الأربعاء، 30 أبريل 2008

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى المقدمة

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
المقدمة
يثار اليوم على الساحة السياسية عموما جدل حاد حول التنوير،فى ظل التهديد الذى تمثله الحركة الإسلامية فى منطقتنا لكل ما تم من تحديث وعلمنة خلال المائتى عام الماضية ،مبشرة بالمزيد من التدهور والتخلف،مهددة وجود كل التيارات الديمقراطية والعلمانية ذاتها وليس اليسار فحسب.. ذلك لو شاءت لها الظروف أن تصل إلى السلطة إلا أن الحقيقة التى يتحدث عنها الكتاب، ويرصدها عبر البحث هى: أن التنوير الحقيقى لا يجب أن يتم فقط فى مواجهة الإسلام السياسى فحسب بقدر ما يجب أن يتم أيضا ،وعلى نفس المستوى من الأهمية فى مواجهة القوى السياسية الرئيسية فى مجتمعنا "القوميين بتنويعاتهم المختلفة من أنصار الإقليمية مثل "المصرية" إلى أنصار "العربية"،سواء أكانوا فى المعارضة أم فى الحكم. والماركسيين اللينينيين بفرقهم المختلفة "الستالينين والماويين والتروتسكيين"، والليبراليين كما تجلوا فى الواقع ،فى الحكم أو فى المعارضة، والإسلاميين "معتدلين أو متطرفين"، وفى مواجهة الحركات الاجتماعية والثقافية المختلفة ذلك إن شئنا تحريرا حقيقيا للعقل الاجتماعى من قيوده ،وإحداث تنوير فعال اجتماعيا.
وما بين التنوير السلطوى المحافظ الذى يمارسه البعض، ويميل إلى "التوفيقية" و"التلفيقية"، وبين رفض فكرة التنوير ذاتها باعتبارها مهمة برجوازية الطابع..تضيع الحقيقة الجوهرية،وهى ضرورة التنوير من أجل أحداث أى تغيير اجتماعى . ذلك لأن التغيير الاجتماعى ابن ظروف موضوعية مستقلة نسبيا عن أى إرادة أو وعى، بما فى ذلك وعى وإرادة الطبقة التى من مصلحتها التغيير - إلا إنه أيضا وفى نفس الوقت من صنع هذه الطبقات والفئات الواعية، بما تريد أن تغيره ،وبالوسائل التى تستطيع بها هذا التغيير.
ومن هنا فإن فعل التغيير مرهون بهذا الوعى ، المرهون بدوره بالظروف الاجتماعية ؛ إذ هو مجرد انعكاس لها : فجماهير هذه الطبقات والفئات لا تتحرك للتغيير وفق الضرورة الكامنة فى الواقع فحسب، ولكنها تتحرك وفق فكرة ما، مرتبطة فى ذلك بفهمها لنفسها وللعالم الذى تسعى لتغييره، كما أن هذه الفكرة تنشأ فى ظل ظروف اجتماعية بعينها، ويظل نجاحها مرهونا فحسب بتوافق هذه الفكرة مع الضرورات الحاكمة للواقع وتغيراته.
كذلك هو الأمر فى علاقة الإنسان بالطبيعة، حيث استطاع الإنسان تحويل ما فى الطبيعة إلى مالا حصر له من مواد مصنعة، بل وإحداث شتى التغييرات بها، عبر رحلة طويلة امتدت خلال تاريخه بأسره، وكان شرط نجاحه دائما هو فهم الضرورات الكامنة فى الطبيعة، والوسائل التى يمكن أن يحدث بها تأثيره على هذه الأشياء لتتحول إلى ما يريد، وهذا أمر مشروط بدرجة التطور الاجتماعى التى وصل إليها البشر فى مرحلة تاريخية معينة.. وعبر هذا التاريخ الطويل تراكمت المعلومات والخبرات عبر ملايين السنين، والتى حصلها الإنسان عبر الاحتكاك العملى بينه وبين الطبيعة من حوله، وعبر الملاحظة والتجربة وصل إلى ما وصل إليه من تقدم مذهل فى علاقته بالطبيعة. ومن هنا فإننا إذا أردنا إحداث تغيير فى المجتمع البشرى - على اعتبار أنه أيضا شئ كأشياء الطبيعة، وإن كان يختلف عنها فى بعض الخصائص - فإننا لابد أن نفهم الضرورات الكامنة فى طبيعة المجتمع، والقوانين التى تحكم تغيراته وتحولاته، وهذه هى مهمة العلم الاجتماعى.. ثم تأتى الخطوة الثانية،وهى اكتساب الطبقات والفئات التقدمية التى من مصلحتها التغيير لهذا العلم؛ كى تستطيع أن تحقق فكرتها : التحرر من القهر والاستغلال الواقعين عليها من الطبقات والفئات الرجعية التى تسعى لاستمرار ذلك القهر وذاك الاستغلال، ومن ثم يكون دورها تشويه الفهم الصحيح للمجتمع.. من خلال علم زائف تصنعه وتروج له.
ولما كانت الأسطورة من حيث هى أحد أشكال الوعى الاجتماعى تتضمن رؤية معينة وفهما خاصا للعالم بما فيه المجتمع البشرى ، فإنها تصبح الأساس للعديد من حركات التغيير الاجتماعى عبر التاريخ البشرى ، ولنفس السبب تتكون حركات اجتماعية تقوم على أساس فهم علمى للمجتمع ، هو بدوره أحد أشكال الوعى الاجتماعى ، يتضمن رؤية وفهما خاصا للعالم بما فيه المجتمع البشرى. وقد قامت حركات اشتراكية أسطورية، وحركات اشتراكية علمية ، وكلتاهما تهدفان للتغيير الاجتماعى ، إلا أن كلا منهما كانت تقوم على أساس فهمها الخاص للعالم ، ورؤيتها لتغييره ، وقد استخدمتا من أجل ذلك منهجين مختلفين فى التفكير والتغيير الاجتماعى، يتلاءم كل منهما مع رؤية كل منهما للعالم .
والأسطورة التى أقصدها هنا ليست فقط الأسطورة القائمة والمستندة على فكرة غيبية ما ، ولكنها كل بناء فكرى قائم على أساس منهج معين للتفكير ، يتميز بعدد من الخصائص، حتى إن لم يكن فى بنائها الفكرى أى أفكار غيبية، بل وحتى إن اتخذت موقفا معاديا للغيبية.
ويقف العلم على الطرف النقيض ، لاستناده أساسا على فهم الواقع بكل أشيائه ومظاهره وعملياته المستقلة عن أى وعى وبصرف النظر عن أى غيبيات ،على المنهج العلمى فى التفكير المتميز بعدد من الخصائص التى استقرت عليها الخبرة البشرية.
والإسلام السياسى هو حركة سياسية للتغيير الاجتماعى تقوم على أساس رؤية معينة للدين والعالم .تستند فى قوتها بالإضافة إلى ظروف اجتماعية وتاريخية معينة - إلى أن المنهج الفكرى السائد (حتى بالنسبة للكثير من العلمانيين والماركسيين ) هو منهج أسطورى بكل خصائص هذا المنهج المناقضة للمنهج العلمى، و من ثم فإن جزءا من مواجهة هذه الحركات يكمن فى تشريح ونقد المنهج الأسطورى ، ليس فحسب فيما يتعلق بالحركة الإسلامية فحسب إنما فيما يتعلق بكل الحركات السياسية والاجتماعية التى تسعى إلى تغيير المجتمع البشرى على غير أساس من العلم.
وتقوم عملية تشريح ونقد خصائص المنهج الأسطورى على البحث عن الجذور المنهجية والفلسفية داخل الخطابات السياسية للقوى السياسية المختلفة ، من أين تنطلق هذا الخطابات فى حكمها على الأشياء ؟ وما هى حدود التغييرات الاجتماعية التى تبشر به ؟
إن أهم ما يهدف إليه الكتاب لا يمكن اختصاره فى مجرد المواجهة السياسية مع تلك القوى ، فهو – بالأساس – محاولة لتحرير العقل من قيود المنهج الأسطورى فى التفكير، لتتفتح لهذا العقل رؤية أخرى تعتمد على منهج آخر.. وهذا شرط جوهرى لفهم العالم على النحو الصحيح ، ومن ثم اكتساب القدرة الفعلية على تغييره.
وسعيا لإيضاح الرؤية سالفة الذكر فإنه كان على أن أتناول خصائص المنهج الأسطورى بمقارنتها بنقائضها من خصائص المنهج العلمى ، وكان ذلك فى تسعة فصول ، بحيث يتناول كل فصل خصيصة من هذه الخصائص ونقيضتها، المترابطة والمتسلسلة بشكل منطقى، على النحو التالى : النقدية والنقلية ، استيعاب الآخر و نفى الآخر ،التطور و التجمد ،الموضوعية و الذاتية ،الواقعية و الرومانسية ،التاريخية و اللاتاريخية ،المادية و المثالية، النسبية و الإطلاقية ،التقدمية و المحافظة.
فى هذا الكتاب دعوة ضمنية لتأسيس علم اجتماعى و إنسانى جديد قادر على فهم أفضل للواقع البشرى، وهو الفهم الذى لن يكون إلا بامتزاجه بممارسة هذا التغيير فعلا، كما أنه لن يكون إلا عبر منهج علمى بكل الخصائص العامة للمنهج العلمى من موضوعية وواقعية..الخ ..فمن الملاحظ أن العلوم الطبيعية قد تطورت تطورا هائلا بالنسبة للعلوم الاجتماعية التى لم تتخلص بعد فى الكثير من فروعها ونظرياتها من الخصائص المناقضة للعلم..
قد مر الكثير من الوقت وأنا أبحث عن مصطلح مناقض لمصطلح العلم ،حتى اهتديت فى النهاية إلى مصطلح "الأسطورة" كمجرد اسم لهذا النقيض الذى لا يجب المعانى الأخرى للكلمة ولذلك لا يجوز الخلط بين المنهج الأسطورى فى التفكير، وما يتم إنتاجه من تراث فنى وأدبى وفلكلورى استنادا إلى الأسطورة ، فالأسطورة هنا تعنى الأفكار التى يصنعها العقل البشرى لتفسير وفهم وتغيير الواقع عبر المنهج الأسطورى المناقض للعلم ومنهجه. ولأن الأساطير السياسية الخيالية هى عالم من المثل والصور المثالية فإنها تشكل دوما مشروعا للهندسة الاجتماعية ، يحاول من يتبناها أن يتعامل مع المجتمع البشرى كما يتعامل النجار مع الخشب ، ولما كان النجار لا يتحاور مع الخشب وأدوات عمله ، فإن "المهندسين" الاجتماعيين يتعاملون مع البشر بنفس مستوى الاستبداد الذى يتعامل به الصانع مع ما يصنعه ، فضلا عن أنهم يظنون دائما أنهم يحملون الحل النهائى لكل مشاكل البشرية ، وأن فى أفكارهم تتلخص الحكمة النهائية، وبالتالى فعلى الجميع أن يخضعوا لهم باعتبارهم غير عارفين لمصلحتهم الحقيقية التى يعرفها فحسب هؤلاء المهندسون بما يروجون له من أساطير خيالية.
حاولت أن يشمل هذا الكتاب على تطبيقات عملية لخصائص المنهج الأسطورى : ليس فحسب على خطابات القوى السياسية المختلفة التى أرى أنها قد لا تختلف كثيرا عن الحركة الإسلامية فى اتصافها بهذه الخصائص ، وإنما أيضا على ما نمارسه فى حياتنا اليومية أفرادا وجماعات فى العمل ، والأسرة ، ومعاهد الدرس ، والمنتديات الاجتماعية والثقافية ، وفى الطرق العامة ، سواء فى سلوكياتنا أو طرق تفكيرنا ، وفى علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
وأجزم أنا نفسى - برغم ترصدى لخصائص المنهج الأسطورى وما تشكله من قيود على العقل - أننى قد أقع أحيانا فى النقلية ، و أحيانا قد أسلك وأفكر وفق بواعثى الذاتية أو على نحو مثالى، وهذا وإن كان عيبا من زاوية ما ، إلا أنه عيب شائع للغاية ، فالطريقة التى نبرمج بها اجتماعيا عبر الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام تجعلنا نفكر ونسلك على هذا النحو أو ذاك تلقائيا ، ولا ننتبه لما وقعنا فيه من خطأ إلا إذا نبهنا أحد إليه ، ولكن علينا أن نكون أمناء مع أنفسنا لكى نعترف بهذا الخطأ دون مكابرة أو تعصب.
ومن هنا فإن لهذا الكتاب أيضا هدفا ضمنيا لم يعلن عنه حتى الآن ، وهذا الهدف هو : محاولة البحث عن طريقة تحرير
العقل البشرى من قيوده ليس فحسب فى الحياة السياسية، وإنما فى شتى مجالات الحياة الإنسانية ؛ فيسهل علينا حين نعرف نوعية القيود التى نرصف فيها أن نكسرها ، وأن نتحرر منها.
وإذا كان العصاب هو ذلك المرض النفسى الذى يعنى الوهم الذى يسيطر على المريض ، فأنى ألاحظ ومع تجاوز حدود تعريف المرض النفسى أن الغالبية الساحقة من البشر وعلى مدى تاريخهم المكتوب عصابيون على نحو ما ، إذ تسيطر على أفكارهم وسلوكياتهم الأوهام : ففى ظل واقع أقسى من أن يتلاءموا معه وأمنع من أن يغيروه ، وفى ظل ظروف أصعب من أن يتجاوزوها.. تجدهم يهربون لعالم الوهم الجميل.
ولن يتحرر البشر من أوهامهم العصابية إلا حين يسيطرون على واقعهم وظروف حياتهم.. إلا حين يتحررون من القهر والاستغلال والاغتراب. إلا إذا آمنوا بأن البشر هم صانعوا تاريخهم، وأنهم لقادرين بشرط أن يفهموا الضرورات التى تحكم الواقع.. هذا الفهم الذى لن يأتى إلا عبر استخدام المنهج العلمى فى البحث والتفكير ، أى : عبر النقد العلمى لكل من الواقع والفكر، وعلى نحو موضوعى .
وأخيرا فأنى لاحظت عبر تأمل البحث .أن التمسك بالمنهج العلمى يصلح كفلسفة للحياة فى السلوك الإنسانى وطريقة التفكير، على المستويين الفردى والجماعى ،تحقق إشباع الاحتياج الإنسانى لمثل هذا النوع من الفلسفة،الذى سيظل ضروريا مهما تغيرت الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية،لارتباط هذا الاحتياج بالنوع الإنسانى فى حد ذاته. فسيظل البشر إزاء كل: من الموت والمرض والفشل والرغبات المكبوتة والآمال المحبطة والخوف والجهل والدهشة ،أسرى نوعهم الحيوانى، اللهم إلا إذا تغيرت هذه الطبيعة.ومن ثم فسيظلون فى احتياج دائم لفلسفة من فلسفات الحياة تعينهم على المقاومة والتجاوز ليس عبر الأساطير والأوهام العصابية .وإنما عبر فهم علمى للحياة الإنسانية.
وأخيرا يجب على أن أشير إلى أن هذه الطبعة الموسعة والمنقحة التى بين يدى القارىْ هى تطوير جذرى للطبعة الأولى التى اقتصرت تطبيقاتها على الإسلام السياسى بالأساس.وقد شملت التغيرات كل فصول الكتاب والمقدمة التى أضيفت لها خاتمة الطبعة الأولى كما أضيفت خاتمة جديدة و أضيف ثبت بالمصادر والمراجع الذى أغفل فى الطبعة الأولى.وقد أدى ذلك إلى مضاعفة حجم الكتاب تقريبا.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية