الأربعاء، 30 أبريل 2008

التطور والتجمد

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
التطور والتجمد
ماذا يمكن أن نتوقع من الطريقة النقلية التى تتمسك بمنظومة من الأفكار، لا تقبل لها أن تتأثر بغيرها من المنظومات، وبالتالى فهى تمتنع عن التعرف الحقيقى على غير هذه الأفكار التى تتمسك بها لمجرد أنها منقولة إليها من سلف ما تكن له التقديس، دون باقى الأسلاف؟‍! فى هذه الحالة من النفى للآخر التى أشرنا إليها سابقا تتجمد الطريقة النقلية بما تحمله من أفكار، وفى حين أن الواقع هو تيار لا ينقطع من التغير والحركة والتطور، فكل ما حولنا من أشياء وعمليات بين الأشياء ومظاهر للأشياء، التى تكون الطبيعة، فى حالة حركة مستمرة، لا توجد إلا معها وبها.. وكذلك مرت الإنسانية بالعديد من أساليب الإنتاج، من البدائية إلى الرأسمالية، وما بينهما من أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية، وعرفت البشرية مالا حصر له من المنظومات الفكرية فى حركة متتابعة من النشوء والتطور والفناء، نظم قانونية وسياسية، ودول وحكومات، وفنون وآداب وعلوم، وعادات وتقاليد ولغات.. وإزاء هذه الحركة تتصلب العقليات النقلية، وتصطدم بالجديد، فما تلبث أن تتحطم، ليمر على حطامها الجديد.
فحيث يتغير الواقع لابد و أن تتغير الأفكار، التى هى انعكاس بصورة ما له، فإما أن نوقف الواقع عن التغير، فتتجمد الأفكار، وهو مالا يمكن أن يحدث، أو أن نتبنى أفكارا ذات مرونة كافية تسمح بغربلة عناصر الفكر الإنسانى وتطويرها، لتتناسب مع الوقائع الجديدة ؛ فتغيرات الواقع هى النيران التى بفضلها تتغير الأفكار.
يعتمد الفكر النقلى على التسليم المطلق بمقدسات معينة، ونصوص مرجعية، وقيم ثابتة لا يجوز الخروج أو الانحراف عنها ولو قيد أنملة، حيث يمثل هذا الخروج وذاك الانحراف خروجا عن المنقول الذى يبنى على أساسه هذا الفكر. ولما كنا قد عرفنا من الفقرة السابقة حقيقة تغير الواقع، وبالتالى حتمية تغير الأفكار فإننا لابد أن نستنتج الطابع المتناقض بين جمود المنقول، وضرورة تطور الحركة السياسية القائمة على أساس تقديس المنقول والنص.
فالجمود هو مجرد خطاب فكرى، لفكر هو فى حقيقته متغير وليس جامدا بأى حال، فبالنسبة للإسلام السياسى - على سبيل المثال - نلاحظ أنه منذ رشيد رضا إلى حسن البنا إلى سيد قطب إلى محمد عبد السلام فرج، هناك تطور، وهناك مشروع سياسى يخص الواقع المعاصر، ولكن المسألة أن هذا الفكر ينطلق من فكرة الجمود، بمعنى أنه يقنع أنصاره بلى الواقع وفقا لنص يراه هو، ويرى تفسيره له جامدا، فى حين أن الأمر ليس كذلك.
فمنذ فترة طويلة تنهال علينا تلال من الكتابات التى تنتسب لما يسمى بالاقتصاد الإسلامى والذى يفهم منها فى وضوح أن جماعات الإسلام السياسى لا تطرح أشكالا مختلفة لعلاقات الإنتاج عن علاقات الإنتاج الرأسمالية - وإن كانوا لا يستخدمون مصطلحات الرأسمالية، بل يراوغون ويموهون حقيقتهم بأقنعة يسهل اختراقها بالنقد - فضلا عن أن الجمود لا يأتى من هذا الخداع الذى يسهل كشفه، وإنما من ربط جوهر النظام العصرى (أى الرأسمالية) بالدين، ولما كانت النظم الاقتصادية الاجتماعية متغيرة عبر الزمن والدين ثابت بحكم قداسته على الأقل لدى المؤمنين به، فإن هذا الربط يضفى هالة من القداسة والثبات على النظام الرٍأسمالى، ومن ثم الجمود الذى يفهم على أنه تقديس للوضع الراهن أمام تطورات المستقبل .فربط الرأسمالية بالإسلام يعنى تخليد الرأسمالية طالما بقى الإسلام.
فهذا الجمود هو أثر ارتباط الحركة السياسية الدينية بالدين، إلا أنه ليس واقعها الفعلى، فالسعودية بالرغم من نظامها السياسى الذى ينتمى شكليا للقرون الوسطى، يندمج اقتصادها تماما بالاقتصاد الرأسمالى العالمى، ليس فحسب كنوع من العلاقات بين اقتصادين، ولكن اندماج الجزء بالكل، حيث علاقات الإنتاج الرأسمالية بكل ما تعنيه من انتزاع الفائض الاجتماعى من العمل المأجور لصالح الرأسماليين ملاك وسائل الإنتاج أو المسيطرين عليها من البيروقراطيين.
إن التناقض الذى يعانيه الإسلام السياسى، بين جموده فى بعض المظاهر والأيديولوجية، وبين كونه حركة تغيير سياسية واجتماعية تعبر عن طبقات اجتماعية معاصرة فى صراعات معاصرة ،هو الذى يؤدى بها إلى الانقسام بين جماعات متطرفة لا أمل لها فى السلطة : كالتكفير والهجرة حيث تميل إلى الجمود، وجماعات معتدلة مهيأة أكثر للسلطة تتميز بالمرونة الكافية، التى تجعلها أكثر موائمة لمتطلبات العصر الحديث، كالإخوان المسلمين. فالأصولية لدى هؤلاء ليست عودة للمجتمع الماضى إلا ظاهريا، وهى الخدعة التى سنتعرف على ملامحها عبر الكتاب كله.
ويمكننا أن نعرف الحقيقة الرأسمالية للنظام الاقتصادى الإسلامى كما يلى :
الرأسمالية هى شكل علاقة الإنتاج التى يقوم فيها من يسيطرون على وسائل الإنتاج بتحقيق أرباحهم من خلال شراء قوة عمل العمال مقابل أجور هى أقل فى قيمتها من قيمة السلع التى ينتجونها، ومن هذه الفروق تتحقق أرباح هؤلاء الرأسماليين، وهى العلاقة السائدة الآن فى كل بقاع الأرض.. إلا أن الإسلام السياسى يزعم أنه يقدم نظاما مختلفا، ويحدد د. عبد الحميد الغزالى خصائص هذا النظام فيما يلى :
1- أهمية دافع الربح فى تسيير النشاط اٌلاقتصادى، ولكن بمفهوم وضوابط إسلامية محددة.
2- أهمية نظام السوق وميكانيكية الأثمان بضوابطه الإسلامية-السوق التعاونية الإسلامية،و الأثمان"العادلة".
3- مركز وأهمية "العمل" فى هذا النظام، واقترانه بالإيمان.
4- الحرص على الإنفاق بشعبه الثلاث:الاستهلاكي والاستثمارى والصدقى،على أساس أن الأنفاق هو جوهر التنمية المستمرة.
5- تحريم الربا..كركن أساسى فى هذا النظام منعا للاستغلال،وضمان لتوافر مجتمع منتجين باستمرار.
6- توافر صيغ استثمار حقيقى للأموال عن طريق تضافرالعمل ورأس المال.
7- تحريم الاحتكار والاكتناز.وكل الممارسات الخاطئة فى النشاط الاقتصادى ، من غش وتدليس … الخ،وذلك ضمان السوق إسلامية "كاملة".
8- نظام مالى متكامل مركزه الزكاة يشكل دعامة أساسية لدور محدد للدولة فى توجيه وترشيد النشاط الاقتصادى.
9- تكافل اجتماعى بناء،يعمل على توفير "تمام الكفاية" لكل فرد من أفراد المجتمع،ويدفع الجميع إلى الاشتراك الفعلى فى النشاط الاقتصادى،تعميرا للأرض.
10- نظام توزيع فعال،يقوم على أساس معايير العمل والحاجة والضمان ..فالغنم بالغنم ،والحراج بالضمان-فمن يعمل يكسب ،ومن لا يستطيع أن يسد احتياجاته الأساسية(ضرورية وحاجية وتحسينية) عن طريق العمل،يتم مقابلة بقية الاحتياجات من خلال معيار الحاجة .ومن يتحمل المخاطرة يستحق العائد الحلال.
11- نظام ملكية متعدد - يشمل ملكية الدولة، والملكية العامة، والملكية الخاصة - على أساس أن النوع الأخير يشكل عصب النظام - ويضبط بضوابطه الشرعية.بمعنى قيامه بوظيفته الاجتماعية.
12- نظام رقابى ذاتى شامل من الفرد على نفسه ،ومن الفرد على الحاكم، ومن الحاكم على الفرد، ومن الخالق تبارك وتعالى على الجميع."(1).
والآن.. ما هو الخلاف الجوهرى لهذا النظام عن النظام الرأسمالى فى ظل السياسات الكينزية، وفى ظل الحكومات الاشتراكية الديمقراطية التى حكمت العالم الرأسمالى فى غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، منذ الثلاثينيات وإلى أواخر السبعينيات؟ فى ظل هذه الحكومات كان يتم تحصيل ضرائب مرتفعة يتم من خلالها الإنفاق العام الذى كان يشمل الضمان الاجتماعى الشامل.. مع الحرص على دافع الربح للرأسماليين وبضوابط تضمن الصالح العام للمجتمع، وقد كانت هناك أيضا قوانين تحرم الاحتكار، وتشجع على الاستثمار الصغير والتعاوني. كما وجد دائما قطاع عام مع القطاع الخاص على اختلاف المساحات التى يشغلونها فى الاقتصاد القومى ،وتوافرت أنظمة رقابة وتوزيع فعالة.وشكل القطاع التعاونى ليسيطر على معظم عمليات التوزيع والتبادل وبعض عمليات الإنتاج.وازدهرت الحركات النقابية لتضمن العديد من حقوق الطبقات الأجيرة، وانتزعت الكثير من المكاسب لصالح هذه الطبقات.
وهل فى ظل هذه السحب المتناثرة من الجمل المطاطة، التى أتحفنا بها، استطاع الغزالى أن يخفى الجوهر الرأسمالى لنظامه المزعوم.. حيث سيستمر المسيطرون على وسائل الإنتاج فى انتزاع فائض القيمة من العمال الذين يجب أن يقترن عملهم بالإيمان ‍‍‍‍‍‍‍‍‍!، مقابل حقهم فى الزكاة مركز النظام المالى المتكامل !، والتى تبلغ 2.5% مما مر عليه العام من المدخرات، وعشر المحاصيل الزراعية، وزكاة الفطر، فى حين قد كانت الضرائب فى السويد فى ظل حكوماتها الاشتراكية الديمقراطية تبلغ أحيانا نحو 80% من صافى الربح. و كانت التعاونيات تسيطر على الكثير من القطاعات الاقتصادية ،وهى شكل من أشكال تضافر رأس المال والعمل الذى يدعوا هو إليه دون تحديد للكيفية العملية لتحقيقه.
وهكذا يتكشف لنا زيف الادعاءات الأصولية، من حيث عدم تطابقها مع الواقع والعلم، وكذلك عدم تطابقها مع واقع هذا الفكر وممارسته الفعلية، واللذان ينتجان خطابا يخفى نفسه خلف ادعاءات أصالة وتراث ونص، لينتهى إلى قمع فكرى وسياسى واجتماعى.
التوفيقية والتجمد :
يحاول البعض ممن يعترفون بحقيقة التغير وحتميته التوفيق ما بين الجمود والتطور، فهل هناك حل توفيقى ما بين ما هو ثابت وما هو متغير ؟ هل يمكن – مثلا – التوفيق بين جمود المنقول، وضرورة التغير الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، الذى يجب أن تتبناه أى حركة سياسية تهدف لتغيير جذرى فى المجتمع ؟
لقد ظلت ومازالت التوفيقية وما تعنيه من وسطية وتوازن تحمل بذور تناقضها التى سببت فشلنا فى أن ننتقل من خانة التخلف حتى الآن، حيث ظلت التنمية فى مصر كسيحة حتى الآن بسبب تلك التوفيقية.
ولو تتبعنا تاريخ التطور الحديث فى مصر فى لمحة، من محمد على وإلى الآن، سنعرف كيف أن المحاولة المريضة للتوفيقية كانت عامل الإجهاض الأساسى للنهضة : فمحمد على كان ينقل التكنولوجيا الأوروبية ابنة الرأسمالية، فى ظل نظام اقتصادى اجتماعى ما قبل رأسمالى، فالباشا هو مالك البلاد الأوحد، ورعاياه ما هم إلا عبيده، والمطلوب منهم أن يستوعبوا التكنولوجيا دون الفكر الذى يعبر عن هذه التكنولوجيا.. وإسماعيل يود لو أصبحت مصر قطعة من أوروبا، بمعنى الأوبرا والطرق و المبانى الحديثة، دون حياة برلمانية وحرية صحافة وتكوين أحزاب.. وليبرالية الوفد لم تمنعه من سحق كل من اتحاد العمال المصرى والحزب الشيوعى المصرى (21 : 1924) وتتعرض حرية الرأى والبحث العلمى للكبت، والقهر منذ طه حسين إلى نصر حامد أبو زيد، وتخرج المرأة للعمل والتعليم والحياة العامة فى ظل قوانين للأحوال الشخصية تكرس تبعيتها الكاملة للرجل. ومع إعتراف الدستور بحرية العقيدة، فإن الردة عن الإسلام أو اعتناق أى دين غير سماوى غير مسموح به على الإطلاق، وبرغم نص الدستور على مساواة كل المواطنين، فإن المسيحيين يتعرضون لتمييز خفى وظاهر فى تولى المناصب العامة، ومازال الشرطى هو أقوى موظف عام فى الدولة، لا يدانيه القضاة.. ولا رجال النيابة، ويبرر بعض الأطباء ختان الإناث علميا رغم مخالفة هذا للواقع، ويتحول أساتذة العلوم فى الجامعات من البحث العلمى إلى تفسير النصوص القرآنية وفقا لآخر اكتشافات العلم، والسادات يدعو للدولة العصرية، إلا أنه يظل رب العائلة المصرية، ويعلى من شأن أخلاق القرية التى تنتمى لما قبل الرأسمالية، وينفتح على العالم الرأسمالى الحر فى نفس الوقت.
وهكذا لم تثمر التوفيقية إلا عن تكريس التخلف.. ولما كنا قد حققنا قدرا زائدا عن الحد من التحديث والتطور، خرج بنا من عباءة الإسلام وفق رأى دعاة الأصولية الإسلامية، فقد جاءت الصحوة الإسلامية، والتى توصف بأنها "ظاهرة تاريخية دورية"كما يصفها حسن الترابى، حيث لا تقدم حقيقى، وإنما العودة إلى حيث البداية، حيث إن العودة إلى الإسلام لا تمنحنا كما يكتب سيد قطب مجرد تحقيق العدالة الاجتماعية فى حياتنا، ولا يقصد بالعودة إلى الإسلام، العودة للإيمان بالإسلام، فالغالبية الساحقة من الشعب شديدة اٌلإيمان بالإسلام ولا العودة للنظام الاقتصادى الاجتماعى السابق على تحول مصر للرأسمالية فهى عودة مستحيلة، ولا تستهدفها أصلا، وإنما العودة للعادات والتقاليد التى تحطمت بفضل هذا التحول، وهو الأمر الذى يستفز الأصوليين أيما استفزاز. والمقصود أخيرا بهذه العودة، نظاما سياسيا إسلامى الشكل، إلا إنه على مستوى المضمون، نظام شمولى قمعى إلى أقصى حد حيث يطبق مبدأ الحاكمية الذى يحرم البشر من حقهم فى التشريع،وليس ذلك فحسب بل يكتب د 0عبد الهادى النجار "للدولة أيضا أن تجبر على بعض الأعمال (2).فمن خلال مثل هذا النظام يتم تشديد معدلات الاستغلال، وانتزاع الفائض الاجتماعى، من خلال قمع العمال والأقليات الدينية والمرأة باسم الدين.
جمود مدعى التطور
إذا كان جمود الإسلام السياسى واضح وصريح فأن جمود القوى السياسية التى ترتدى قناع التطور يصبح أكثر خطورة حيث يصعب كشفه وهو ما سنحاول رصده فيما يلى:-
يتحدث القوميون على لسان ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث "بأن القومية باقية خالدة تظل ذات شخصية حية ومقومات ، ولو أن هذه المقومات كما حدث فى الماضى يمكن دائما أن تتطور كما يمكن أن تتبدل وتتشتت ولكنها على أى حال تبقى باقية لا تزول "(3) . والقومية شأنها شأن أى مكون اجتماعي لا يعرف الخلود فالسكان فى الشام والعراق ومصر، وعبر تاريخهم المكتوب أى منذ نحو ثمانية آلاف سنة عرفوا العديد من اللغات والثقافات المتنوعة التى تشكل عناصر القومية فقدماء المصريين ثم الأقباط على أرض مصر لم يكونوا عربا بأى حال من الأحوال . ولا يمكن حتى أن نعتبر الشعوب السامية فى بلاد الهلال الخصيب قبل الفتح الإسلامى عربا، وإلا اضطررنا إلى اعتبار العبرانيين شعبا عربيا هو الآخر باعتبارهم ساميين يتحدثون لغة سامية، وكانوا يعيشون فى تلك المنطقة من العالم شأنهم شأن الآراميين والكلدانيين والكنعانيين والفينيقيين وغيرهم.
ثم من أدرانا أن القومية العربية ستبقى خالدة فى ضوء ما يشهده العالم من تطورات ثقافية واقتصادية واجتماعية قد تعصف بكل الثقافات المحلية لتتكون ثقافة عالمية واحدة يخلقها الطريق السريع للمعلومات ،والتوحد الاقتصادى المطرد ،وخصوصا أن القومية أساسا وحدة ثقافية تنشأ على أساس اللغة الواحدة ،وهى وسيلة إنتاج الآداب والفنون ،وهى ليست شرطا كافيا لنشوء ثقافة واحدة ومن ثم قومية واحدة ، فمن خلال اللغة تنشأ الثقافة القومية ،وتمارس العادات والتقاليد وجودا وعدما ، إلا أنه يمكن أن تتكون عبر اللغة الواحدة عدة قوميات ..والقوميات عموما هى ما يتم تهديد وجودها المستقل و النقى الآن فى معظم أرجاء العالم،من خلال الثقافة العالمية الوليدة بما تشمله من لغة عالمية، وعلوم وتكنولوجيا عالمية ،وفنون وعادات وتقاليد عالمية، والترجمة التى تحول الأدب والفن من المحلية إلى العالمية.فنحن نقرأ تولوستوى ونتأثر به دون أن نعرف حرفا فى الروسية ،ونشاهد مسرحشكسبير بصرف النظر عن معرفتنا بالإنجليزية ،ونشاهد الأفلام الإيطالية دون معرفة الإيطالية .وقد ننفعل بموتزارت كما ننفعل بسيد درويش التى تأثرت بكليهما الرحبانية.فحتى الفقراء فى مصر أصبحوا يتثقفون عبر التليفزيون، ويسمعون ويشاهدون ألوان متنوعة من الثقافة لا تقتصر على الثقافة الشعبية الفولكلورية ،ولا الثقافة القومية الرسمية.
يستند الجمود ليس فحسب على نفى الآخر والرغبة المريضة فى التميز عنه، ولكن على نوع من إدعاء العلم. كتب جمال عبد الناصر"أن التطبيق العربى للاشتراكية فى مجال الزراعة لا يؤمن بتأميم الأرض وتحويلها إلى مجال الملكية العامة ، وإنما هو يؤمن استنادا إلى الدراسة وإلى التجربة بالملكية الفردية للأرض فى حدود لا تسمح بالإقطاع"(4).
أما عن الرغبة فى التميز فنراها فى عبارات التطبيق العربى للاشتراكية، وأما عن إدعاء العلم فنجده فى تجاهل الحقيقة التاريخية التى تقول أن مصر وعبر التاريخ المكتوب لم تعرف الملكية الخاصة للأرض الزراعية غالبا ، فالأرض الزراعية غالبا ما كانت ملك الدولة ممثلة فى الفرعون أو الخليفة أو السلطان أو الإمبراطور، ومن يستغلونها لهم عليها حق الانتفاع المرهون بإرادة ممثل الدولة الذى يجبى خراجها، وكانت حقوق الانتفاع من نصيب موظفى الدولة المدنيين والعسكريين، كل حسب مكانته فى الهرم الوظيفى، وبالتالى لم تكن قابلة للتوريث ، بل كانت تنتقل من يد إلى أخرى بتغير شاغلى الوظائف.. وقد ظل هذا الوضع إلى منتصف القرن التاسع عشر مع التحول الرأسمالى (5)،(6). ،و مصر لم تعرف إقطاعا كالذى كان فى غرب أوربا واليابان كما هو شائع فى الكثير من الكتابات ،والإقطاع عموما لا يحدد بمساحة الأرض المملوكة، وإنما بنوع علاقة الإنتاج بين المالك الإقطاعي والعاملين على أرضه، والتى هى نوع من الملكية المقيدة بقواعد تعاقدية بين الإقطاعى والأقنان على أرضه، لم تعرفه مصر بالنسبة للعاملين فى الزراعة الذين تمتعوا بحريتهم النسبية عبر التاريخ والتى يطلق عليها العبودية المعممة للدولة،أما العبودية الكاملة فقد عرفت فى الغالب بالنسبة للخدم وموظفى الدولة ورجال الجيش والملكية العقارية الخاصة تركزت فى المنازل والبساتين والحدائق والدكاكين. فالمزارع الرأسمالى فى أمريكا مثلا قد يملك من الأرض الزراعية مثل ما كان يملكه كبار الإقطاعيين فى أوربا أو أكثر إلا أنه ليس إقطاعيا بأى حال من الأحوال لأن علاقة الإنتاج بينه وبين العاملين فى أرضه علاقة رأسمالية.
وأما عن الدراسة التى تم الاستناد إليها فهى ليست على علاقة بالواقع، فالأرض مهما بلغت مساحتها معرضة للتفتيت بسبب قواعد الميراث الإسلامى، وعبر عدة أجيال يصبح استغلالها غير اقتصادى مما يدفع الملاك لبيعها والتحول لأنشطة أخرى وهو أحد الأسباب وراء تحويل مساحات شاسعة من أجود الأرض الزراعية فى مصر إلى أرض بناء.والنظام الناصرى فى مصر كان لا يمكنه أن يجمد قواعد الميراث فى الأرض الزراعية أو التراجع عن الملكية الخاصة لها،ولا يمكنه فى نفس الوقت الخروج عن دائرة الاستثمار الرأسمالى الصغير،وقيد فى نفس الوقت الاستثمار الرأسمالى الكبير.ومن ثم أبقى على وضع أضر بالزراعة المصرية فلا هو أطلق الحرية لرأس المال الزراعى، ولا استطاع أن يخلق شكلا جديدا من علاقات الإنتاج فى قطاع الزراعة.يحول دون عملية التفتيت.
فى صفحتين متتاليتين ذكر د.عمار بكداش ما يلى:-"نحن متفقون تماما مع ما أشار إليه لينين"(7)،"وفى الوقت الراهن يمكن أن نؤكد ما شخصه لينين"(8) ، "إن الوضع فى العالم يؤكد مرارا وتكرارا صحة قول لينين"(9).
وهكذا توقف الزمن عند اللحظة التى توفى فيها لينين، وكأن العالم لم يشهد من التطورات والتجارب،ما لا يجعلنا نتفق معه تماما،أو يجعل تشخيصاته أو ما أكده سابقا من مقولات،غير صالحة لهذا الزمن بما عرفه من تطورات شاملة.
فهل مازالت نظريات لينين حول الحزب الطليعى ،والثورة العمالية فى أضعف الحلقات ،والمركزية الديمقراطية،والإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ،صالحة حتى الآن،؟. مع كل ما شهدته الرأسمالية من تغيرات عمقت ضرورة التغير الاجتماعى عبر العالم وبوسائل مختلفة عن ما كان يصلح فى أوائل القرن،ومع كل التغيرات التى لحقت بالقوى الاجتماعية التى تنتج القيمة المضافة،وأخيرا وبرغم ما أسفرت عنه التجارب التى تفرعت عن اللينينية من خبرات.مازالت اللينينية المصدر الوحيد لفهم الواقع ؟، ألا تجعلنا كل هذه التطورات نتحرر من تقديسها,وأن نناقشها فحسب كجزء من التاريخ لا سلطان عليه على الحاضر؟.
نفس هذا الجمود وعدم الإحساس بالواقع والزمن هو ما دفع أحمد شرف ليكتب" أصبح من الأمور المسلم بها :أن النضال من أجل الاشتراكية يمر عبر بوابة النضال الوطنى الديمقراطي ،وذلك فى دول التحرر الوطنى أى المستعمرات السابقة"(11).فالرجل مازال يتحدث بنفس الخطاب الذى كان سائدا فى الستينات بل والأربعينيات ،وكأن شئ لم يكن ،أما زالت هناك حقا قضية وطنية ملحة يجب أن يسبق حلها الثورة الاشتراكية؟ أم أن جوهر المسألة هى ضرورة تطوير قوى الإنتاج كأساس للتقدم الاجتماعى عموما، سواء عبر الدولة أو الرأسمال الحر ،وطنى أو أجنبى ، وما يستتبع ذلك من تطوير للنظام السياسى والوعى الاجتماعى أيا ما كان الطريق إلى ذلك حتى الوصول لدرجة من التقدم على كافة الأصعدة ،الأمر الذى يشكل إمكانية واقعية لاشتراكية حقيقية ،بعيدا عن الشعارات الجوفاء ، وبدلا من تسمية الأشياء بغير أسمائها تلك العملية التى أدعى من خلالها اليسار الوطنى أن رأسمالية الدولة هى الاشتراكية أو الطريق إليها فى أحسن الفروض.
أن أنظمة التحرر الوطنى فى كل بلدان العالم لم تحمل أى ملامح ديمقراطية ,وأن أبقت فحسب على فكرة الدولة الوطنية التى جوهرها التحرر من التبعية والتنمية المستقلة عبر تدخل الدولة فى الإنتاج ،الأمر الذى يقدسه اليسار القومى،وهكذا يتم إخفاء جوهر الواقع بأقنعة زائفة. تجاوزها الزمن والتاريخ. أليس تحسين ظروف الحياة للبشر ،والدفع لمزيد من التقدم الاجتماعى خطوة خطوة ،هو أكثر واقعية من التعلق بعالم من الخيال.ربما كان من الممكن تحقيقه بالأمس أما فى عالم اليوم فقد أصبح أكثر استحالة؟.
ومن الطريف أنه يكتب بادئا بعبارة "أصبح من الأمور المسلم بها"،فمن قال له أن ما يدعيه أمر مسلم به من الجميع أم أنه يعتبر أن كل ما يسلم به هو ما يجب أن يسلم به الجميع بلا مناقشة باعتباره رأى العلم أو الدين إن شئت.ألم يلاحظ أن ما يسلم به اليسار القومى لا يسلم به اليسار الأممى أو اليسار الديمقراطى،وما يسلم به اليسار لا يسلم به اليمين؟ أليست الأمور المسلم بها هى دائما مدعاة للجمود، وأن ما لا نسلم به يعنى إمكانية أن نخطو خطوة من خطوات التطور؟.
وأخيرا فالجمود فكريا هو النتيجة المنطقية للمنهج النقلى والنافى للآخر.أما التطور فهو النتيجة المنطقية للمنهج للنقدى والمستوعب للآخر.
المصادر
(1) د. عبد الحميد الغزالى : "الاقتصاديات الكلية - النقود والبنوك" صـ374، 375.
(2) د. عبد الهادى النجار: "الإسلام والاقتصاد" مصدر سابق صـ31.
(3) ميشيل عفلق-من أجل البعث-دار الطليعة –بيروت-الطبعة الرابعة عشر-مايو1975-ص218
(4)جمال عبد الناصر-مصدر سابق-96ص.
(5)أحمد صادق سعد-تاريخ العرب الاجتماعى-تحول التكوين المصرى من النمط الأسيوى إلى النمط الرأسمالى-دار الحداثة –بيروت-لبنان-الطبعة الأولى-1981-ص 128 وما بعدها.
(6) د.عادل بسيونى-تاريخ القانون المصرى-مكتبة نهضة الشرق-جامعة القاهرة ص 348وما بعدها.
(7) د.عمار بكداش- اليسار العربى وقضايا المستقبل-حول المفهومين الاشتراكى والبورجوازى للديموقراطية والتعددية-مصدر سابق-ص182
(8) د.عمار بكداش-المصدر نفسه-ص183 .
(9) د.عمار بكداش-المصدر نفسه-ص183
(10) أحمد شرف-اليسار العربى وقضايا المستقبل-ورقة عمل حول القاعدة الاجتماعية للحركة الاشتراكية فى مصر-مصدر سابق-ص145

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية