلال هذه الفترة، ماديا وفكريا، إلى حلقة مفرغة محدودة فى حدود التصور والتجربة البشريين، وكل هذه الإنجازات لم تتم إلا وفق التجربة والتصور البشريين، وهو ما يصفه سيد قطب بالجهل والنقص والضعف و الهوى، وهل يمكننا أن نزداد علما وقوة وكمالا وعدالة، إلا بتطوير مستمر لتصوراتنا القائمة على المزيد من التجربة والخطأ.. وهكذا نقترب حثيثا من المزيد من العلم والكمال والقوة والعدالة، بدلا من أن نركن إلى مفاهيم نصفها نحن بالكمال والعلم والقوة والعدالة، ونتخيلها نحن وقد بلغت الذروة فى حين لم تتجاوز حدود جماجمنا ؟!
ويكتب عادل حسين "فطالما ان المستهدف إنشاء رأسمال وطنى على وجه التحديد، فإن إيمان البشر بربهم وارتباطهم بوطنهم هو الضمان الأول لأن نحصل على نتائج تنموية وإيجابية على أرض مصر، وفى بلاد العرب والمسلمين" (12). وهكذا يتناسى أن إيمان الرأسماليين بربهم وارتباطهم بوطنهم لا يدفع لتحقيق نتائج تنموية وإيجابية لأن التقدم والتخلف لا علاقة لهما بالإيمان أو الوطنية؛ فالرأسمال لا يسعى إلا للربح، وإلا ما أصبح رأسمالا، وسواء أتى هذا الربح من أى مكان، وبأى وسيلة، بتحالفه مع الشيطان أو بولائه لله.
والمسألة أن الرأسمالى الفرد يسلك وفقا لنظام اجتماعى قائم، لم يخترعه هو، ولا سيطرة له عليه، ويضطر للسلوك وفقا لمنطق أعلى معدل للربح شاء ذلك أو لم يشاء، آمن أم لم يؤمن وأيا كانت أخلاقه. والأخلاق عموما لا شأن لها بالاقتصاد إلا من وجهة نظر صاحب "الدكان" أو الورشة، الذى يتعامل تعاملا مباشرا مع زملائه ومع زبائنه، ويكسب (أى يحصل على بركة) من كونه بشوشا مؤدبا موثوقا فى دينه وأخلاقه، ولكن هذا لا معنى له بالنسبة لشركة BTM للملابس أو جنرال موتورز، أو أى مؤسسة رأسمالية أخرى.
المثالية فى الماركسية اللينينية
تفاخر الحركات الماركسية بأنها الحركات السياسية الوحيدة المستندة على التفسير "المادى" أو "العلمى" لتاريخ المجتمع البشرى،وذلك كما أكتشفه كل من ماركس وإنجلز،وبرغم أن التلاميذ قد خرجوا عن هذا التفسير نظريا وعمليا بدءا من لينين، ومن أتوا من بعده فى إطار مدرسته الثورية، مثل ماو وتروتسكى وجيفارا وستالين وتيتو وغيرهم،إلا أنهم تشبثوا بتبنيهم الماركسية المضاف إليها اللينينية بما تمثله من أفكار رئيسية هى خروج واضح عن هذا التفسير المادى للتاريخ المرفوع على سبيل التميمة،فأصبح من الممكن وفق هذه الأفكار بناء الاشتراكية على بنية اجتماعية غير متطورة بما يكفى لبناءها،إن لم تكن متخلفة تماما،بما يخالف التفسير المادى للتاريخ فتحدثوا عن النمو اللارأسمالى فى البلدان التى لم تنضج بها الرأسمالية بعد اعتمادا على الإرادة الثورية ونفيا للضرورة الاجتماعية وراء تطور المجتمعات.كما أن هذا البناء لم يصبح عملية ناتجة عن الصراع الطبقى بقدر ما أصبح يعتمد على نضال عصبة مؤمنة ثورية تحمل الاشتراكية للطبقة العاملة من الخارج هذا فى أفضل الأحوال . كما تحمل العصبة المؤمنة الإسلامية الإسلام إلى العالم . فالماركسية كونها نظرية علمية ينتجها ويستخدمها المثقفون بالضرورة ،لابد وأن تكون مستقلة نسبيا عن الظواهر الاجتماعية التى ترصدها ،ومنها الطبقة العاملة نفسها ،و التى لا يكون دورها بالطبع إنتاج النظريات العلمية ,وإن كانت هذه النظريات تعبر عن وضعها الاجتماعى ،فأن ما يحرك الطبقات ليست النظريات ،وأنما المصالح الطبقية.ومن الملاحظ عبر التجربة التاريخية أن الطبقة العاملة فى أكثر مواقعها كثافة وتطورا وتقدما لم تكن ثورية إلا فى لحظات تاريخية معينة، وأنها رغم الدعاية الاشتراكية الثورية المتاحة بعلانية تتمترس فى مواقعها الإصلاحية والنقابية مما يشير إلى أن التصور الذى يحمله الثوريون المؤمنون عن مصالحها، لا يعبر بالضرورة عما تراه الطبقة العاملة من تصور لمصالحها ،ومن ثم فلم تصادف المدرسة اللينينية وفروعها نجاحا جماهيريا ملحوظا ومع استثناءات محدودة إلا فى البلدان المتخلفة حيث الطبقة العاملة ضعيفة ومتخلفة فى حين تمركزت الحركات الاشتراكية الإصلاحية والديمقراطية فى البلدان المتقدمة حيث الطبقة العاملة قوية ومتقدمة .وحيث أن القطاعات الحية سياسيا هى قطاعات المثقفين الذين وجد بعضهم فى الماركسية أداة نظرية تبرر طموحهم فى قيادة التطور الاجتماعى من خلال سلطتهم عبر جهاز الدولة مستندين دعائيا إلى تمثيلهم للطبقة العاملة التى أضفوا عليها تصورات خرافية فكانت الماركسية اللينينية هى أيديولوجية بعض قطاعات المثقفين .
ومن ثم فقد كتب فؤاد مرسى"نحن نعلم إن العمال هم الطبقة الوحيدة الثورية إلى النهاية .وأنهم أصلح طبقة لقيادة المجتمع،ولكن بشرط أن يكونوا ماركسيين،فإن لم يكونوا ماركسيين لم يرتفع وعيهم عن مستوى النقابية"(13). أى أن ثورية الطبقة العاملة مشروطة بتبنيها نظرية علمية أنتجها مثقفون يعبرون عنها ويدعون تمثيلها. فثوريتها إذن لا تستند فى هذه الحالة على وضعها الاجتماعى كما يشير بذلك التفسير المادى ،إنما للإيمان بنظرية يحملها لها من خارجها المثقفون الثوريون الذين اكتشفوا أن التحرك الاجتماعى للطبقة العاملة ذو أفق محدود بالنقابية والإصلاحية ،مما يتعارض مع إيمانهم الخرافى بالنظرية.والتى تمسكوا به مع تحوير النظرية لتناسب هذا الإيمان.والمشكلة أنهم لم يكتشفوا أنه ليست الماركسية فقط هى التى يجب أن تحمل من الخارج_ كالوحى الإلهي_ للطبقة العاملة، وإنما أيضا الاشتراكية التى من المفترض أنها تعبير مباشر عن مصالح الطبقة العاملة وآمالها.ومن ثم فأن علمهم بثورية الطبقة العاملة لم يأت من دراسة الواقع وفهمه بل من الإيمان بالنظرية
ولذلك يكتب "والوعى الاشتراكى لا يأتى إلا من خارج الطبقة العاملة أما ترك العمال وشأنهم فلن يصل لغير الوعى المهنى أو الطبقى أو النقابى"(14).أى أن الإفراز الطبيعى لوضعية الطبقة العاملة اجتماعيا هو الوعى النقابى وليس الوعى الاشتراكى ومن ثم فلا علاقة للطبقة العاملة بالاشتراكية واقعيا.
وقد ورد تحت عنوان برنامج الحزب الشيوعى المصرى(الراية) الذى كتبه فؤاد مرسى"الوقوف فى معسكر الشعوب الذى يضم جميع الشعوب الحرة ، والشعوب المستعمرة التى تناضل عن حريتها واستقلالها والراغبة فى السلام والديمقراطية"(15) .
وهكذا يستند برنامج حزب ماركسى على عبارات عامة مطلقة لا تعبر عن تحليل طبقى واضح كما تفترض الماركسية ،فالشعب هو مجموع سكان إقليم دولة معينة بما ينقسم إليه من شرائح وطبقات اجتماعية فإذا كان معسكر الشعوب يضم كل هؤلاء فمن يضم المعسكر الآخر إذن سكان المريخ أم ساقطى الجنسية من من لا ينتمون لدولة معينة أم الحكومات التى تعبر بالضرورة ووفقا للماركسية نفسها عن مصالح قطاعات من الشعب الذى تحكمه ؟.إلا أنه يعتبر أن معسكره يضم الشعوب الحرة ،وليست الشعوب غير الحرة،ويضم الشعوب الخاضعة للاستعمار وليست الشعوب التى تستعمر حكوماتها الشعوب الأخرى متناسيا ما علمته له الماركسية من أن الشعوب تتكون من طبقات متصارعة لا يمكن وضعها بأى حال فى معسكر واحد إلا على حساب الصراع الطبقى.وامتدادا لتلك النظرة المثالية للعالم كان الحزب الشيوعى المصرى (الراية) الذى أسسه فؤاد مرسى فى 1949يصدر دعايته بعبارات مثل عاش الرفيق خالد (فؤاد مرسى) ألف عام وشعار مثل
"عاش خالق نظرية حزبنا وموجة رايتنا خالد ..العظيم"(16).بما توحى به من تمجيد للنظرية وليس الواقع، والفرد وليس المجموع كما تفترض الماركسية.
ويقدم د.إسماعيل صبرى عبد الله تعريفه للناصرية"الناصرية قبل كل شىء ممارسة سياسية تحكمها أهداف ومثل عليا كما أنها تفرز من وقت لآخر وثائق تأصيلية معرضة عن بناء مذهب متكامل ويضيف مفسرا تعريفه كونها غير حبيسة نصوص فالممارسة تحتمل إمكان القراءة الجديدة،الممارسة لم تكن فى جوهرها آنية خالصة بل كان يحكمها وتحركها أهداف ومثل عليا لها طابع الاستقرار وطول البقاء"(17).
وهذا التعريف للناصرية كحركة سياسية لا يستند لتحليل طبقى أو اجتماعى لها بقدر ما يصفها بكونها ممارسة تستند لأهداف ومثل عليا منبتة الصلة بجذورها الاجتماعية،ليس ذلك فحسب فأن هذه المثل لها طابع الاستقرار وطول البقاء.مهما تغير الواقع الاجتماعى الذى أفرزها.
وهكذا نرى كيف تحولت المادية الماركسية إلى خرافة مثالية على يد الماركسيين.
الإيمان القومى
تستند الحركات القومية على تصور مثالى هو الهوية القومية ومن ثم يمتلئ خطابها ويستند على مفاهيم إيمانية تغلب الإيمان على المعرفة.ذلك الإيمان الذى لا يستند على حقائق الواقع بل يسبق تلك الحقائق ويهزأ بها،هذا الإيمان هو الذى يخلق الحقيقة ويبصرنا بها وليس العكس
يكتب ميشيل عفلق"وكأنى بهم يعلقون إيمانهم بالقومية على درجة التعريف من الصحة والقوة .مع أن الإيمان يجب أن يسبق كل معرفة ويهزأ بأى تعريف بل أنه هو الذى يبعث على المعرفة ويضىء طريقها"(18).ومن ثم يتعامل العقل القومى شأنه شأن أى عقل دينى بمنطق التكفير لكل من يخالفه الإيمان والعقيدة.
ومن ثم يكتب جمال عبد الناصر"أن القومية العربية هى الأساس الأول للوحدة وحقيقة القومية العربية أنها عقيدة وتحرير وحركة فهى عقيدة كل من خرج عليها كان عاقا لعروبته"(19).
وكما يضع الإسلاميون الإيمان كشرط للنهوض يضع القوميون القومية بديلا عن الديانة أو معادل لها،ويجعلون الإيمان بها شرطا للنهوض.
"فيتساءل فاخورى:كيف ينهض العرب ؟..ويرى الجواب فى أن تكون للأمة العربية غاية كمالية أو أيديولوجية عامة.ويقول لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربى ديانة لهم"(20).وبالطبع لا نفهم ما هو المبدأ العربى الذى يمكن أن يصبح ديانة،وهل من الممكن أن يؤدى كافة وظائف الدين الاجتماعية؟ نستطيع أن نقول نعم جزئيا من حيث أن القومية قد تكون دافع للنضال والعمل والاستشهاد فى سبيلها أما باقى الوظائف فهو ما يحتاج إلى رؤية فكرية للعالم والإنسان لا توفره العقيدة القومية.
ولذلك يكتب ساطع الحصرى"إن مبدأ العروبة وبتعبير أدق مبدأ العروبة أولا يعنى أن اعتناقه يتطلب منا أمورا كثيرة أولا التحرر من جميع الآراء والنزعات التى تخالف المبدأ المذكور ثم تقييم الأمور تقييما جديدا ينتهى بنا إلى تكوين سلم قيم جديد يختلف عما كنا ألفناه سابقا"(21).
وهو هنا يضع القومية موضع الدين وليس ذلك فحسب بل إنه شأن أى متطرف دينيا يضع العقيدة القومية كعنصر حاكم يحدد ما يمكن قبوله من أفكار أو رفضه،ويحدد سلم القيم الذى يرشد الإنسان فى سلوكه وتفكيره، ويطالبنا بالتحرر من كل ما يخالف ذلك من أفكار .
نتيجة:
يظن البعض أنهم أحرار فى هذا العالم.. وأنهم لقادرين على تحديد ما يريدون وعلى فعل ما يريدون.. فما أقرب هذا للوهم الجميل؛ فنحن نأتى إلى العالم صفر اليدين إلا من رغبات غريزية وضعت فينا.. ومورثات بيولوجية لا دخل لنا فى اختيارها لا تحدد ملامحنا الجسدية فحسب بل والكثير من سلوكياتنا وميولنا النفسية.. ولأسر ولمجتمعات لم نسأل إذا ما كنا نرغب فى الإتيان منها أو من سواها.. نأتى فى مكان وزمان حملنا قسرا إليهما.. نستقبل العالم بلا لغة وبلا أفكار وبلا معتقدات وبلا معلومات.. ولا نملك إلا أن نتلقى كل هذا من الخارج.. فتتشكل عقائدنا وثقافتنا بل وحتى أذواقنا الجمالية ومعاييرنا الأخلاقية.
إن عقولنا تبرمج اجتماعيا من خلال أجهزة التعليم والثقافة والإعلام ومن خلال الأسرة والأصدقاء.. وتظل قدرتنا على انتقاد ما برمجنا به والشك فيه والتمرد عليه محدودة، ومقموعة اجتماعيا.. أى أن كل ما وصل إليه البشر من تطور ومن تقدم ما تحقق لهم إلا بسبب هذه القدرة المحدودة على الشك والنقد والتمرد.. إلا أنهم فى النهاية يظلون أسرى الضرورة المادية.
فالشك فى منطق أرسطو ونظريات بطليموس أدى للنهضة العلمية الحديثة، ونقد نيوتن أدى لفهم آخر للكون أكثر دقة، والشك فى الحق الإلهى للملوك ونقد الامتيازات الإقطاعية والتمرد على السلطة الاستبدادية أدى للحضارة الرأسمالية الأكثر تطورا، إلا أن كل هذا التقدم ما كان يمكن أن يتم إلا بتوافق الشك والنقد والتمرد مع ضرورة التقدم الاجتماعى الكامنة وراء التطور الاجتماعى.
المصادر
(1) عادل حسين، الإسلام دين وحضارة، ومشروع للمستقبل-مصدر سابق صـ8.
2. المصدر نفسه، صـ81.
3. الشيخ صلاح أبو إسماعيل – الشهادة- شهادة الشيخ صلاح قضية تنظيم الجهاد-دار الاعتصام-ص32.
(4) المصدر نفسه-ص33.
4. د. عبد الهادى النجار: "الإسلام والاقتصاد"-مصدر سابق- صـ40.
(6)المصدر نفسه ، صـ22.
(7)المصدر نفسه، صـ14.
(8)المصدر نفسه، صـ14.
(9)راشد الغنوشى "طريقنا إلى الحضارة" صـ24.
(10) عادل حسين.الإسلام دين وحضارة-مصدر سابق-
(11)سيد قطب، المستقبل لهذا الدين، صـ5.
(12) عادل حسين: "المرأة العربية – نظرة مستقبلية" – مجلة الحوار الفصلية صـ 38، 39. (13) د.فؤاد مرسى-تطور الرأسمالية وكفاح الطبقات فى مصر-كتابات المصرى الجديد-المكتبة الاشتراكية(1)-ص87.
(14) المصدر نفسه-ص76.
(15) المصدر نفسه-ص112.
(16) د. رفعت السعيد-منظمات اليسار المصرى-1950-1957-ط ا-القاهرة-سنة1983-ص357.
(17) سيد زهران –الناصرية-مصدر سابق-ص41.
(18) ميشيل عفلق-فى سبيل البعث-مصدر سابق-ص111.
(19) جمال عبد الناصر-شروق مبدأ الناصرية-مصدر سابق-ص78.
(20) د.عبد العزيز الدورى- مصدر سابق-ص225.
(21) ساطع الحصرى-الإقليمية جذورها وأسبابها-مصدر سابق-ص6.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية