الموضوعية والذاتية
كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
سامح سعيد عبود
الموضوعية والذاتية
الذاتى هو الشخص الذى ينطلق من الذات فى حكمه على الأشياء من حوله، فهو يفهمها ويحدد موقفه منها ويتصرف معها انطلاقا من مشاعره ورغباته وتجاربه ومصالحه وميوله وأهوائه الشخصية، وإعطاء كل هذا الأولوية على مشاعر ورغبات وتجارب ومصالح وميول وأهواء الآخرين، وبصرف النظر عن الموضوعات التى تكون العالم من حوله، ومن هنا فالذاتية هى رؤية تجعل ما هو خارج الذات تابعا لهذه الذات موضوعيا، أى تراه منبعثا عنها، وفاقدا لاستقلاله.
وإذا كانت الذاتية مشتقة من الذات، فإن الموضوعية - وهى الطريقة المضادة فى التفكير - مشتقة من الموضوع، حيث إن العالم من حول الذات هو عدد لا نهائى من الموضوعات المتشابكة والمترابطة - طبيعية واجتماعية وفكرية - والطريقة الموضوعية فى التفكير واتخاذ القرار والاعتقاد والتصرف، إنها انطلاق الشخص فى حكمه على الأشياء من حوله وفهمها والتصرف إزاءها وتحديد موقفه منها من الحقائق الموضوعية، من الواقع، من الموضوعات، وإعطاء كل هذا الأولوية على المشاعر والتجارب والرغبات والميول والأهواء والمصالح الذاتية، وبصرف النظر عن كل هذا.
والموضوعية لابد أن تعترف بالذات، باعتبار الذات ظاهرة موضوعية، ولكنها تضع البنية أو الكل (أى الواقع الموضوعى) كشرط مسبق وحاكم لوجود الذات وطبيعتها، بعكس الذاتية التى - على العكس تعتبر العالم بكل موضوعاته من إنتاج ذوات.
وهكذا فإن الموضوعية والذاتية لا يعنيان إطلاقا استبعاد الطرف الآخر، وإنما إخضاعه : فإما إخضاع الذات للموضوع أو العكس.
وإذا كان كل إنسان هو "أنا"، وذات منفردة ومتميزة عن العالم من حوله، بكل موضوعاته، فإن هناك كذلك ما يمكن أن نسميه "النحن" ، أو الذات الجماعية، وهى التى تخص مجموعة من البشر يشتركون فى شئ ما يميزهم عن غيرهم من الجماعات الأخرى، فتوجد لذلك الذوات الدينية والقومية والمذهبية والعرقية.. الخ.
وكما يوجد للفرد ذات تتميز عن ذوات الآخرين، والذين يشكلون موضوعات لهذه الذات - كما يشكل هو موضوع لهذه الذوات أيضا. فلكل جماعة بشرية ذات تتميز عن ذوات الجماعات الأخرى - واللاتى يشكلن موضوعات لهذه الذات كما تشكل هى موضوع لهذه الذوات. فالذات فردية أو جماعية تتعامل مع الذوات الأخرى فردية أو جماعية كأشياء أو موضوعات.
إلا أنه يوجد فرق واضح بين الذات الفردية، كشيء حقيقى وواقعى، والذات الجماعية كشيء مفترض وتقديرى، حيث يتم إخضاع الأفراد ومصالحهم وذواتهم لذات عليا جماعية من خلال طمس ذواتهم الفردية الواقعية.
يبقى أن أشير أن الانفصال بين الذات والموضوع هو انفصال نسبى، فهناك من نقاط التماس بينهما ما يجعل الفصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف غير ممكن، ومن هنا نسبية الحقيقة. ففى حالة السرعات القريبة من سرعة الضوء.والتى تبلغ 300ألف كيلو متر فى الثانية يصبح وضع المراقب بالنسبة للموضوع المراقب حاسما فى رؤيته للموضوع المراقب، تلك الرؤى تختلف من مراقب لمراقب آخر باختلاف الأوضاع التى يراقبون منها.وهو ما لا يمكن ملاحظته فى حالة السرعات البطيئة.التى لا نلاحظ سواها فى حياتنا اليومية، فحالة السرعات الهائلة لا تلاحظ إلا فى عالم الجسيمات الأولية والأجرام الفلكية.
الذاتية تعنى أن يصبح كل ما فى الوجود من موضوعات دائر فى فلك الذات، ومكتسبا منها قيمته ومعناه بل ووجوده نفسه وتصبح الذات هى مركز الكون ، والذاتية شأنها شأن أى ظاهرة إنسانية تحمل أوجه عدة معقدة ومتناقضة، فالذاتية قد تؤدى إلى سلوك منحط أخلاقيا من الأنا تلبية لرغبات الذات فترتكب كل الموبقات ارضاءا للذات على حساب الذوات الأخرى، وتصبح الذاتية أساسا للسلوكيات الأنانية .
وعلى النقيض من ذلك فاحترام الذات من زاوية أخرى قد يؤدى لسلوك راق أخلاقيا من الأنا إشباعا لدافع التميز الاجتماعى و ارضاءا للذات أيضا، وقد يجد هذا الإشباع طريقه فى الإبداع فى العلوم والفنون والنجاح الاجتماعى، وتصبح الذاتية فى هذه الحالة أساسا للسلوكيات الغيرية.
والذاتية قد تسبب من الآلام النفسية والتعاسة ما لا حد له..فمع ما تحرم منه الذات من رغبات وما تتعرض له من الآم خلال رحلتها فى الحياة.يتضخم إحساسها بالألم ، ويأخذ أكبر من حجمه مع إحساس الذات المتألمة أنها مركز الكون ، وأن كل ما يصيب الذات من أضرار بمثابة كارثة كونية تعنى نهاية العالم .إلا أن الذاتية أيضا ومن زاوية أخرى قد تسبب السعادة حين تسعى إلى إثبات وجودها بالتميز والإبداع.الأمر الذى يستدعى التمسك بالموضوعية التى تصبح شرطا أساسيا فى تحقق الذات.
والموضوعية أيضا تنعكس فى السلوك وطريقة التفكير على نحو معقد ومتناقض.فالموضوعية البحتة تعنى القضاء على الدافع للفعل ،وتعنى الاستسلام للأقدار،وعدم محاولة تغيير الواقع، وعدم الدفاع عن الذات فى مواجهة الواقع أو الذوات الأخرى .
إلا أن الموضوعية فى نفس الوقت شرط جوهرى من أجل فهم الواقع على النحو الصحيح.ومن ثم اكتساب القدرة الفعلية على تغييره.
والآن سنرى كيف تنعكس كل من الذاتية والموضوعية فى الحركات السياسية والخطاب الفكرى للقوى السياسية والاجتماعية على النحو التالى:
كيف تتعامى الذات عن الحقائق وتلونها ؟
لما كانت الذات لا ترى العالم إلا من خلال نفسها فحسب، فإنها تصاب بنوع من العمى، فلا ترى العالم كما هو فى الواقع، بل ترى نفسها منعكسة على مرآة محدبة، فتجدها أضخم من العالم الذى تراه منعكسا على مرآة مقعرة فتجده الأصغر. ولما كانت مرايا العقل فكرية وليست مادية، فإن الذات ترى نفسها الأكبر والأعظم والأسبق والأجمل والأكثر خيرا.. الخ إذا كانت متضخمة، والعكس إن كانت منسحقة،كما ترى الآخرين، الأصغر والأحقر والأقبح والألحق، والأكثر شرا.. الخ إذا كانت متضخمة، والعكس إذا كانت منسحقة، وبالتالى فإن الذات تتعامى عن الواقع، عن الموضوع، والذى تتصوره من خلال نفسها مشوها بهذه الدرجة أو تلك. ولما كنا قد عرفنا خصائص العقليات النقلية فى الأقسام السابقة، فإننا سنبحث الآن خصائص الذاتية، والتى من أبرزها : التعامى عن الواقع.
ولما كانت الطريقة الذاتية قد تعبر عن الذات الفردية أو الجماعية، قومية كانت أو دينية، فإنها تمارس نفس العملية، يكتب عادل حسين "والمتفرنجون عندنا ابتلعوا كل هذه المفاهيم الغريبة عن ديننا وثقافتنا، وقد آن لنا أن نتصدى لهم فى المجال الفكرى و السياسى بهدف تصحيح المواقف.. إن المفهوم الذى ندعوا إليه هو مفهوم التنمية المستقلة المركبة، أو عملية التطوير لكل أنحاء المجتمع بطريقة متوازنة ومتسقة، وهى عملية مستقلة لأننا نحن الذين نقرر محتوياتها وتخطيطها وفق معتقداتنا ومثلنا"(1) وهكذا نرى كيف أنه انطلق من رفض المفاهيم الغربية فى التنمية، انطلاقا من إنها غريبة عن ديننا وثقافتنا، وليس لأنها صالحة أو غير صالحة علميا أو موضوعيا، فهو يرفضها كشيء مختلف عما يدعى انه ذاتنا القومية. ثم هو ثانيا يدعى أن هذه المفاهيم التى يرفضها تدعو إلى تنمية مختلفة عما يدعو هو إليه، من حيث التوازن والاتساق، وذلك بمفهوم المخالفة، وكأن هذا الغرب أحدث تنمية مادية فقط دون الجانب الفكرى، مع أن ذلك الغرب مازال هو المصدر الأساسى للتراث الإنسانى فى الثلاثمائة سنة الأخيرة على الأقل، بل ولأفكار عادل حسين نفسها، بل وحتى أفكار سيد قطب : فالأفكار المتعلقة بالذوات الحضارية والقومية والعنصرية لم تعرفها الإنسانية إلا على يد الكثير من الفلاسفة الأوربيين مثل هيجل ونيتشه وفيشته، وفكرة سقوط الغرب قد بشر بها شبنجلر، ومقولة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" قد قالها كبلنج الاستعمارى الإنجليزى... وهكذا.ومثل هذه الأفكار هى تعبير عن الفكر القومى والعنصرى وهو وليد الحضارة الرأسمالية، والذى لم يعرف على هذا النحو العميق إلا من خلالها، لتبرير النزعات الاستعمارية والعنصرية والفاشية، ولتأسيس الدولة القومية الحديثة. ثم إننا منذ ابن خلدون وابن رشد لم نعط العالم مفكرين أصلاء بشكل حقيقى، ولذلك فإننا لا يمكنا أن نستبدل ماركس وكونت ودوركايم بابن خلدون ؛ لأنه مهما كانت أصالة علم ابن خلدون، فإن إنتاجه العلمى فى مجال علم الاجتماع سيظل متخلفا عن إنتاج كل هؤلاء، بمقدار ما تجاوزوا هم ابن خلدون.. وقس على ذلك سائر العلوم والفنون والآداب.. وهكذا هى الحركة الإسلامية – كما أوضحنا سالفا – لا ترى فى الغرب سوى النهضة العلمية والمادية، ولا ترى فيه الجوانب الأخرى، وتدعى أن نموه نمو أعرج، وتدعى أن ما تملكه هى من تراث عفى عليه الزمن أرقى وأكمل.
وعلى نفس الخط تتوالى الكتابات الزاعقة فى بلاغتها وخطابيتها ، الفارغة من المضمون فى حقيقتها، والتى تحاول أن تثبت التميز والتفوق عبر ماضى صنعه أبناءه، مادام حاضرنا لا ينبأ عن خير وهكذا بمحاولة إثبات وجود جوهر ثابت وخالد، لجماعات بشرية يفترض أيضا خلودها وثباتها، فيصف د. محمد عمارة الحضارة العربية الإسلامية بـ.. "وكذلك وازنت هذه الحضارة بين "السلم" و"الحرب" ففتوحات أمتها، كانت فى الجوهر والحقيقة، تحريرا وإزاحة لموجات غازية عن ديارها، ولم تكن فى الجوهر والأغلب عدوانا" (2).
وهكذا تتحول الفتوحات إلى حروب تحرير، فمن أى استعمار (وهو ظاهرة حديثة) حرر العرب إيران وبلاد الترك والهند وأسبانيا والبرتغال وبلاد المغرب ؟! وهل كانت كل هذه الفتوحات ردا لموجات غازية ؟ فى الحقيقة لا، وإنما كان الفتح يتم لنشر الإسلام، وحكم أهل البلاد المفتوحة، وفرض الجزية على من لم يسلم منهم، واستخراج الخراج من فلاحيها، وقد كان هذا طابع العصر كله، سواء أتم الفتح من العرب أم من غيرهم. وماذا عن اضطهاد الموالى واعتبارهم رعايا من الدرجة الثانية لا يحق لهم الحكم ؟. وما الفروق الحقيقية بين حكم العرب، وحكم الروم والفرس ؟. وكيف اعتبرها الكاتب عدوانا وغزوا فى حين أن الفتوح العربية تحريرا وإزاحة. إلا إذا كان يكيل بمكيالين؟!
إلا أن هذا ليس غريبا عن الرؤية الذاتية المزدوجة المعايير دائما، حيث إنها تقوم على ثنائية (الأنا / الآخر) من حيث هما هويتان مغلقتان إلى الأبد، ومن ثم فإن أيا منهما ثابت وخالد ومطلق.
وانطلاقا من هذه الذاتية يفسر قوموى عربى الحرب العراقية الإيرانية على أساس إنه "كان ظهور الإسلام صدمة للفرس قابلوه بالعداء والحقد.. ومزق ملكهم كسرى كتاب الرسول الذى دعاهم إلى الإسلام" (3).. وهكذا يتم التعامى عن استغراق الرسول واحد وعشرين عاما، ومن بعده أبو بكر عامين، ليثبت إيمان العرب بالإسلام، بعد تاريخ حافل من المعارك الضارية والصراعات الدموية، إلا أن الذات القومية تتعامى عن حقيقة الذات الأخرى الفارسية التى أعطت الإسلام، عددا ضخما من كبار علماؤه وفقهائه.. وأعطت الحضارة الإسلامية عددا كبيرا من علمائها وفلاسفتها وأدبائها. وانطلاقا من هذه النظرة، يتم تفسير حرب معاصرة قامت لحسم من عليه أن يسيطر على منطقة الخليج بعد سقوط الشاه بالثورة الإسلامية فى إيران ؛ فأدعى صدام أنها القادسية الجديدة، وأدعى الخمينى إنها الحرب المقدسة ثأرا لدم الحسين وعلى، حتى يأتى أحدهم ليقول لنا إنها حرب بين "ذات العرب المؤمنة وذات الفرس الكافرة".
ونموذج آخر على التعامى عن الحقيقة يكتب أمين أسكندر:" وجاءت الضربة الأخيرة-حتى الآن-عندما واجه العدوان الأطلسى العراق-الدور والقوة وبعدها حدث ما نعيشه الآن"(4) وهو بهذا يتناسى أن النظام العراقى نفسه هو الذى تسبب بغزوه للكويت فى هذا الذى يسميه عدوانا أطلسيا شاركت فيه كل من مصر وسوريا والسعودية ،وذلك لإنقاذ الشعب الكويتى -قبل أن يحرر الأرض الكويتية- من المصير الأسود الذى تعرض له شعب العراق منذ وصول البعث الصدامى لحكم العراق، والذي يعتبر حكم "آل الصباح" العشائرى الرجعى المتخلف بمثابة مرحلة أكثر تقدما من النظام الفاشى الوحشى فى العراق الذى أهدر فرصة تاريخية لا تعوض فى الارتقاء بالشعب العراقى إلى مصاف الشعوب المتقدمة بما يمتلكه من ثروات بترولية وزراعية وكوادر مثقفة ومتعلمة وتراث حضارى، بعكس معظم بلدان الخليج الأخرى،ليهدر كل هذه الإمكانيات الهائلة فى مغامرات هتلرية كان ضحيتها الأولى الشعب العراقى نفسه ومستقبله القريب على الأقل ،نفس هذا النظام الذى واتته الخسة فى أن يضرب جزءا من الشعب المنكوب بحكمه بالغازات السامة.أما عن دور العراق وقوته فقد استنزفهما النظام فى الحرب مع إيران،ثم أن أحدا لم يدعوه لغزو الكويت، واستفزاز الغرب الإمبريالي، فحدث للعرب ما حدث من تمزق أمام عدوهم الرئيسى"إسرائيل" الذى لم يواجهه النظام العراقى مثلما حارب إيران طوال تاريخه.
والرؤية الذاتية لابد أن تحمل تناقضا، لا شفاء منه، فالجماعات الإسلامية تقع فى تناقض بين إنكارها وجود سلطة مقدسة أو كهنوت فى الإسلام أو فى النظام الإسلامي، وبين إصرارها على ضرورة الاحتكام إلى هذه السلطة نفسها واعتبار نفسها هى الممثلة لصحيح الدين والعقيدة، صحيح انك لن تأخذ الدين على يد مؤسسة كهنوتية منظمة كالكنيسة مثلا، إلا إنك لن تأخذ الإسلام إلا من فقهائه وعلمائه، والذين سيشكلون مرجعية تحتكر حق تفسير الدين وتأويله، والحكم على الأشياء انطلاقا من احتكارهم هذا الحق، وسيصبح الخروج عن تفسيرهم وأحكامهم خروجا عن الدين ذاته، وتتكرس بذلك سلطتهم الكهنوتية بلا ألقاب أو مؤسسات.
وتتأسس هذه السلطة على أساس من فكرة الذات الجماعية، الجوهر الواحد، الأصول الثابتة.. الخ، حيث توجد فكرة مجردة يجب الحفاظ على نقائها، وهذا يتطلب قوامين على هذا الحفظ. أى : سلطة، وهى الباعث الحقيقى والواقعى لإنشاء فكرة الذاتية الإسلامية. فإقامة الخلافة الإسلامية وتطبيق شرع الله بواسطتها هى الشعارات السياسية المعلنة للحركة الإسلامية.. ومن هنا يأتى تلوين الحقائق و التعامى عنها فالخطاب الإسلامى يبشرنا بمجتمع بلا كهنوت، حيث يتحرر البشر من سلطانهم، إلا أنه وفى نفس الوقت يقول أن خضوعنا لسلطة الخلافة ذات الطابع الدينى هى هدفه السياسى الأساسى الذاتية وتزييف الحقيقة الموضوعية :
لا تكتفى الذاتية بالتعامى عن الحقائق، بل إنها تزيفها عامدة، تلبية لرغباتها الخاصة، يكتب د. محمد عمارة " فلقد ساعد قبط مصر جيش عمرو بن العاص فى حربه ضد جيش الاحتلال البيزنطى"(5). وهو لا يقارن هذا بموقف المصريين الناقمين على الاحتلال الإنجليزى، الذين كانو يهتفون "إلى الإمام يا روميل" بمنطق عدو عدوى صديقى. وما رأيه إذن فى مقاومة الأقباط للفتح والسلطة التى نتجت عن الفتح، ومنها ثورة البشموريين بقيادة زعيمهم المسمى "مينا"-وهو غير موحد القطرين بالطبع وليس مار مينا -والتى قضى عليها الخليفة المأمون؟!(6).. وهى الحقيقة التى لا تذكر فى كتب التاريخ الرسمية. وما رأيه فى الحملات الصليبية على الشرق العربى والتى كانت تدعى أنها ما أتت إلا لتحرير القدس من حكم المسلمين الذين انتزعوها من الروم المسيحيين قبل 300 عام من بدء الحملات ؟ أيعتبرها فتحا وتحريرا أم غزوا واحتلالا ؟.
ولا يقتصر الأمر على الإسلاميين والقوميين ففى كتاب تاريخى ذو طابع أكاديمى ليس موجها بالطبع إلى عامة القراء يكتب د.عبد العظيم رمضان"فقد كانت مصر من أكثر بلاد العالم مناعة ضد النفوذ الأجنبى،والمؤثرات الأجنبية،وقد احتفظت بشخصيتها القومية فى عهد البطالمة وفى عهد الرومان، فلم تتكلم اللغة اليونانية ولا اللغة اللاتينية، ولم تعتنق عبادة سيرابيس و لا عبدت أباطرة اليونان و لم تغير دينها إلا مرة واحدة قبل العرب،حين اعتنقت المسيحية بالقوة، و لكنها فى أقل من قرن واحد بعد فتح عمرو بن العاص لها،اعتنقت دينا جديدا ولغة جديدة وفنا جديدا ودام ذلك حتى بعد أن زال سلطان العرب عنها، وتحولت إلى بلد عربى لا يقل عروبة عن عرب شبه الجزيرة"(7).
فى هذه الفقرة وحدها كم من المغالطات التاريخية التى صدرت عن مؤرخ يحمل لقب أكاديمى فى مجال تخصصه مما يبين ما يمكن أن تفعله الذاتية فى البحث العلمى من تزييف وهى:- أولا:-أن مصر من أكثر بلاد العالم مناعة ضد النفوذ الأجنبى وهى التى ظلت لفترات طويلة فى تاريخها محكومة ومتأثرة بالضرورة بالحكم الأجنبى وذلك ليس لعيب ذاتى فى المصريين، ولكنه قدر المكان (المعبر والوسيط) بعكس بلاد أخرى كاليابان وكوريا والصين ، و التى نظرا لمواقعها الجغرافية لم تتعرض إلا فى العصر الحديث فحسب للنفوذ الأجنبى. ثانيا :-عدم تأثر المصريين باللغة اليونانية فى حين أن الأقباط قد كتبوا لغتهم بالحروف اليونانية مضافا إليها سبعة حروف لتناسب الأصوات غير الموجودة فى اليونانية. ثالثا:- أن المصريين اعتنقوا المسيحية بالقوة ،متغافلا عن أنهم هم الذين تعرضوا للاضطهاد ثلاثمائة عام بسبب إيمانهم بها ، وثلاثمائة أخرى دفاعا عن مذهبهم الخاص فى المسيحية،حتى أتى الفتح العربى وما استتبعه من اضطهادات متنوعة فى فترات تاريخية مختلفة خلال أربعة عشر قرن منذ الفتح. رابعا :- أن تحول مصر للعروبة والإسلام أستغرق أقل من قرن واحد ، وهذا ليس صحيحا على أى نحو حيث استغرقت هذه العملية عدة قرون على الأقل فى الأرياف وبالذات فى الصعيد حيث ظلت مناطق تتحدث القبطية حتى القرن السابع عشر ."بل ظلت اللغة المصرية باقية فى الحديث إلى عام 379 هجرية 997 ميلادية حتى أمر الحاكم بأمر الله فأبطل التكلم بها نهائيا"(8).ومازالت آثار الثقافة القبطية موجودة داخل مركب الثقافة المصرية برغم مرور كل تلك السنوات. مما يدل على أن عملية التحول لم تكن بتلك السهولة التى توحى بها الفقرة.
ومما يلفت النظر بحق أن ثلاثة على الأقل مما جعلهم حظهم السيئ عرضة للنقد فى هذا الكتاب ، حاملين للقب الدكتوراه ، وأحدهم كان يدرس لى بالجامعة ، لم يراعوا الأمانة العلمية، فى كتب ذات طابع أكاديمى، وزيفوا الحقائق من أجل إثبات أكاذيب، والأمر لا يتعلق بانحيازهم لمصالح اجتماعية معينة ،ومؤثرات ثقافية محددة فحسب .بل أن الأمر يتعلق أيضا بأخلاقيات العلم والبحث العلمى الذى لا يجب ألا يستهدف سوى الحقيقة الموضوعية منزهة عن أى غرض ذاتى من أى نوع.
ويكتب عادل حسين "ما جاء فى شرع الله ليحفظ حقوق الإنسان وكرامته.. بدءا من حرية الاعتقاد إلى حرية التعبير الفردى والجماعى بمختلف أشكال التعبير"(9).. فكيف تتوافق إذن حرية الاعتقاد مع ضرورة حرب المخالفين فى العقيدة والمرتدين عنها ؟! وهل يسمح بالدعاية لدين آخر مثلا فى الدولة الإسلامية،
هل يسمح بالدعاية للإلحاد مثلا ؟! وهل عرفت الدول الإسلامية حرية التفسير والتأويل للنص الإسلامى نفسه، أم أن تاريخها عرف اضطهاد كل من يخالف السلطة رأيها ؟! فأئمة أهل السنة والجماعة "أبو حنيفة" و"مالك"،و" الشافعى"، و"إبن حنبل" تعرضوا لاضطهاد الخلافتين السنيتين الأموية والعباسية.دع عنك أئمة الشيعة والخوارج. أليست حرية الاعتقاد لابد أن تشمل حق كل مواطن فى أن يعتقد ما يشاء، وأن يدعو إلى ما يعتقد، وألا يضطهد بسبب ما يعتقد.؟!! وهو ما يستبعده مفهوم حرية العقيدة الذى يدعيه الإسلام السياسى.
الذاتية لا ترى إلا تميز ذاتها هى عن الآخرين، يكتب د. عبد الهادى النجار "وقد سبق أن رأينا أبعاد تلوث فى البيئة الإسلام أوسع نطاقا فى هذا الفكر، على أساس أن التلوث ليس حصيلة عوامل مادية فقط، وإنما يضاف إليها عوامل أدبية" (10) وفى الحقيقة أن قضية تلوث البيئة، ترتبط أساسا بأسلوب الإنتاج الرأسمالى، والذى قد قام على أساس الثورة الصناعية، وهما لم يكونا على عهد ظهور الإسلام، هذه واحدة، والثانية أن جماعات الخضر وحركة حماية البيئة عموما تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات : اتجاه رجعى متطرف يريد العودة إلى ما قبل الرأسمالية والثورة الصناعية، وهو الأمر الذى لا يمكن أن يحدث ؛ لأنه – ببساطة – يعنى انخفاضا حادا فى الإنتاج لاستخدام وسائل إنتاج متخلفة، وهو مالا يتناسب مع الزيادة الحادثة فى عدد السكان وما نجم عنها من ازدياد الاحتياجات البشرية التى تتطلب إنتاجية أعلى. واتجاه إصلاحى يريدها رأسمالية تضع مصلحة المجتمع البشرى قبل مصلحة الطبقة الرأسمالية فى زيادة الربح، وهو الأمر غير الممكن، حيث تستهدف الرأسمالية زيادة الربح بصرف النظر عن مصلحة البشرية ،وبالتالى يتم تصدير الصناعات الملوثة للبيئة.. للعالم الثالث.. واتجاه ثورى يسعى لنمط إنتاج مختلف قائم على أساس تكنولوجيا أكثر تقدما، وبالتالى أكثر إنتاجية، وأقل تلويثا للبيئة وفى كل هذه الاتجاهات لا أحد يزعم أن التلوث ذو أسباب مادية فقط، وإنما يرتبط أساسا بأسلوب الإنتاج الرأسمالى، وما يرتبط به من أنماط للاستهلاك وأساليب للحياة.
ففى الرأسمالية لا يتم الإنتاج لإشباع الحاجات الاستعمالية فحسب، بل يتم دائما - وعلى نحو مطرد - خلق احتياجات غير ضرورية، ومن ثم سلع ترفيه كى تستمر عجلة الإنتاج القائم على السوق، مما يؤدى لإهدار الموارد على نحو مطرد فتحرق الغابات وتقتل حيوانات الفراء والعاج لإرضاء أذواق بعض شرائح الرأسمالية العليا، بصرف النظر عما يؤدى إليه ذلك من إخلال بالتوازن البيئى الضرورى، وهذا فحسب على سبيل المثال لا الحصر.
ويكتب د.عبد العظيم رمضان"أن العرب ينهزمون بخلافاتهم وتقاتلهم فيما بينهم بأكثر مما ينهزمون على يد الأعداء"(11).فما هو المقياس الإحصائى الذى يثبت هذا الزعم عبر التاريخ أم أن الأمر لا يخرج عن كونه عبارة إنشائية بهدف تشجيع العرب على الاتحاد ونبذهم للفرقة؟،وإرجاع هزائمهم وانتصاراتهم لسبب ذاتى وحيد مستبعدا كل الأسباب الأخرى موضوعية وذاتية.ومن ثم فالحقيقة الموضوعية هنا ليست هى الهدف المنشود ،وإنما هو الهدف الذاتى لدى الباحث..
ويفسر البعض ظاهرة صعود الإسلام السياسى بهزيمة 1967، وإن لم يكن هذا صحيحا على إطلاقه، حيث إن الظاهرة سابقة على الهزيمة، التى كان مبررها لدى الذات المصرية والعربية، هو البعد عن الإسلام، إلا أن الهزيمة شكلت أساسا للدعاية ضد العلمانية فى مصر، ومن هنا كان انتشارها.. فضلا عن ذلك فقد شكلت العودة إلى الأصولية الإسلامية أداة لتماسك الذات الجماعية المصرية والعربية من الانهيار المعنوى نتيجة هزيمتها أمام إسرائيل.
ومن ثم تم إغفال الأسباب الموضوعية للهزيمة عسكرية كانت أو سياسية، وهكذا تم إسناد الهزيمة لسبب لا علاقة لها به ،مثل البعد عن الله ، وليس بسبب عدم الكفاءة و تقصير القيادتين السياسية والعسكرية، الذى وصل إما إلى حد البلاهة أو حد الإهمال. إلا إذا اعتقدنا أن اليهود كانوا أكثر قربا لله من العرب فى ذلك الوقت،وأن المشركين فى" أحد " كانوا أكثر إسلاما من النبى محمد وصحابته .كما تم إسناد نصر أكتوبر 1973 لترديد كلمة "الله أكبر" وكأن من حاربوا فى 1967 لم يكونوا يرددونها، وأرجع النصر للتقرب من الله ، وليس لتجاوز الأخطاء التى أدت للهزيمة بالتدريب والتخطيط المبنيان على أسس موضوعية صحيحة.والتنفيذ المحكم والدقيق للخطط الحربية.
امتدادا لهذا التفكير يكتب فهمى هويدى "كان بيدنا سلاح استخدمناه مرة للانتصار ثم ألقيناه فمضينا على طريق الهزيمة والاندثار.. وعندما يطلق سراح القرآن سوف يطلق سراح هذه الأمة(12). هكذا يفسر تاريخ صعود وهبوط أمة بمجرد تمسكها وتخليها عن كتاب مقدس، حيث تربط الدعاية الإسلامية بين نجاح العرب على فتح المنطقة ما بين باكستان إلى أسبانيا فى فترة قصيرة من الزمن لتمسكهم بالقرآن، وقد عرفوا الهزائم منذ اللحظة التى تركوه فيها.
إلا أن هناك تفسيرا آخر هو الأقرب للواقع والعلم، هو أن الفترة ما بين 3000 عام قبل الميلاد والقرن الخامس عشر الميلادى، كانت تاريخ الصراع ما بين الشعوب الرعوية والشعوب الزراعية، حيث كانت تعيش الأولى فى الصحارى والبرارى مهددة بشكل دورى بالجفاف وزيادة التصحر، وفى هذه الأثناء فإنه كثيرا ما يحدث أن يتم توحيد عشائر وقبائل إحدى هذه الشعوب، تحت قيادة عشيرة أو قبيلة قوية أو أرستقراطية قبلية، أو حلقة من الفرسان حول زعيم قوى، وفى مرحلة ثانية بعد أن يتم التوحيد وتأسيس الدولة يتم غزو المناطق الزراعية فى موجات عارمة وسريعة من الغزو والفتح، لتصبح الدولة الرعوية مركز لإمبراطورية هائلة، تقوم على انتزاع هؤلاء الغزاة للخراج من الفلاحين المنتمين للشعوب الزراعية المغزوة أراضيها، وبعد قليل يندمج الغزاة مع الشعوب الزراعية، حيث تستقر غالبيتهم لتمارس الزراعة أو يعودوا من حيث أتوا... وهكذا شهدت تلك الفترة نفس السيناريو على فترات متقاربة، حيث أعداد ضخمة من الغزوات العاتية من الشعوب الرعوية بدءا من الهكسوس والفرس والهون والآفار والأتراك والمغول بقيادة جنكيز خان فى القرن والحادى عشر.. الذى وحد عشائر المغول تحت زعامته المطلقة بواسطة حلقة من الأتباع، وفرض على دولته الجديدة شريعة "الياسة" التى زعم أنها أوحيت إليه من آلهة السماء التى يعبدها المغول الشامانيون، ثم قاد جحافل المغول ليكتسحوا اليابسة الأسيوية بالكامل وشرق أوروبا فى غضون عدة سنوات، وأخيرا تيمورلنك فى القرن الخامس عشر وقد انتهت هذه الفترة باكتشاف الأسلحة النارية، ففقد الرعاة، ما كانوا يتميزون به على الزراع، حيث لم تكن أطراف المعارك تحارب إلا بنفس الأسلحة.. فأمام البنادق والمدافع ما كان للسيوف والنبال أن تصمد.
وليلاحظ معى القارئ أن الإمبراطورية الإسلامية تكونت أساسا فى عهد عمر بن الخطاب، الذى شهدت فترة حكمه "عام الرمادة" الذى كان أقرب ما يكون للمجاعة التى حدثت بسبب موجة من موجات الجفاف التى عمت الجزيرة العربية.
ومن يقرأ سيرة بنى هلال - وهى على أسطوريتها إنما تعبر عن حقيقة هجرة قبائل بنى هلال البدوية والرعوية نتيجة القحط الذى حدث بنجد إلى وادى النيل بمصر وتونس الخضراء - يعرف العلاقة بين البدو والحضر والرعاة والزراع على مدى التاريخ.
وأخيرا : لم تكن الحضارة الإسلامية هى ابنة الإسلام فحسب، بل ابنة لجهود متشابكة، وظروف مادية مترابطة، وكان أحد أسباب انهيارها فقد هذه المنطقة من العالم لتفوقها الاقتصادى، بسبب فقدها لسيطرتها على طرق التجارة العالمية، وتحول هذه السيطرة إلى غرب أوروبا، الذى استطاع من خلالها التحول إلى الرأسمالية، والتى بسبب ميلها الغريزى للتوسع - تمت لها السيطرة على العالم، وتحولت حضارتها من الإقليمية إلى العالمية.
وأخيرا فلنرى مثلا على الذاتية بكل عناصرها فيما يلى:" فأن مكرم عبيد قد تولى جانبا كبيرا من صنع زعامة النحاس بما يملكه من بلاغة وطلاوة فى أسلوبه.
وعندما شاء مكرم أن يتزعم تولت صحافة الوفد هدمه فعلا فقد أجمعت صحف الوفد فى ذلك الوقت على التنديد بموقفه والإشادة بزعامة النحاس "(13).وهكذا رأينا كيف تغير موقف الوفد ومكرم عبيد من بعضهما البعض، فمكرم كان يمتدح النحاس وصنع زعامته، وعندما اختلفا حاول مكرم هدم النحاس مستخدما سلاح الخطابة الذى استخدمه فى البناء ،ومن الناحية الأخرى تحول مكرم فى صحافة الوفد من الابن الروحى لسعد زغلول إلى عميل للسرايا وفى كلتا الحالتين لم يكن للموضوعية مكان.
ويدعى أحمد طاهر بأنه"لا جدال فى أن الشعار السياسى الوحيد الذى تتفق عليه حاليا كافة القوى السياسية فى مصر هو المطالبة بالديمقراطية السياسية والحريات الأساسية للشعب المصرى"(14).وهو يتجاهل هنا أن القوى السياسية الحاكمة لا تحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان كما يدعى وهى قوى لا يمكن تجاهلها فى البحث لما تملكه من أغلبية ،وأن الجماعات الإسلامية ما بين معتدلة ومتطرفة تستنكر الديمقراطية وتعتبرها ليست من الإسلام فى شيء وهى القوة السياسية المعارضة الأساسية فى المجتمع الآن، وأن الخلافات تم حسمها داخل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بأساليب فاشية، والأمثلة أكثر من أن تحصى فى هذا السياق، فلماذا إذن يعتبر أن كل القوى السياسية تحولت فجأة إلى الديمقراطية إلا إذا كان الهدف هو تبرير تحالف تلك النخب المعارضة ضد الحكومة تحت شعار الديمقراطية الذى سينقض عليها الطرف الأقوى حين يصل إلى السلطة.والمسالة لا تكمن فى لاأخلاقية هذه القوى وأنما يكمن فى أيديولوجياتها التى تقوم على فكرة التمثيل الأوحد للحقيقة أو الأمة أو الطبقة العاملة أو الطبقات الشعبية مما لن يجعلها تحترم قواعد الديمقراطية كما يدعى. وهو شانة فى ذلك شأن المدرسة الماركسية المصرية الوطنية التى تربى على إنتاجها الأيديولوجي ،ومنهجها السياسى الذى من أجل الجبهة أى جبهة، ومن أجل التحالف أى تحالف ،بين نخب المثقفين على تلويناتهم المختلفة، وادعاءاتهم المتنوعة، يتم التعامى عن حقائق الواقع وتزييفها.فقد أصدرت المنظمات الماركسية الثلاث التى كونت "الحزب الشيوعى المصرى 8يناير" فى 8يناير1958بيانا فى فبراير1957 جاء فيه:-
"يحاول المستعمرون وعملاؤهم أن يذرفوا دموع التماسيح على ما يدعونه من إهدار الحريات فى مصر متجاهلين أن الشعب المصرى والوطنيين المصريين لم يتمتعوا فى يوم من الأيام بالحرية مثلما يتمتعون بها اليوم ،وأن هذه الحرية المتاحة للوطنيين تتسع فرصها يوما بعد يوم"(15).ولم يمض على البيان سوى عامان إلا وشرفت كل قيادات ذلك الحزب، ومعظم كوادره معتقلات النظام الديمقراطى معرضين لشتى صنوف التعذيب حتى رضخوا بعد خمس سنوات بقبول حل أحزابهم المستقلة. كيف تنظر الذات إلى نفسها وإلى الآخرين ؟
يرتبط التفسير الذاتى للتاريخ والاقتصاد، وغيرهما من المظاهر الاجتماعية، بالأساس الذاتى للفكر الخرافى عموما ؛ فترى الصحوة الإسلامية نفسها كما يكتب د. أحمد العلمى "بأن "الصحوة" حركة يقظة بدأت مسيرة الألف ميل ولكنها لا تزال فى الخطوات الأولية الابتدائية، وأكبر معركة تكاد تكسبها بشكل نهائى حتى الآن هى معركة تأسيس الثقة بالذات، وتهميش مركب النقص عند قطاع أساسى من المثقفين والشباب والأوساط الشعبية المختلفة"(16)0.. فالمشكلة إذن من وجهة نظره تتلخص فى تكون مركب نقص (وهو اصطلاح فى علم النفس وفق مدرسة التحليل النفسى التى نشأت فى الغرب المرفوض بريادة اليهودى فرويد!! والذى تعرضت نظرياته ومدرسته لانتقادات حادة فيما بعد على يد علماء نفس الغرب، وذلك لدى أبناء الأمة الإسلامية) نتيجة اصطدامهم بالحضارة الغربية المتفوقة، وإحساسهم الخاطئ بتفوقها عليهم، وهو ما أدى لتكون تلك العقدة النفسية بشكل جماعى، ولا شفاء منها حسب رأى أطباء الصحوة إلا بالاستعلاء على الآخر، وهو فى الأساس : الغرب.. فيكون لنا نحن أيضا علومنا الاجتماعية والإنسانية الذاتية، من اقتصاد واجتماع وسياسة وقانون، والتى لا تحوز على الأفضلية إلا بفضل ذاتيتها هذه.
ولاشك أن العلوم الحديثة قد اكتسبت صفة العالمية منذ زمن طويل ؛ لأن العلم هو فهم الواقع ؛ ولأن الواقع الإنسانى واحد فى عمومه، بالرغم من الخصوصيات المختلفة التى تدرس بنفس منهج العلم. ثم إن محاولة إثبات الذات لا تكون إلا بإحداث تفوق فعلى فى الواقع، وليس بمجرد الصراخ بأفضلية الذات، اللهم إلا إذا كان الصراخ محاولة لطمس الحقيقة المريرة بالتخلف.
إن تحويل الصراعات فى العالم إلى صراعات بين ذوات قومية أو دينية مختلفة يتغافل عن حقيقة أن حركة الاستعمار الحديث ما نشأت إلا بسبب الاحتياج الحيوى من قبل الرأسمالية للتوسع للخارج، من أجل الأسواق لسلعها، والمواد الخام اللازمة لإنتاج هذه السلع، وطرق التجارة العالمية، والأيدي العاملة الرخيصة.. لماذا ؟ لأن الرأسمالية لا تسعى لشيء سوى الربح، والحفاظ على معدله من الهبوط إن لم يكن زيادة هذا المعدل. ولنفس هذه الأسباب حدثت التحولات المختلفة للرأسمالية، حيث تحول نمط الإنتاج الرأسمالى من حدود الإقليمية والقومية الضيقة إلى العالمية بكل من قوى إنتاجه وعلاقات إنتاجه وهو الأمر الذى أزال الحدود ما بين الذوات القومية والعنصرية والحضارية، على الأقل على المستوى الاقتصادى.
فالرأسماليون أيا كانت قومياتهم وأديانهم وجنسياتهم وأعراقهم لا يستهدفون إلا الربح ؛ ولذلك فهم يشتركون كطرف واحد فى عملية موحدة عالميا لانتزاع فائض القيمة من قوى العمل المأجورة أيا كانت قومياتهم وأديانهم وجنسياتهم وأعراقهم كطرف واحد وآخر فى نفس العملية.
ومن هنا تتوحد مصالح كل طرف على حدة ضد مصالح الطرف الآخر، بصرف النظر عن الاختلافات الثانوية داخل كل طرف فى تلك العلاقة الأساسية.
إلا أن التفسير الذاتى للتاريخ يفترض شيئا آخر كما يكتب د. محمد مورو "إن صراعنا مع الاستعمار لا يتعلق بشىء خارج ذواتنا، فنحن كجماعة بشرية موضوع للصراع (17). وبهذه الطريقة يتم طمس الفروق والصراعات داخل جماعتنا القومية أو الدينية أو الحضارية، بين طبقاتها المختلفة، وهو الأمر القائم على اختلاف المصالح الحقيقة بينها، من أجل صراع وهمى مع جماعة أخرى، تنقسم بدورها إلى طبقات مختلفة، وبسبب اختلاف مصالحهم الحقيقية، ينغمسون فى صراع طبقى مستمر منذ مائتي عام، يشتد حينا ويهدأ حينا، يأخذ طابعا اقتصاديا حينا لتقليل أو تشديد معدلات الاستغلال، ويأخذ طابعا سياسيا أحيانا أخرى، حين يستهدف السلطة السياسية.. بهذه الطريقة تطمس الأصولية الدينية والحركات القومية عموما المصالح المشتركة بين عمال كل الجماعات المختلفة، والمضادة للمصالح المشتركة لكل رأسمالى نفس الجماعات، فالحل الموضوعى للظاهرة الاستعمارية وظاهرة التبعية لا يكمن فى الصراعات القومية أو الحضارية، وإنما بحل الصراع الطبقى العالمى فالاستعمار الحديث ليس استغلالا لأمة وطبقات أخرى بقدر ما هو استغلال رأسمالى دول متقدمة لعمال أمة متخلفة، ففى الوقت الذى كان زراع القطن فيه يتضورون جوعا فى مصر فى فترة الاحتلال البريطانى كان عمال النسيج الإنجليز يشاركونهم نفس الجوع، لصالح البرجوازية الإنجليزية التى كانت تستغل وتنهب هؤلاء وهؤلاء، والمتحالفة مع كبار الملاك الزراعيين المصريين الذين كانوا يشاركونها فى استغلال الفلاحين المصريين.
وهكذا ينطلق فكر الأصولية الإسلامية من رغبات ومشاعر وتجارب الذات القومية فيكتب سيد قطب "وظيفتنا أن نشعر شباب الوادى وشباب العالم العربى أنهم شئ ذو قيمة، إنهم رأس لا ذيل، أنهم يملكون أن يمنحوا البشرية حضارة ومبادئ وقوانين واتجاهات اجتماعية وخلقية وفكرية وروحية" (18). وهذا مالا يتفق والنظرة العلمية للموضوع، أن نتوجه لشباب الوادى ككتلة واحدة بشئ أصلا ؛ لأنهم ينقسمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة المصالح ؛ ولذا فوظيفة من يسعى للتحرر الإنسانى هى دفع الصراع الاجتماعى والطبقى فى اللب منه بين شباب الوادى .. وعلى مستوى العالم بأسره.
فالذات الإسلامية أو القومية ترى أن فى الإسلام أو التراث ما يعفينا من النهل من الحضارات الأخرى من علوم اجتماعية وإنسانية ومن عادات وتقاليد، وإن كانت تعجز بالطبع فى حالة الاعتدال عن رفض العلوم الطبيعية ومنجزاتها، اللهم إلا إذا اصطدمت النظريات العلمية بالثوابت المقدسة، ويمثل هذا الموقف الأخير - على اعتداله - مثالا قويا أيضا على الذاتية، حيث يتم النقل من الآخر مشروطا بتوافقه مع المنقول لدى (الأنا)، ويتم رفض ما لدى الآخر إذا لم يتوافق مع المنقول لدى (الأنا).
هذه النظرة غير الموضوعية هى التى دفعت د. محمد عمارة ليكتب فى معرض مدحه للعقلية العربية "وأن رأس هؤلاء الأعلام ورأس هذا التيار جمال الدين الأفغانى، عربى النسب، وإن ولد ونشأ فى بلاد الأفغان، فنسبه يرجع إلى الحسين بن على بن أبى طالب، وعربى العقل والفكر منذ نشأته الأولى، فقبل أن يبلغ الثامنة عشر من عمره كان قد درس علوم : العربية، والتاريخ، وعلوم الشريعة، من تفسير وحديث وفقه وأصول، وكلام وتصوف والعلوم العقلية، من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية تهذيبية وحكمة نظرية طبيعية وإلهية، والعلوم الرياضية، من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، ونظريات الطب والتشريح (19). وهكذا يتم تفسير دور جمال الدين الأفغانى وريادته لحركة الإصلاح الدينى والسياسى فى المنطقة فى القرن الماضى بأصوله العربية، وموروثاته البيولوجية، وليس إلى عبقرية ما تخصه هو كفرد حقيقى وواقعى، وإنما إلى عبقرية السلالة والعرق والحضارة، كذات مجردة ومثالية.
وتكرارا لتلك المحاولة الهزيلة للاستعلاء بالذات على الآخر يكتب "ذلك أن أوروبا، ذات الحضارة المتميزة بطابعها المادى فى الأساس، قد طوعت المسيحية ديانة السلام المتصوف والصوفية المسالمة لطابع حضارتها المادى المتميز" (20).. وهكذا تتحول الحضارات الأوروبية بأسرها إلى مجرد إنجاز مادى يميزها عن كل الحضارات.. ويتم التعامى عن أن الفلسفة الحديثة هى امتداد للفلسفة اليونانية الأوروبية المنشأ، كما كانت الفلسفة الإسلامية امتدادا للثانية، ويتم تناسى أن الأساطير والمسرح والآداب والفلسفات اليونانية تزخر بالحكمة والقيم الإنسانية الرفيعة.
وقد أعطت هذه الحضارة العالم أصول الفكر السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وقد زخرت أوروبا منذ عصر النهضة وإلى الآن بالأعمال الفنية والأدبية والفلسفية.. فليست أعمال دانتى وشكسبير، ودافنشى ورودان، وبيتهوفن وموزار، وديكارات وبيكون مجرد إنجازات مادية، ولا يمكن أن نعتبر أن توما الإكوينى ومارتن لوثر وكلفن باعتبار أنهم مصلحين دينيين ذوى أصول عربية ترجع لقريش، وماذا عن أوروبا الحديثة وقد تحدثنا عنها سابقا ؟!!
ويكتب ميشيل عفلق" أن العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصية.أن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية أو كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية"(21).وهو هنا يتغافل أن الإسلام معنى بالصراع بين المؤمنين به وبين الكافرين به أيا كانت قومياتهم ،وأن الإسلام وإن كان نشأ بين العرب إلا أنه دين موجهه للعالم بأسره،ولم يدع الرسول أنه موحد العرب وقائد ثورتهم القومية ،وإنه ما أتى إلا ليوحدهم.وإنما أتى ليهدى العالمين، وهذا هو ما فهمه المسلمون من رسالته .وأخيرا ما رأيه فى العبرانيين الذى وحدهم وقادهم النبى موسى على أساس دينى وباعتبارهم شعب الله المختار ،وما رأيه فى ما فعله جانكيزخان مع المغول ،والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها. ألا أن القاعدة التاريخية تقول: أن عمليات توحيد القبائل البدوية لتأسيس الدول كانت غالبا ما تتم على أساس من رسالة دينية موجهه من الإله الرئيسى لهذه القبائل من خلال القائم بعملية قيادة التوحيد القبلى.
إلا أن الذات المتضخمة لا تعرف إلا لغة المدح للذات وتجاهل الآخرين أو ذمهم، وهى فى الحالتين تشوه وتزيف وتكذب وتظلم ،وتدعى.ومن هنا تكتسب لا أخلاقياتها يرى شكيب أرسلان"أن العرب أمة ،ويتغنى بمزاياها،فهى أمة نجيبة قد أتاها الله من معادن الفضل ومدارج النبل ومطالع الذكاء ومنابت الشجاعة ومقاطع الكرم ما لم يؤت غيرها من أمم البسيطة"(22).وهكذا يرى العرب أذكى أفضل وأنبل وأشجع وأكرم البشر قاطبة.المحرومين قدريا من كل هذا الذى وهبه الله للعرب.وهى نفس رؤية النازيين للألمان ،والصهاينة لليهود وهكذا.
وأخيرا : لماذا تنظر الذات المصرية أو العربية أو الإسلامية إلى العالم بأسره وكأنه لا يتكون إلا من هذه الذات، والآخر وهو أوروبا أو غربها على وجه التحديد ؟ هل حاول هؤلاء المتحدثون باسم هذه الذوات أن يعرفوا شيئا عن حضارات شرق آسيا أو جنوبها ؟ ألا يحق للصينيين أن يقولوا : "نحن الذين أنجبنا كونفوشيوس ولاوتزة واكتشفنا البارود والمطبعة والورق وأوراق البنكنوت ونظام الخدمة العامة، ومن ثم فإن لنا ذاتا قومية وحضارية عظمى، تغنينا عن النهل من الحضارة الحديثة، والحضارات الأخرى، حيث لم يكن أحد من هؤلاء البرابرة المحيطين بنا من خارج المملكة السماوية يدانينا مجدا فى الماضى". ماذا ستصبح صورة العالم لو ساد هذا المنطق، وما أثره على الحضارة العالمية، وعلى مستقبل البشرية؟ أليس عرقلة التقدم إن لم يكن كبحه ؟! لماذا يصر هؤلاء المتثاقفون والمتعالمون، الذائبين وجدا فى ذواتهم الجماعية، على العيش على الأوراق الصفراء، والأمجاد القديمة التى لم يشاركوا فيها، وإنما صنعها آخرون، لا ينتمون إليهم إلا بالنسب، ولا إلى عصرهم إلا عبر الكتب والآُثار ؟! والحقيقة أنه لا يحق لهم أن يفخروا بهم حيث لم يساهموا فيما صنعه هؤلاء.. سنؤجل الإجابة إلى نهاية الموضوع.
الحقيقة الموضوعية التى لا تخطئها عين هى أن كل جماعة بشرية هى كائن متغير، متحرك بالنشوء من القديم السابق عليه، والنمو بما يعنيه من تطور، والشيخوخة والاندثار، ليتحول لشئ آخر مخالف لأسلافه.. وهكذا، فنحن، المصريين الجدد، لا ننتمى إطلاقا و بأى حال للمصريين القدماء، إلا أننا تواجدنا عبر التاريخ فى نفس المكان، وربما حصل بعضنا على بعض موروثاتهم البيولوجية، إلا أننا جميعا لا نتحدث لغتهم رغم أن ما نتحدث به من لغة متأثر بتلك اللغة ، وبالتالى لا نقرأ آدابهم ،ولا نمارس الحياة مثلما كانوا يمارسون، وأصبحت لنا عادات وتقاليد وأفكار وقيم ومعتقدات مختلفة كل الاختلاف عما كانوا هم عليه، قد وفدت علينا من أمم أخرى من الشرق والغرب، وها نحن نكتسب أيضا عادات وتقاليد وأفكار مختلفة عما كان لآبائنا الأقربين،ومن استمع إلى الأجيال المسنة سيدرك كم تطورت العامية فى خلال خمسون عاما،ومن يقرأ الصحف القديمة سيعلم أن لغة الكتابة وأسلوبها قد تغيرا على نحو كبير.. وهكذا الحال فى كل الجماعات البشرية فى العالم بأسره، التى تنطلق نحو التوحد فى جماعة بشرية عالمية واحدة، لها ثقافة عالمية واحدة بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا لهذه الثقافة.
والحقيقة الموضوعية الأخرى هى أن كل جماعة بشرية لابد أن تتكون من أفراد أخلاقيين ولا أخلاقيين، مثاليين وماديين، عباقرة وأغبياء، نشطاء وكسالى، شرفاء وأوغاد، نظيفين وقذرين، منظمين وفوضويين، أرقاء وقساه، واقعيين وخياليين..
وما بين كل هذه الأقطاب من درجات، بل إن الفرد الإنسانى فى ذاته قد يمر عبر تاريخ حياته بلحظات متنوعة من الأنانية والغيرية، من الذكاء والغباء، من النشاط والكسل.. فما بالكم بأمة بأسرها تتمايز إلى هؤلاء الأفراد المتنوعين، وتتمايز إلى طبقات اجتماعية، تختلف فى مصالحها وظروف حياتها، وتتصارع فيما بينها، وتتمايز فى أخلاقها وسلوكها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وثقافتها، فكيف تتم محاولة تجميع كل هذا التنوع فى قالب واحد وخالد، يقال عنه جوهر الأمة، ذاتها، تراثها، روحها الخالدة ؟!!وإذا تسائلت صادقا فى رغبتك فى الفهم ،عن هذه الروح الخالدة تمت الإجابة بعبارات مبهمة.لا تفصح إلا عن تشوش لا حد له،وغموض لا يوحى بالعمق إلا للسذج، فالواقع برغم تعقده إلا أننا يمكن أن نعبر عنه ببساطة لغة العلم.فأصعب نظريات العلم يمكن فهمها فى النهاية لأنها تعبر عن أفكار واضحة حتى لو عجز عن فهمها معظم البشر فعلى الأقل يفهمها العلماء، ويستطيعون استخدامها عمليا.أما الكائنات الغيبية كالأرواح فلا يمكن إدراكها أو فهمها ومن ثم تستعصى على التوضيح ومن ثم لا يمكن التعامل معها إلا بمنطق الإيمان والكفر فحسب،فى حين أن حقائق العلم ونظرياته لا يمكن التعامل معها إلا بمنطق المعرفة والجهل فقط.
الحقيقة أن المحاولة فاشلة منطقيا، إلا أن سببها واضح، ومن هناك تكتسب وظيفتها الاجتماعية، ألا وهى : طمس الصراع الطبقى الحقيقى من أجل صراع عنصرى وهمى.
ولقد تعلمنا من التاريخ أن كل حركة سياسية تتبنى فكرة كونها معبرة عن ذات جماعية ما وممثلة لجماعة ما - قومية كانت أو دينية أو حضارية أو عنصرية أو ثقافية أو طبقية - لابد أن تكون استبدادية الطابع، حيث يتم قمع الجماعة البشرية المعنية بأسم الذات الجماعية، فالبعثية والناصرية فى العالم العربى، والنازية والفاشية فى أوروبا، وحكم آيات الله فى إيران.. مجرد أمثلة من كثير، حيث يتفقون فى شئ واحد على اختلافاتهم، هو : قمع بعض طبقات وشرائح وفئات المجتمع، باسم ذات المجتمع، لصالح إحدى طبقات أو شرائح أو فئات هذا المجتمع.
الذاتية والباب إلى التلفيقية :
لأن الذات تحاول أن تثبت وجودها وتميزها على أساس تراث خلقته ظروف تاريخية لا دخل للذات فيها، وقد زالت هى الأخرى، ولما كان الحاضر يمارس نفوذه وتأثيره اللذين لا يمكن مقاومتهما، فكان لابد من التوفيق والتلفيق، وبالتالى عرفت إسهامات كتابنا سلسلة من الثنائيات (الأصالة والمعاصرة - الروح والمادة - النقل والعقل - التراثية والحداثة.. الخ).. ولما كانت هذه الأفكار هى تعبير عن واقع حاضر وحى، فإن التعبير عن مشكلات الواقع يتم فى هذه الحالة بمفردات آتية فقط من الماضى، والتى كانت تعبر عن واقع انتهى منذ زمن طويل، فذهب البعض فى سبيل الخصوصية قومية أو دينية إلى أن هناك إمكانية صياغة نظام اقتصادى إسلامى أو عربى أو مصرى حسب الخصوصية المقدسة التى ترفع لوائها الجماعة السياسية، فتحدث الأوائل عن رفض ظاهرة الندرة فى الموارد الإنسانية وصياغة علم الأرزاق، واتجه الآخرون إلى التلفيق بين الاشتراكية والرأسمالية، والحقيقة هى أن كل ما كتب فى الاقتصاد الإسلامى أو القومى هى تلوينات مختلفة للاشتراكيات الإصلاحية التى هى فى حقيقتها نوع من رأسمالية الدولة، تحت مسميات إسلامية أو قومية، إلا أنه لا يوجد جهد علمى حقيقى لتحليل كل من القيمة و فائضها والأجر والربح والفائدة والعرض والطلب والثمن... وفق مفاهيم إسلامية أو قومية ؛ فهذه فى الحقيقة مهمة علمية بشرية عامة، لن تخرج فى هذه الحالة عن حدود الاقتصاد السياسى البرجوازى دون الاقتراب من الاقتصاد السياسى الاشتراكى الذى تتعارض استنتاجاته السياسية مع أهداف الإسلام السياسى أو الحركات القومية، وبالتالى فإنه يتم تجاوز المهام العلمية لوضع برنامج سياسى عام تحت اسم الاقتصاد الإسلامى أو القومى مصحوبا بنظريات أيديولوجية لا تخرج عن الإصلاحية بدرجاتها المختلفة التى تزعم لنفسها بدورها إنها ليست برأسمالية ولا بشيوعية، وأنها تأخذ بحسنات النظامين، وترفض مساوئهما.. وكأن النظم الاقتصادية تحدد وفق إرادات ما، ولا تفرضها الظروف الموضوعية
يكتب د.محمد محمود الأمام" ويبنى الفكر الاشتراكى العربى اختياراته وفقا لمتطلبات التنمية باعتبارها الهاجس الأساسى لدول تعيش مراحل مبكرة من النمو بينما تتسارع وتائر التقدم فى أنحاء مختلفة من العالم سواء فى الدول المتقدمة أو فى عدد من الدول النامية فى الوقت الذى تتراكم فيه عوامل التراجع فى أجزاء أخرى من العالم"(23) والآن نسأل ما هى علاقة الاشتراكية أصلا بالتنمية؟ فالاشتراكية أيديولوجية للتحرر والعدالة ،وهى لن تتحقق إلا على أساس من تغيرات جوهرية فى قوى الإنتاج والوعى الاجتماعى ومن المفترض أن تسبقها على هذا النحو مراحل من التنمية قد تقوم بها الدولة فى شكل رأسمالية دولة أو يقودها الرأسماليون بمساعدة الدولة أو بدونها. والمشكلة أن أنصار اشتراكية أو رأسمالية الدولة أيا ما كانت أصولهم الفكرية ،ماركسية أو قومية أو دينية يتحدثون عن الإصلاح والتنمية فى إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية ،وقوى الإنتاج الرأسمالية، والوعى الاجتماعى الرأسمالى ،لعدم قدرتهم على تجاوز كل ذلك موضوعيا حتى الآن .إلا انهم يخلطون حديثهم هذا بالاشتراكية أو بإعلان الاختلاف عن الرأسمالية لرغبة فى التميز عن شكلها التقليدى النقى،أو لتبرير ضرورة الخروج عن شكلها التقليدى إلى شكل آخر، إلا أنهم لا يخرجون فى كل الأحوال عن جوهرها الذى يتحدد بشكل إنتاج وتوزيع الفائض الاجتماعى، وليس بشكل الملكية.إذ أنهم يستهدفون التنمية والإصلاح فى داخل نفس العلاقات الرأسمالية ،ولا يستهدفون التحرر والعدالة المفترضين فى الاشتراكية.
العلم يدرس الواقع الملموس وقد يتنبأ بتطورات ظواهره فى المستقبل، أما الرؤية الخيالية أو الخرافية فهى تصور عقلى للمستقبل قد يتحقق فى الواقع أو لا يتحقق، حسبما يتفق مع الضرورات الكامنة فى الواقع أولا يتفق معها.
ونحن نعرف أن الاقتصاد السياسى البورجوازى بدأ منذ ظهور البرجوازية فى غرب أوروبا كعلم يدرس ظاهرة اجتماعية طرأت على المجتمعات التى ظهر فيها هذا العلم، وهى نشوء الرأسمالية كنظام اجتماعى اقتصادى.. وبالتالى لم يظهر كتأسيس إرادى لنظام اجتماعى اقتصادى، فهو علم يدرس الظاهرة الاقتصادية الرأسمالية من وجهة نظر البرجوازية، ومن ثم نشأ الاقتصاد السياسى الماركسى كنقد علمى لهذا العلم، من وجهة نظر الطبقة العاملة، إلا أن تصور الماركسية عن المستقبل لم يتحقق حتى الآن.
فالنظم الاقتصادية الاجتماعية لا توجد بالبرامج السياسية ولا تسبقها التأسيسات النظرية والعلمية، والتى لا تبدأ إلا مع نشأة النظم فعليا، والتى توجد كتغيرات فى نظم أسبق، تفرضها ضرورات موضوعية، مستقلة عن الإرادة والوعى : فنشوء الرأسمالية فى أوروبا لم يكن نتاجا للطابع المادى لأوروبا، بل ناتجا لتضافر حركة الكشوف الجغرافية الكبرى، ومن ثم التراكم البدائى لرأس المال، ثم الثورتين العلمية والصناعية.. لتبدأ الرأسمالية كنظام اجتماعى أكثر قوة، وليكسح من أمامه كل النظم التى كانت سائدة قبله، ليس فى أوروبا فحسب، بل فى العالم بأسره.
وكان هناك إمكانية لأن يسبق العالم الإسلامى أوروبا فى الوصول إلى الرأسمالية بما تراكم لديه من ثروات هائلة نتيجة سيطرته على التجارة العالمية، إلا أن هذه الإمكانية كبحتها على نحو متواصل عمليات النهب المتواصل من قبل الحكام للثروات المتراكمة فى أيدى التجار، مما حرمهم من فرص تحويل هذه الثروات إلى رأسمال، فى حين استطاع البرجوازيون فى المدن الحرة فى أوروبا والمستقلون عن سيطرة النبلاء الإقطاعيين أن يتحولوا إلى رأسماليين نتيجة عدم تعرض ثرواتهم للنهب من قبل الحكام والإقطاعيين والذين تحولوا بدورهم إلى رأسماليين.
وفى الحقيقة قد أدت هذه العملية إلى نشوء الحضارة الرأسمالية التى شكلت قطيعة نسبية مع الحضارة التى كانت قائمة فى غرب أوروبا قبلها، وما لبثت هذه الحضارة الرأسمالية الجديدة أن انتقلت من مركزها فى غرب أوروبا لتصبح هى الحضارة السائدة عالميا، وهى عملية وإن كانت قد قطعت شوطا كبيرا للغاية فى سبيل توحيد البشرية فى حضارة واحدة، إلا أنها مازالت مستمرة فى ابتلاعها كل الخصوصيات الحضارية الأخرى.
المصادر
(1) عادل حسين: "الإسلام دين وحضارة - مشروع للمستقبل" صـ36.
(2) د. محمد عمارة: "العرب والتحدى" صـ71.
(3) جورج المصرى : "الحرب العراقية الإيرانية – رؤية قومية" – سلسلة اليقظة العربية – السنة الرابعة – العدد الرابع، مايو 1988، صـ35.
(4) أمين أسكندر-اليسار العربى وقضايا المستقبل-الحركة التقدمية العربية-مصدر سابق-ص372.
(5) د. محمد عمارة: "العرب والتحدى" صـ47.
(6)سناء المصرى – حكايات الفتح-دار سينا – القاهرة-1997-الطبعة الأولى-ص وما بعدها.
(7)د.عبد العظيم رمضان-الصراع بين العرب و أوربامن ظهورالإسلام إلى أنتهاء الحروب الصليبية-دار المعارف-القاهرة-ص14.
(8)عادل حسين، الإسلام دين وحضارة، صـ45.
(9)بدر نشأت- مدخل إلى اللغة العامية المصرية لغة الفكر والحياه-مجلة القاهرة –عدد يونيه-ص32.
(10) د. عبد الهادى النجار، الإسلام والاقتصاد، صـ259.
(11) د.عبد العظيم رمضان-الصراع بين العرب وأوربا-ص170
(12) فهمى هويدى: "القرآن والسلطان" صـ18-19.
(13)محمد السعيد أدريس-الوفد والطبقة العاملة-ص43.
(14) أحمد طاهر_ الاشتراكيون والديمقراطية_ص317.
(15) د.رفعت السعيد –بيان مشترك صادر عن المنظمات الماركسية الثلاثة فى فبراير1957.
(16) أحمد العلمى: "مقدمات لتأسيس علم اجتماع إسلامى" مجلة الحوار الفصلية العدد الثانى 1987، صـ142.
(17) د. محمد مورو: "طارق البشرى شاهد على سقوط العلمانية" صـ19.
(18) سيد قطب :"فلنؤمن بأنفسنا" مقال بمجلة الفكر الجديد،15 يناير 1948.
(19) د.محمد عمارة :"العرب والتحدى"ص12.
(20) د.محمد عمارة- المصدر نفسه _ص227.
(21) ميشيل عفلق –فى سبيل البعث-ص128.
(22)د.عبد العزيز الدورى –التكوين التاريخى للأمة العربية –دراسة فى الهوية والوعى-دار المستقبل العربى-مركز دراسات الوحدة العربية-القاهرة-1985-الطبعة الثانية-ص185.
(23) د.محمد محمود الأمام-التطورات فى النظام الاقتصادى العالمى ومغزاه بالنسبة لفكر اليسار العربى –ص73
الذاتى هو الشخص الذى ينطلق من الذات فى حكمه على الأشياء من حوله، فهو يفهمها ويحدد موقفه منها ويتصرف معها انطلاقا من مشاعره ورغباته وتجاربه ومصالحه وميوله وأهوائه الشخصية، وإعطاء كل هذا الأولوية على مشاعر ورغبات وتجارب ومصالح وميول وأهواء الآخرين، وبصرف النظر عن الموضوعات التى تكون العالم من حوله، ومن هنا فالذاتية هى رؤية تجعل ما هو خارج الذات تابعا لهذه الذات موضوعيا، أى تراه منبعثا عنها، وفاقدا لاستقلاله.
وإذا كانت الذاتية مشتقة من الذات، فإن الموضوعية - وهى الطريقة المضادة فى التفكير - مشتقة من الموضوع، حيث إن العالم من حول الذات هو عدد لا نهائى من الموضوعات المتشابكة والمترابطة - طبيعية واجتماعية وفكرية - والطريقة الموضوعية فى التفكير واتخاذ القرار والاعتقاد والتصرف، إنها انطلاق الشخص فى حكمه على الأشياء من حوله وفهمها والتصرف إزاءها وتحديد موقفه منها من الحقائق الموضوعية، من الواقع، من الموضوعات، وإعطاء كل هذا الأولوية على المشاعر والتجارب والرغبات والميول والأهواء والمصالح الذاتية، وبصرف النظر عن كل هذا.
والموضوعية لابد أن تعترف بالذات، باعتبار الذات ظاهرة موضوعية، ولكنها تضع البنية أو الكل (أى الواقع الموضوعى) كشرط مسبق وحاكم لوجود الذات وطبيعتها، بعكس الذاتية التى - على العكس تعتبر العالم بكل موضوعاته من إنتاج ذوات.
وهكذا فإن الموضوعية والذاتية لا يعنيان إطلاقا استبعاد الطرف الآخر، وإنما إخضاعه : فإما إخضاع الذات للموضوع أو العكس.
وإذا كان كل إنسان هو "أنا"، وذات منفردة ومتميزة عن العالم من حوله، بكل موضوعاته، فإن هناك كذلك ما يمكن أن نسميه "النحن" ، أو الذات الجماعية، وهى التى تخص مجموعة من البشر يشتركون فى شئ ما يميزهم عن غيرهم من الجماعات الأخرى، فتوجد لذلك الذوات الدينية والقومية والمذهبية والعرقية.. الخ.
وكما يوجد للفرد ذات تتميز عن ذوات الآخرين، والذين يشكلون موضوعات لهذه الذات - كما يشكل هو موضوع لهذه الذوات أيضا. فلكل جماعة بشرية ذات تتميز عن ذوات الجماعات الأخرى - واللاتى يشكلن موضوعات لهذه الذات كما تشكل هى موضوع لهذه الذوات. فالذات فردية أو جماعية تتعامل مع الذوات الأخرى فردية أو جماعية كأشياء أو موضوعات.
إلا أنه يوجد فرق واضح بين الذات الفردية، كشيء حقيقى وواقعى، والذات الجماعية كشيء مفترض وتقديرى، حيث يتم إخضاع الأفراد ومصالحهم وذواتهم لذات عليا جماعية من خلال طمس ذواتهم الفردية الواقعية.
يبقى أن أشير أن الانفصال بين الذات والموضوع هو انفصال نسبى، فهناك من نقاط التماس بينهما ما يجعل الفصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف غير ممكن، ومن هنا نسبية الحقيقة. ففى حالة السرعات القريبة من سرعة الضوء.والتى تبلغ 300ألف كيلو متر فى الثانية يصبح وضع المراقب بالنسبة للموضوع المراقب حاسما فى رؤيته للموضوع المراقب، تلك الرؤى تختلف من مراقب لمراقب آخر باختلاف الأوضاع التى يراقبون منها.وهو ما لا يمكن ملاحظته فى حالة السرعات البطيئة.التى لا نلاحظ سواها فى حياتنا اليومية، فحالة السرعات الهائلة لا تلاحظ إلا فى عالم الجسيمات الأولية والأجرام الفلكية.
الذاتية تعنى أن يصبح كل ما فى الوجود من موضوعات دائر فى فلك الذات، ومكتسبا منها قيمته ومعناه بل ووجوده نفسه وتصبح الذات هى مركز الكون ، والذاتية شأنها شأن أى ظاهرة إنسانية تحمل أوجه عدة معقدة ومتناقضة، فالذاتية قد تؤدى إلى سلوك منحط أخلاقيا من الأنا تلبية لرغبات الذات فترتكب كل الموبقات ارضاءا للذات على حساب الذوات الأخرى، وتصبح الذاتية أساسا للسلوكيات الأنانية .
وعلى النقيض من ذلك فاحترام الذات من زاوية أخرى قد يؤدى لسلوك راق أخلاقيا من الأنا إشباعا لدافع التميز الاجتماعى و ارضاءا للذات أيضا، وقد يجد هذا الإشباع طريقه فى الإبداع فى العلوم والفنون والنجاح الاجتماعى، وتصبح الذاتية فى هذه الحالة أساسا للسلوكيات الغيرية.
والذاتية قد تسبب من الآلام النفسية والتعاسة ما لا حد له..فمع ما تحرم منه الذات من رغبات وما تتعرض له من الآم خلال رحلتها فى الحياة.يتضخم إحساسها بالألم ، ويأخذ أكبر من حجمه مع إحساس الذات المتألمة أنها مركز الكون ، وأن كل ما يصيب الذات من أضرار بمثابة كارثة كونية تعنى نهاية العالم .إلا أن الذاتية أيضا ومن زاوية أخرى قد تسبب السعادة حين تسعى إلى إثبات وجودها بالتميز والإبداع.الأمر الذى يستدعى التمسك بالموضوعية التى تصبح شرطا أساسيا فى تحقق الذات.
والموضوعية أيضا تنعكس فى السلوك وطريقة التفكير على نحو معقد ومتناقض.فالموضوعية البحتة تعنى القضاء على الدافع للفعل ،وتعنى الاستسلام للأقدار،وعدم محاولة تغيير الواقع، وعدم الدفاع عن الذات فى مواجهة الواقع أو الذوات الأخرى .
إلا أن الموضوعية فى نفس الوقت شرط جوهرى من أجل فهم الواقع على النحو الصحيح.ومن ثم اكتساب القدرة الفعلية على تغييره.
والآن سنرى كيف تنعكس كل من الذاتية والموضوعية فى الحركات السياسية والخطاب الفكرى للقوى السياسية والاجتماعية على النحو التالى:
كيف تتعامى الذات عن الحقائق وتلونها ؟
لما كانت الذات لا ترى العالم إلا من خلال نفسها فحسب، فإنها تصاب بنوع من العمى، فلا ترى العالم كما هو فى الواقع، بل ترى نفسها منعكسة على مرآة محدبة، فتجدها أضخم من العالم الذى تراه منعكسا على مرآة مقعرة فتجده الأصغر. ولما كانت مرايا العقل فكرية وليست مادية، فإن الذات ترى نفسها الأكبر والأعظم والأسبق والأجمل والأكثر خيرا.. الخ إذا كانت متضخمة، والعكس إن كانت منسحقة،كما ترى الآخرين، الأصغر والأحقر والأقبح والألحق، والأكثر شرا.. الخ إذا كانت متضخمة، والعكس إذا كانت منسحقة، وبالتالى فإن الذات تتعامى عن الواقع، عن الموضوع، والذى تتصوره من خلال نفسها مشوها بهذه الدرجة أو تلك. ولما كنا قد عرفنا خصائص العقليات النقلية فى الأقسام السابقة، فإننا سنبحث الآن خصائص الذاتية، والتى من أبرزها : التعامى عن الواقع.
ولما كانت الطريقة الذاتية قد تعبر عن الذات الفردية أو الجماعية، قومية كانت أو دينية، فإنها تمارس نفس العملية، يكتب عادل حسين "والمتفرنجون عندنا ابتلعوا كل هذه المفاهيم الغريبة عن ديننا وثقافتنا، وقد آن لنا أن نتصدى لهم فى المجال الفكرى و السياسى بهدف تصحيح المواقف.. إن المفهوم الذى ندعوا إليه هو مفهوم التنمية المستقلة المركبة، أو عملية التطوير لكل أنحاء المجتمع بطريقة متوازنة ومتسقة، وهى عملية مستقلة لأننا نحن الذين نقرر محتوياتها وتخطيطها وفق معتقداتنا ومثلنا"(1) وهكذا نرى كيف أنه انطلق من رفض المفاهيم الغربية فى التنمية، انطلاقا من إنها غريبة عن ديننا وثقافتنا، وليس لأنها صالحة أو غير صالحة علميا أو موضوعيا، فهو يرفضها كشيء مختلف عما يدعى انه ذاتنا القومية. ثم هو ثانيا يدعى أن هذه المفاهيم التى يرفضها تدعو إلى تنمية مختلفة عما يدعو هو إليه، من حيث التوازن والاتساق، وذلك بمفهوم المخالفة، وكأن هذا الغرب أحدث تنمية مادية فقط دون الجانب الفكرى، مع أن ذلك الغرب مازال هو المصدر الأساسى للتراث الإنسانى فى الثلاثمائة سنة الأخيرة على الأقل، بل ولأفكار عادل حسين نفسها، بل وحتى أفكار سيد قطب : فالأفكار المتعلقة بالذوات الحضارية والقومية والعنصرية لم تعرفها الإنسانية إلا على يد الكثير من الفلاسفة الأوربيين مثل هيجل ونيتشه وفيشته، وفكرة سقوط الغرب قد بشر بها شبنجلر، ومقولة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" قد قالها كبلنج الاستعمارى الإنجليزى... وهكذا.ومثل هذه الأفكار هى تعبير عن الفكر القومى والعنصرى وهو وليد الحضارة الرأسمالية، والذى لم يعرف على هذا النحو العميق إلا من خلالها، لتبرير النزعات الاستعمارية والعنصرية والفاشية، ولتأسيس الدولة القومية الحديثة. ثم إننا منذ ابن خلدون وابن رشد لم نعط العالم مفكرين أصلاء بشكل حقيقى، ولذلك فإننا لا يمكنا أن نستبدل ماركس وكونت ودوركايم بابن خلدون ؛ لأنه مهما كانت أصالة علم ابن خلدون، فإن إنتاجه العلمى فى مجال علم الاجتماع سيظل متخلفا عن إنتاج كل هؤلاء، بمقدار ما تجاوزوا هم ابن خلدون.. وقس على ذلك سائر العلوم والفنون والآداب.. وهكذا هى الحركة الإسلامية – كما أوضحنا سالفا – لا ترى فى الغرب سوى النهضة العلمية والمادية، ولا ترى فيه الجوانب الأخرى، وتدعى أن نموه نمو أعرج، وتدعى أن ما تملكه هى من تراث عفى عليه الزمن أرقى وأكمل.
وعلى نفس الخط تتوالى الكتابات الزاعقة فى بلاغتها وخطابيتها ، الفارغة من المضمون فى حقيقتها، والتى تحاول أن تثبت التميز والتفوق عبر ماضى صنعه أبناءه، مادام حاضرنا لا ينبأ عن خير وهكذا بمحاولة إثبات وجود جوهر ثابت وخالد، لجماعات بشرية يفترض أيضا خلودها وثباتها، فيصف د. محمد عمارة الحضارة العربية الإسلامية بـ.. "وكذلك وازنت هذه الحضارة بين "السلم" و"الحرب" ففتوحات أمتها، كانت فى الجوهر والحقيقة، تحريرا وإزاحة لموجات غازية عن ديارها، ولم تكن فى الجوهر والأغلب عدوانا" (2).
وهكذا تتحول الفتوحات إلى حروب تحرير، فمن أى استعمار (وهو ظاهرة حديثة) حرر العرب إيران وبلاد الترك والهند وأسبانيا والبرتغال وبلاد المغرب ؟! وهل كانت كل هذه الفتوحات ردا لموجات غازية ؟ فى الحقيقة لا، وإنما كان الفتح يتم لنشر الإسلام، وحكم أهل البلاد المفتوحة، وفرض الجزية على من لم يسلم منهم، واستخراج الخراج من فلاحيها، وقد كان هذا طابع العصر كله، سواء أتم الفتح من العرب أم من غيرهم. وماذا عن اضطهاد الموالى واعتبارهم رعايا من الدرجة الثانية لا يحق لهم الحكم ؟. وما الفروق الحقيقية بين حكم العرب، وحكم الروم والفرس ؟. وكيف اعتبرها الكاتب عدوانا وغزوا فى حين أن الفتوح العربية تحريرا وإزاحة. إلا إذا كان يكيل بمكيالين؟!
إلا أن هذا ليس غريبا عن الرؤية الذاتية المزدوجة المعايير دائما، حيث إنها تقوم على ثنائية (الأنا / الآخر) من حيث هما هويتان مغلقتان إلى الأبد، ومن ثم فإن أيا منهما ثابت وخالد ومطلق.
وانطلاقا من هذه الذاتية يفسر قوموى عربى الحرب العراقية الإيرانية على أساس إنه "كان ظهور الإسلام صدمة للفرس قابلوه بالعداء والحقد.. ومزق ملكهم كسرى كتاب الرسول الذى دعاهم إلى الإسلام" (3).. وهكذا يتم التعامى عن استغراق الرسول واحد وعشرين عاما، ومن بعده أبو بكر عامين، ليثبت إيمان العرب بالإسلام، بعد تاريخ حافل من المعارك الضارية والصراعات الدموية، إلا أن الذات القومية تتعامى عن حقيقة الذات الأخرى الفارسية التى أعطت الإسلام، عددا ضخما من كبار علماؤه وفقهائه.. وأعطت الحضارة الإسلامية عددا كبيرا من علمائها وفلاسفتها وأدبائها. وانطلاقا من هذه النظرة، يتم تفسير حرب معاصرة قامت لحسم من عليه أن يسيطر على منطقة الخليج بعد سقوط الشاه بالثورة الإسلامية فى إيران ؛ فأدعى صدام أنها القادسية الجديدة، وأدعى الخمينى إنها الحرب المقدسة ثأرا لدم الحسين وعلى، حتى يأتى أحدهم ليقول لنا إنها حرب بين "ذات العرب المؤمنة وذات الفرس الكافرة".
ونموذج آخر على التعامى عن الحقيقة يكتب أمين أسكندر:" وجاءت الضربة الأخيرة-حتى الآن-عندما واجه العدوان الأطلسى العراق-الدور والقوة وبعدها حدث ما نعيشه الآن"(4) وهو بهذا يتناسى أن النظام العراقى نفسه هو الذى تسبب بغزوه للكويت فى هذا الذى يسميه عدوانا أطلسيا شاركت فيه كل من مصر وسوريا والسعودية ،وذلك لإنقاذ الشعب الكويتى -قبل أن يحرر الأرض الكويتية- من المصير الأسود الذى تعرض له شعب العراق منذ وصول البعث الصدامى لحكم العراق، والذي يعتبر حكم "آل الصباح" العشائرى الرجعى المتخلف بمثابة مرحلة أكثر تقدما من النظام الفاشى الوحشى فى العراق الذى أهدر فرصة تاريخية لا تعوض فى الارتقاء بالشعب العراقى إلى مصاف الشعوب المتقدمة بما يمتلكه من ثروات بترولية وزراعية وكوادر مثقفة ومتعلمة وتراث حضارى، بعكس معظم بلدان الخليج الأخرى،ليهدر كل هذه الإمكانيات الهائلة فى مغامرات هتلرية كان ضحيتها الأولى الشعب العراقى نفسه ومستقبله القريب على الأقل ،نفس هذا النظام الذى واتته الخسة فى أن يضرب جزءا من الشعب المنكوب بحكمه بالغازات السامة.أما عن دور العراق وقوته فقد استنزفهما النظام فى الحرب مع إيران،ثم أن أحدا لم يدعوه لغزو الكويت، واستفزاز الغرب الإمبريالي، فحدث للعرب ما حدث من تمزق أمام عدوهم الرئيسى"إسرائيل" الذى لم يواجهه النظام العراقى مثلما حارب إيران طوال تاريخه.
والرؤية الذاتية لابد أن تحمل تناقضا، لا شفاء منه، فالجماعات الإسلامية تقع فى تناقض بين إنكارها وجود سلطة مقدسة أو كهنوت فى الإسلام أو فى النظام الإسلامي، وبين إصرارها على ضرورة الاحتكام إلى هذه السلطة نفسها واعتبار نفسها هى الممثلة لصحيح الدين والعقيدة، صحيح انك لن تأخذ الدين على يد مؤسسة كهنوتية منظمة كالكنيسة مثلا، إلا إنك لن تأخذ الإسلام إلا من فقهائه وعلمائه، والذين سيشكلون مرجعية تحتكر حق تفسير الدين وتأويله، والحكم على الأشياء انطلاقا من احتكارهم هذا الحق، وسيصبح الخروج عن تفسيرهم وأحكامهم خروجا عن الدين ذاته، وتتكرس بذلك سلطتهم الكهنوتية بلا ألقاب أو مؤسسات.
وتتأسس هذه السلطة على أساس من فكرة الذات الجماعية، الجوهر الواحد، الأصول الثابتة.. الخ، حيث توجد فكرة مجردة يجب الحفاظ على نقائها، وهذا يتطلب قوامين على هذا الحفظ. أى : سلطة، وهى الباعث الحقيقى والواقعى لإنشاء فكرة الذاتية الإسلامية. فإقامة الخلافة الإسلامية وتطبيق شرع الله بواسطتها هى الشعارات السياسية المعلنة للحركة الإسلامية.. ومن هنا يأتى تلوين الحقائق و التعامى عنها فالخطاب الإسلامى يبشرنا بمجتمع بلا كهنوت، حيث يتحرر البشر من سلطانهم، إلا أنه وفى نفس الوقت يقول أن خضوعنا لسلطة الخلافة ذات الطابع الدينى هى هدفه السياسى الأساسى الذاتية وتزييف الحقيقة الموضوعية :
لا تكتفى الذاتية بالتعامى عن الحقائق، بل إنها تزيفها عامدة، تلبية لرغباتها الخاصة، يكتب د. محمد عمارة " فلقد ساعد قبط مصر جيش عمرو بن العاص فى حربه ضد جيش الاحتلال البيزنطى"(5). وهو لا يقارن هذا بموقف المصريين الناقمين على الاحتلال الإنجليزى، الذين كانو يهتفون "إلى الإمام يا روميل" بمنطق عدو عدوى صديقى. وما رأيه إذن فى مقاومة الأقباط للفتح والسلطة التى نتجت عن الفتح، ومنها ثورة البشموريين بقيادة زعيمهم المسمى "مينا"-وهو غير موحد القطرين بالطبع وليس مار مينا -والتى قضى عليها الخليفة المأمون؟!(6).. وهى الحقيقة التى لا تذكر فى كتب التاريخ الرسمية. وما رأيه فى الحملات الصليبية على الشرق العربى والتى كانت تدعى أنها ما أتت إلا لتحرير القدس من حكم المسلمين الذين انتزعوها من الروم المسيحيين قبل 300 عام من بدء الحملات ؟ أيعتبرها فتحا وتحريرا أم غزوا واحتلالا ؟.
ولا يقتصر الأمر على الإسلاميين والقوميين ففى كتاب تاريخى ذو طابع أكاديمى ليس موجها بالطبع إلى عامة القراء يكتب د.عبد العظيم رمضان"فقد كانت مصر من أكثر بلاد العالم مناعة ضد النفوذ الأجنبى،والمؤثرات الأجنبية،وقد احتفظت بشخصيتها القومية فى عهد البطالمة وفى عهد الرومان، فلم تتكلم اللغة اليونانية ولا اللغة اللاتينية، ولم تعتنق عبادة سيرابيس و لا عبدت أباطرة اليونان و لم تغير دينها إلا مرة واحدة قبل العرب،حين اعتنقت المسيحية بالقوة، و لكنها فى أقل من قرن واحد بعد فتح عمرو بن العاص لها،اعتنقت دينا جديدا ولغة جديدة وفنا جديدا ودام ذلك حتى بعد أن زال سلطان العرب عنها، وتحولت إلى بلد عربى لا يقل عروبة عن عرب شبه الجزيرة"(7).
فى هذه الفقرة وحدها كم من المغالطات التاريخية التى صدرت عن مؤرخ يحمل لقب أكاديمى فى مجال تخصصه مما يبين ما يمكن أن تفعله الذاتية فى البحث العلمى من تزييف وهى:- أولا:-أن مصر من أكثر بلاد العالم مناعة ضد النفوذ الأجنبى وهى التى ظلت لفترات طويلة فى تاريخها محكومة ومتأثرة بالضرورة بالحكم الأجنبى وذلك ليس لعيب ذاتى فى المصريين، ولكنه قدر المكان (المعبر والوسيط) بعكس بلاد أخرى كاليابان وكوريا والصين ، و التى نظرا لمواقعها الجغرافية لم تتعرض إلا فى العصر الحديث فحسب للنفوذ الأجنبى. ثانيا :-عدم تأثر المصريين باللغة اليونانية فى حين أن الأقباط قد كتبوا لغتهم بالحروف اليونانية مضافا إليها سبعة حروف لتناسب الأصوات غير الموجودة فى اليونانية. ثالثا:- أن المصريين اعتنقوا المسيحية بالقوة ،متغافلا عن أنهم هم الذين تعرضوا للاضطهاد ثلاثمائة عام بسبب إيمانهم بها ، وثلاثمائة أخرى دفاعا عن مذهبهم الخاص فى المسيحية،حتى أتى الفتح العربى وما استتبعه من اضطهادات متنوعة فى فترات تاريخية مختلفة خلال أربعة عشر قرن منذ الفتح. رابعا :- أن تحول مصر للعروبة والإسلام أستغرق أقل من قرن واحد ، وهذا ليس صحيحا على أى نحو حيث استغرقت هذه العملية عدة قرون على الأقل فى الأرياف وبالذات فى الصعيد حيث ظلت مناطق تتحدث القبطية حتى القرن السابع عشر ."بل ظلت اللغة المصرية باقية فى الحديث إلى عام 379 هجرية 997 ميلادية حتى أمر الحاكم بأمر الله فأبطل التكلم بها نهائيا"(8).ومازالت آثار الثقافة القبطية موجودة داخل مركب الثقافة المصرية برغم مرور كل تلك السنوات. مما يدل على أن عملية التحول لم تكن بتلك السهولة التى توحى بها الفقرة.
ومما يلفت النظر بحق أن ثلاثة على الأقل مما جعلهم حظهم السيئ عرضة للنقد فى هذا الكتاب ، حاملين للقب الدكتوراه ، وأحدهم كان يدرس لى بالجامعة ، لم يراعوا الأمانة العلمية، فى كتب ذات طابع أكاديمى، وزيفوا الحقائق من أجل إثبات أكاذيب، والأمر لا يتعلق بانحيازهم لمصالح اجتماعية معينة ،ومؤثرات ثقافية محددة فحسب .بل أن الأمر يتعلق أيضا بأخلاقيات العلم والبحث العلمى الذى لا يجب ألا يستهدف سوى الحقيقة الموضوعية منزهة عن أى غرض ذاتى من أى نوع.
ويكتب عادل حسين "ما جاء فى شرع الله ليحفظ حقوق الإنسان وكرامته.. بدءا من حرية الاعتقاد إلى حرية التعبير الفردى والجماعى بمختلف أشكال التعبير"(9).. فكيف تتوافق إذن حرية الاعتقاد مع ضرورة حرب المخالفين فى العقيدة والمرتدين عنها ؟! وهل يسمح بالدعاية لدين آخر مثلا فى الدولة الإسلامية،
هل يسمح بالدعاية للإلحاد مثلا ؟! وهل عرفت الدول الإسلامية حرية التفسير والتأويل للنص الإسلامى نفسه، أم أن تاريخها عرف اضطهاد كل من يخالف السلطة رأيها ؟! فأئمة أهل السنة والجماعة "أبو حنيفة" و"مالك"،و" الشافعى"، و"إبن حنبل" تعرضوا لاضطهاد الخلافتين السنيتين الأموية والعباسية.دع عنك أئمة الشيعة والخوارج. أليست حرية الاعتقاد لابد أن تشمل حق كل مواطن فى أن يعتقد ما يشاء، وأن يدعو إلى ما يعتقد، وألا يضطهد بسبب ما يعتقد.؟!! وهو ما يستبعده مفهوم حرية العقيدة الذى يدعيه الإسلام السياسى.
الذاتية لا ترى إلا تميز ذاتها هى عن الآخرين، يكتب د. عبد الهادى النجار "وقد سبق أن رأينا أبعاد تلوث فى البيئة الإسلام أوسع نطاقا فى هذا الفكر، على أساس أن التلوث ليس حصيلة عوامل مادية فقط، وإنما يضاف إليها عوامل أدبية" (10) وفى الحقيقة أن قضية تلوث البيئة، ترتبط أساسا بأسلوب الإنتاج الرأسمالى، والذى قد قام على أساس الثورة الصناعية، وهما لم يكونا على عهد ظهور الإسلام، هذه واحدة، والثانية أن جماعات الخضر وحركة حماية البيئة عموما تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات : اتجاه رجعى متطرف يريد العودة إلى ما قبل الرأسمالية والثورة الصناعية، وهو الأمر الذى لا يمكن أن يحدث ؛ لأنه – ببساطة – يعنى انخفاضا حادا فى الإنتاج لاستخدام وسائل إنتاج متخلفة، وهو مالا يتناسب مع الزيادة الحادثة فى عدد السكان وما نجم عنها من ازدياد الاحتياجات البشرية التى تتطلب إنتاجية أعلى. واتجاه إصلاحى يريدها رأسمالية تضع مصلحة المجتمع البشرى قبل مصلحة الطبقة الرأسمالية فى زيادة الربح، وهو الأمر غير الممكن، حيث تستهدف الرأسمالية زيادة الربح بصرف النظر عن مصلحة البشرية ،وبالتالى يتم تصدير الصناعات الملوثة للبيئة.. للعالم الثالث.. واتجاه ثورى يسعى لنمط إنتاج مختلف قائم على أساس تكنولوجيا أكثر تقدما، وبالتالى أكثر إنتاجية، وأقل تلويثا للبيئة وفى كل هذه الاتجاهات لا أحد يزعم أن التلوث ذو أسباب مادية فقط، وإنما يرتبط أساسا بأسلوب الإنتاج الرأسمالى، وما يرتبط به من أنماط للاستهلاك وأساليب للحياة.
ففى الرأسمالية لا يتم الإنتاج لإشباع الحاجات الاستعمالية فحسب، بل يتم دائما - وعلى نحو مطرد - خلق احتياجات غير ضرورية، ومن ثم سلع ترفيه كى تستمر عجلة الإنتاج القائم على السوق، مما يؤدى لإهدار الموارد على نحو مطرد فتحرق الغابات وتقتل حيوانات الفراء والعاج لإرضاء أذواق بعض شرائح الرأسمالية العليا، بصرف النظر عما يؤدى إليه ذلك من إخلال بالتوازن البيئى الضرورى، وهذا فحسب على سبيل المثال لا الحصر.
ويكتب د.عبد العظيم رمضان"أن العرب ينهزمون بخلافاتهم وتقاتلهم فيما بينهم بأكثر مما ينهزمون على يد الأعداء"(11).فما هو المقياس الإحصائى الذى يثبت هذا الزعم عبر التاريخ أم أن الأمر لا يخرج عن كونه عبارة إنشائية بهدف تشجيع العرب على الاتحاد ونبذهم للفرقة؟،وإرجاع هزائمهم وانتصاراتهم لسبب ذاتى وحيد مستبعدا كل الأسباب الأخرى موضوعية وذاتية.ومن ثم فالحقيقة الموضوعية هنا ليست هى الهدف المنشود ،وإنما هو الهدف الذاتى لدى الباحث..
ويفسر البعض ظاهرة صعود الإسلام السياسى بهزيمة 1967، وإن لم يكن هذا صحيحا على إطلاقه، حيث إن الظاهرة سابقة على الهزيمة، التى كان مبررها لدى الذات المصرية والعربية، هو البعد عن الإسلام، إلا أن الهزيمة شكلت أساسا للدعاية ضد العلمانية فى مصر، ومن هنا كان انتشارها.. فضلا عن ذلك فقد شكلت العودة إلى الأصولية الإسلامية أداة لتماسك الذات الجماعية المصرية والعربية من الانهيار المعنوى نتيجة هزيمتها أمام إسرائيل.
ومن ثم تم إغفال الأسباب الموضوعية للهزيمة عسكرية كانت أو سياسية، وهكذا تم إسناد الهزيمة لسبب لا علاقة لها به ،مثل البعد عن الله ، وليس بسبب عدم الكفاءة و تقصير القيادتين السياسية والعسكرية، الذى وصل إما إلى حد البلاهة أو حد الإهمال. إلا إذا اعتقدنا أن اليهود كانوا أكثر قربا لله من العرب فى ذلك الوقت،وأن المشركين فى" أحد " كانوا أكثر إسلاما من النبى محمد وصحابته .كما تم إسناد نصر أكتوبر 1973 لترديد كلمة "الله أكبر" وكأن من حاربوا فى 1967 لم يكونوا يرددونها، وأرجع النصر للتقرب من الله ، وليس لتجاوز الأخطاء التى أدت للهزيمة بالتدريب والتخطيط المبنيان على أسس موضوعية صحيحة.والتنفيذ المحكم والدقيق للخطط الحربية.
امتدادا لهذا التفكير يكتب فهمى هويدى "كان بيدنا سلاح استخدمناه مرة للانتصار ثم ألقيناه فمضينا على طريق الهزيمة والاندثار.. وعندما يطلق سراح القرآن سوف يطلق سراح هذه الأمة(12). هكذا يفسر تاريخ صعود وهبوط أمة بمجرد تمسكها وتخليها عن كتاب مقدس، حيث تربط الدعاية الإسلامية بين نجاح العرب على فتح المنطقة ما بين باكستان إلى أسبانيا فى فترة قصيرة من الزمن لتمسكهم بالقرآن، وقد عرفوا الهزائم منذ اللحظة التى تركوه فيها.
إلا أن هناك تفسيرا آخر هو الأقرب للواقع والعلم، هو أن الفترة ما بين 3000 عام قبل الميلاد والقرن الخامس عشر الميلادى، كانت تاريخ الصراع ما بين الشعوب الرعوية والشعوب الزراعية، حيث كانت تعيش الأولى فى الصحارى والبرارى مهددة بشكل دورى بالجفاف وزيادة التصحر، وفى هذه الأثناء فإنه كثيرا ما يحدث أن يتم توحيد عشائر وقبائل إحدى هذه الشعوب، تحت قيادة عشيرة أو قبيلة قوية أو أرستقراطية قبلية، أو حلقة من الفرسان حول زعيم قوى، وفى مرحلة ثانية بعد أن يتم التوحيد وتأسيس الدولة يتم غزو المناطق الزراعية فى موجات عارمة وسريعة من الغزو والفتح، لتصبح الدولة الرعوية مركز لإمبراطورية هائلة، تقوم على انتزاع هؤلاء الغزاة للخراج من الفلاحين المنتمين للشعوب الزراعية المغزوة أراضيها، وبعد قليل يندمج الغزاة مع الشعوب الزراعية، حيث تستقر غالبيتهم لتمارس الزراعة أو يعودوا من حيث أتوا... وهكذا شهدت تلك الفترة نفس السيناريو على فترات متقاربة، حيث أعداد ضخمة من الغزوات العاتية من الشعوب الرعوية بدءا من الهكسوس والفرس والهون والآفار والأتراك والمغول بقيادة جنكيز خان فى القرن والحادى عشر.. الذى وحد عشائر المغول تحت زعامته المطلقة بواسطة حلقة من الأتباع، وفرض على دولته الجديدة شريعة "الياسة" التى زعم أنها أوحيت إليه من آلهة السماء التى يعبدها المغول الشامانيون، ثم قاد جحافل المغول ليكتسحوا اليابسة الأسيوية بالكامل وشرق أوروبا فى غضون عدة سنوات، وأخيرا تيمورلنك فى القرن الخامس عشر وقد انتهت هذه الفترة باكتشاف الأسلحة النارية، ففقد الرعاة، ما كانوا يتميزون به على الزراع، حيث لم تكن أطراف المعارك تحارب إلا بنفس الأسلحة.. فأمام البنادق والمدافع ما كان للسيوف والنبال أن تصمد.
وليلاحظ معى القارئ أن الإمبراطورية الإسلامية تكونت أساسا فى عهد عمر بن الخطاب، الذى شهدت فترة حكمه "عام الرمادة" الذى كان أقرب ما يكون للمجاعة التى حدثت بسبب موجة من موجات الجفاف التى عمت الجزيرة العربية.
ومن يقرأ سيرة بنى هلال - وهى على أسطوريتها إنما تعبر عن حقيقة هجرة قبائل بنى هلال البدوية والرعوية نتيجة القحط الذى حدث بنجد إلى وادى النيل بمصر وتونس الخضراء - يعرف العلاقة بين البدو والحضر والرعاة والزراع على مدى التاريخ.
وأخيرا : لم تكن الحضارة الإسلامية هى ابنة الإسلام فحسب، بل ابنة لجهود متشابكة، وظروف مادية مترابطة، وكان أحد أسباب انهيارها فقد هذه المنطقة من العالم لتفوقها الاقتصادى، بسبب فقدها لسيطرتها على طرق التجارة العالمية، وتحول هذه السيطرة إلى غرب أوروبا، الذى استطاع من خلالها التحول إلى الرأسمالية، والتى بسبب ميلها الغريزى للتوسع - تمت لها السيطرة على العالم، وتحولت حضارتها من الإقليمية إلى العالمية.
وأخيرا فلنرى مثلا على الذاتية بكل عناصرها فيما يلى:" فأن مكرم عبيد قد تولى جانبا كبيرا من صنع زعامة النحاس بما يملكه من بلاغة وطلاوة فى أسلوبه.
وعندما شاء مكرم أن يتزعم تولت صحافة الوفد هدمه فعلا فقد أجمعت صحف الوفد فى ذلك الوقت على التنديد بموقفه والإشادة بزعامة النحاس "(13).وهكذا رأينا كيف تغير موقف الوفد ومكرم عبيد من بعضهما البعض، فمكرم كان يمتدح النحاس وصنع زعامته، وعندما اختلفا حاول مكرم هدم النحاس مستخدما سلاح الخطابة الذى استخدمه فى البناء ،ومن الناحية الأخرى تحول مكرم فى صحافة الوفد من الابن الروحى لسعد زغلول إلى عميل للسرايا وفى كلتا الحالتين لم يكن للموضوعية مكان.
ويدعى أحمد طاهر بأنه"لا جدال فى أن الشعار السياسى الوحيد الذى تتفق عليه حاليا كافة القوى السياسية فى مصر هو المطالبة بالديمقراطية السياسية والحريات الأساسية للشعب المصرى"(14).وهو يتجاهل هنا أن القوى السياسية الحاكمة لا تحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان كما يدعى وهى قوى لا يمكن تجاهلها فى البحث لما تملكه من أغلبية ،وأن الجماعات الإسلامية ما بين معتدلة ومتطرفة تستنكر الديمقراطية وتعتبرها ليست من الإسلام فى شيء وهى القوة السياسية المعارضة الأساسية فى المجتمع الآن، وأن الخلافات تم حسمها داخل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بأساليب فاشية، والأمثلة أكثر من أن تحصى فى هذا السياق، فلماذا إذن يعتبر أن كل القوى السياسية تحولت فجأة إلى الديمقراطية إلا إذا كان الهدف هو تبرير تحالف تلك النخب المعارضة ضد الحكومة تحت شعار الديمقراطية الذى سينقض عليها الطرف الأقوى حين يصل إلى السلطة.والمسالة لا تكمن فى لاأخلاقية هذه القوى وأنما يكمن فى أيديولوجياتها التى تقوم على فكرة التمثيل الأوحد للحقيقة أو الأمة أو الطبقة العاملة أو الطبقات الشعبية مما لن يجعلها تحترم قواعد الديمقراطية كما يدعى. وهو شانة فى ذلك شأن المدرسة الماركسية المصرية الوطنية التى تربى على إنتاجها الأيديولوجي ،ومنهجها السياسى الذى من أجل الجبهة أى جبهة، ومن أجل التحالف أى تحالف ،بين نخب المثقفين على تلويناتهم المختلفة، وادعاءاتهم المتنوعة، يتم التعامى عن حقائق الواقع وتزييفها.فقد أصدرت المنظمات الماركسية الثلاث التى كونت "الحزب الشيوعى المصرى 8يناير" فى 8يناير1958بيانا فى فبراير1957 جاء فيه:-
"يحاول المستعمرون وعملاؤهم أن يذرفوا دموع التماسيح على ما يدعونه من إهدار الحريات فى مصر متجاهلين أن الشعب المصرى والوطنيين المصريين لم يتمتعوا فى يوم من الأيام بالحرية مثلما يتمتعون بها اليوم ،وأن هذه الحرية المتاحة للوطنيين تتسع فرصها يوما بعد يوم"(15).ولم يمض على البيان سوى عامان إلا وشرفت كل قيادات ذلك الحزب، ومعظم كوادره معتقلات النظام الديمقراطى معرضين لشتى صنوف التعذيب حتى رضخوا بعد خمس سنوات بقبول حل أحزابهم المستقلة. كيف تنظر الذات إلى نفسها وإلى الآخرين ؟
يرتبط التفسير الذاتى للتاريخ والاقتصاد، وغيرهما من المظاهر الاجتماعية، بالأساس الذاتى للفكر الخرافى عموما ؛ فترى الصحوة الإسلامية نفسها كما يكتب د. أحمد العلمى "بأن "الصحوة" حركة يقظة بدأت مسيرة الألف ميل ولكنها لا تزال فى الخطوات الأولية الابتدائية، وأكبر معركة تكاد تكسبها بشكل نهائى حتى الآن هى معركة تأسيس الثقة بالذات، وتهميش مركب النقص عند قطاع أساسى من المثقفين والشباب والأوساط الشعبية المختلفة"(16)0.. فالمشكلة إذن من وجهة نظره تتلخص فى تكون مركب نقص (وهو اصطلاح فى علم النفس وفق مدرسة التحليل النفسى التى نشأت فى الغرب المرفوض بريادة اليهودى فرويد!! والذى تعرضت نظرياته ومدرسته لانتقادات حادة فيما بعد على يد علماء نفس الغرب، وذلك لدى أبناء الأمة الإسلامية) نتيجة اصطدامهم بالحضارة الغربية المتفوقة، وإحساسهم الخاطئ بتفوقها عليهم، وهو ما أدى لتكون تلك العقدة النفسية بشكل جماعى، ولا شفاء منها حسب رأى أطباء الصحوة إلا بالاستعلاء على الآخر، وهو فى الأساس : الغرب.. فيكون لنا نحن أيضا علومنا الاجتماعية والإنسانية الذاتية، من اقتصاد واجتماع وسياسة وقانون، والتى لا تحوز على الأفضلية إلا بفضل ذاتيتها هذه.
ولاشك أن العلوم الحديثة قد اكتسبت صفة العالمية منذ زمن طويل ؛ لأن العلم هو فهم الواقع ؛ ولأن الواقع الإنسانى واحد فى عمومه، بالرغم من الخصوصيات المختلفة التى تدرس بنفس منهج العلم. ثم إن محاولة إثبات الذات لا تكون إلا بإحداث تفوق فعلى فى الواقع، وليس بمجرد الصراخ بأفضلية الذات، اللهم إلا إذا كان الصراخ محاولة لطمس الحقيقة المريرة بالتخلف.
إن تحويل الصراعات فى العالم إلى صراعات بين ذوات قومية أو دينية مختلفة يتغافل عن حقيقة أن حركة الاستعمار الحديث ما نشأت إلا بسبب الاحتياج الحيوى من قبل الرأسمالية للتوسع للخارج، من أجل الأسواق لسلعها، والمواد الخام اللازمة لإنتاج هذه السلع، وطرق التجارة العالمية، والأيدي العاملة الرخيصة.. لماذا ؟ لأن الرأسمالية لا تسعى لشيء سوى الربح، والحفاظ على معدله من الهبوط إن لم يكن زيادة هذا المعدل. ولنفس هذه الأسباب حدثت التحولات المختلفة للرأسمالية، حيث تحول نمط الإنتاج الرأسمالى من حدود الإقليمية والقومية الضيقة إلى العالمية بكل من قوى إنتاجه وعلاقات إنتاجه وهو الأمر الذى أزال الحدود ما بين الذوات القومية والعنصرية والحضارية، على الأقل على المستوى الاقتصادى.
فالرأسماليون أيا كانت قومياتهم وأديانهم وجنسياتهم وأعراقهم لا يستهدفون إلا الربح ؛ ولذلك فهم يشتركون كطرف واحد فى عملية موحدة عالميا لانتزاع فائض القيمة من قوى العمل المأجورة أيا كانت قومياتهم وأديانهم وجنسياتهم وأعراقهم كطرف واحد وآخر فى نفس العملية.
ومن هنا تتوحد مصالح كل طرف على حدة ضد مصالح الطرف الآخر، بصرف النظر عن الاختلافات الثانوية داخل كل طرف فى تلك العلاقة الأساسية.
إلا أن التفسير الذاتى للتاريخ يفترض شيئا آخر كما يكتب د. محمد مورو "إن صراعنا مع الاستعمار لا يتعلق بشىء خارج ذواتنا، فنحن كجماعة بشرية موضوع للصراع (17). وبهذه الطريقة يتم طمس الفروق والصراعات داخل جماعتنا القومية أو الدينية أو الحضارية، بين طبقاتها المختلفة، وهو الأمر القائم على اختلاف المصالح الحقيقة بينها، من أجل صراع وهمى مع جماعة أخرى، تنقسم بدورها إلى طبقات مختلفة، وبسبب اختلاف مصالحهم الحقيقية، ينغمسون فى صراع طبقى مستمر منذ مائتي عام، يشتد حينا ويهدأ حينا، يأخذ طابعا اقتصاديا حينا لتقليل أو تشديد معدلات الاستغلال، ويأخذ طابعا سياسيا أحيانا أخرى، حين يستهدف السلطة السياسية.. بهذه الطريقة تطمس الأصولية الدينية والحركات القومية عموما المصالح المشتركة بين عمال كل الجماعات المختلفة، والمضادة للمصالح المشتركة لكل رأسمالى نفس الجماعات، فالحل الموضوعى للظاهرة الاستعمارية وظاهرة التبعية لا يكمن فى الصراعات القومية أو الحضارية، وإنما بحل الصراع الطبقى العالمى فالاستعمار الحديث ليس استغلالا لأمة وطبقات أخرى بقدر ما هو استغلال رأسمالى دول متقدمة لعمال أمة متخلفة، ففى الوقت الذى كان زراع القطن فيه يتضورون جوعا فى مصر فى فترة الاحتلال البريطانى كان عمال النسيج الإنجليز يشاركونهم نفس الجوع، لصالح البرجوازية الإنجليزية التى كانت تستغل وتنهب هؤلاء وهؤلاء، والمتحالفة مع كبار الملاك الزراعيين المصريين الذين كانوا يشاركونها فى استغلال الفلاحين المصريين.
وهكذا ينطلق فكر الأصولية الإسلامية من رغبات ومشاعر وتجارب الذات القومية فيكتب سيد قطب "وظيفتنا أن نشعر شباب الوادى وشباب العالم العربى أنهم شئ ذو قيمة، إنهم رأس لا ذيل، أنهم يملكون أن يمنحوا البشرية حضارة ومبادئ وقوانين واتجاهات اجتماعية وخلقية وفكرية وروحية" (18). وهذا مالا يتفق والنظرة العلمية للموضوع، أن نتوجه لشباب الوادى ككتلة واحدة بشئ أصلا ؛ لأنهم ينقسمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة المصالح ؛ ولذا فوظيفة من يسعى للتحرر الإنسانى هى دفع الصراع الاجتماعى والطبقى فى اللب منه بين شباب الوادى .. وعلى مستوى العالم بأسره.
فالذات الإسلامية أو القومية ترى أن فى الإسلام أو التراث ما يعفينا من النهل من الحضارات الأخرى من علوم اجتماعية وإنسانية ومن عادات وتقاليد، وإن كانت تعجز بالطبع فى حالة الاعتدال عن رفض العلوم الطبيعية ومنجزاتها، اللهم إلا إذا اصطدمت النظريات العلمية بالثوابت المقدسة، ويمثل هذا الموقف الأخير - على اعتداله - مثالا قويا أيضا على الذاتية، حيث يتم النقل من الآخر مشروطا بتوافقه مع المنقول لدى (الأنا)، ويتم رفض ما لدى الآخر إذا لم يتوافق مع المنقول لدى (الأنا).
هذه النظرة غير الموضوعية هى التى دفعت د. محمد عمارة ليكتب فى معرض مدحه للعقلية العربية "وأن رأس هؤلاء الأعلام ورأس هذا التيار جمال الدين الأفغانى، عربى النسب، وإن ولد ونشأ فى بلاد الأفغان، فنسبه يرجع إلى الحسين بن على بن أبى طالب، وعربى العقل والفكر منذ نشأته الأولى، فقبل أن يبلغ الثامنة عشر من عمره كان قد درس علوم : العربية، والتاريخ، وعلوم الشريعة، من تفسير وحديث وفقه وأصول، وكلام وتصوف والعلوم العقلية، من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية تهذيبية وحكمة نظرية طبيعية وإلهية، والعلوم الرياضية، من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، ونظريات الطب والتشريح (19). وهكذا يتم تفسير دور جمال الدين الأفغانى وريادته لحركة الإصلاح الدينى والسياسى فى المنطقة فى القرن الماضى بأصوله العربية، وموروثاته البيولوجية، وليس إلى عبقرية ما تخصه هو كفرد حقيقى وواقعى، وإنما إلى عبقرية السلالة والعرق والحضارة، كذات مجردة ومثالية.
وتكرارا لتلك المحاولة الهزيلة للاستعلاء بالذات على الآخر يكتب "ذلك أن أوروبا، ذات الحضارة المتميزة بطابعها المادى فى الأساس، قد طوعت المسيحية ديانة السلام المتصوف والصوفية المسالمة لطابع حضارتها المادى المتميز" (20).. وهكذا تتحول الحضارات الأوروبية بأسرها إلى مجرد إنجاز مادى يميزها عن كل الحضارات.. ويتم التعامى عن أن الفلسفة الحديثة هى امتداد للفلسفة اليونانية الأوروبية المنشأ، كما كانت الفلسفة الإسلامية امتدادا للثانية، ويتم تناسى أن الأساطير والمسرح والآداب والفلسفات اليونانية تزخر بالحكمة والقيم الإنسانية الرفيعة.
وقد أعطت هذه الحضارة العالم أصول الفكر السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وقد زخرت أوروبا منذ عصر النهضة وإلى الآن بالأعمال الفنية والأدبية والفلسفية.. فليست أعمال دانتى وشكسبير، ودافنشى ورودان، وبيتهوفن وموزار، وديكارات وبيكون مجرد إنجازات مادية، ولا يمكن أن نعتبر أن توما الإكوينى ومارتن لوثر وكلفن باعتبار أنهم مصلحين دينيين ذوى أصول عربية ترجع لقريش، وماذا عن أوروبا الحديثة وقد تحدثنا عنها سابقا ؟!!
ويكتب ميشيل عفلق" أن العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصية.أن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية أو كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية"(21).وهو هنا يتغافل أن الإسلام معنى بالصراع بين المؤمنين به وبين الكافرين به أيا كانت قومياتهم ،وأن الإسلام وإن كان نشأ بين العرب إلا أنه دين موجهه للعالم بأسره،ولم يدع الرسول أنه موحد العرب وقائد ثورتهم القومية ،وإنه ما أتى إلا ليوحدهم.وإنما أتى ليهدى العالمين، وهذا هو ما فهمه المسلمون من رسالته .وأخيرا ما رأيه فى العبرانيين الذى وحدهم وقادهم النبى موسى على أساس دينى وباعتبارهم شعب الله المختار ،وما رأيه فى ما فعله جانكيزخان مع المغول ،والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها. ألا أن القاعدة التاريخية تقول: أن عمليات توحيد القبائل البدوية لتأسيس الدول كانت غالبا ما تتم على أساس من رسالة دينية موجهه من الإله الرئيسى لهذه القبائل من خلال القائم بعملية قيادة التوحيد القبلى.
إلا أن الذات المتضخمة لا تعرف إلا لغة المدح للذات وتجاهل الآخرين أو ذمهم، وهى فى الحالتين تشوه وتزيف وتكذب وتظلم ،وتدعى.ومن هنا تكتسب لا أخلاقياتها يرى شكيب أرسلان"أن العرب أمة ،ويتغنى بمزاياها،فهى أمة نجيبة قد أتاها الله من معادن الفضل ومدارج النبل ومطالع الذكاء ومنابت الشجاعة ومقاطع الكرم ما لم يؤت غيرها من أمم البسيطة"(22).وهكذا يرى العرب أذكى أفضل وأنبل وأشجع وأكرم البشر قاطبة.المحرومين قدريا من كل هذا الذى وهبه الله للعرب.وهى نفس رؤية النازيين للألمان ،والصهاينة لليهود وهكذا.
وأخيرا : لماذا تنظر الذات المصرية أو العربية أو الإسلامية إلى العالم بأسره وكأنه لا يتكون إلا من هذه الذات، والآخر وهو أوروبا أو غربها على وجه التحديد ؟ هل حاول هؤلاء المتحدثون باسم هذه الذوات أن يعرفوا شيئا عن حضارات شرق آسيا أو جنوبها ؟ ألا يحق للصينيين أن يقولوا : "نحن الذين أنجبنا كونفوشيوس ولاوتزة واكتشفنا البارود والمطبعة والورق وأوراق البنكنوت ونظام الخدمة العامة، ومن ثم فإن لنا ذاتا قومية وحضارية عظمى، تغنينا عن النهل من الحضارة الحديثة، والحضارات الأخرى، حيث لم يكن أحد من هؤلاء البرابرة المحيطين بنا من خارج المملكة السماوية يدانينا مجدا فى الماضى". ماذا ستصبح صورة العالم لو ساد هذا المنطق، وما أثره على الحضارة العالمية، وعلى مستقبل البشرية؟ أليس عرقلة التقدم إن لم يكن كبحه ؟! لماذا يصر هؤلاء المتثاقفون والمتعالمون، الذائبين وجدا فى ذواتهم الجماعية، على العيش على الأوراق الصفراء، والأمجاد القديمة التى لم يشاركوا فيها، وإنما صنعها آخرون، لا ينتمون إليهم إلا بالنسب، ولا إلى عصرهم إلا عبر الكتب والآُثار ؟! والحقيقة أنه لا يحق لهم أن يفخروا بهم حيث لم يساهموا فيما صنعه هؤلاء.. سنؤجل الإجابة إلى نهاية الموضوع.
الحقيقة الموضوعية التى لا تخطئها عين هى أن كل جماعة بشرية هى كائن متغير، متحرك بالنشوء من القديم السابق عليه، والنمو بما يعنيه من تطور، والشيخوخة والاندثار، ليتحول لشئ آخر مخالف لأسلافه.. وهكذا، فنحن، المصريين الجدد، لا ننتمى إطلاقا و بأى حال للمصريين القدماء، إلا أننا تواجدنا عبر التاريخ فى نفس المكان، وربما حصل بعضنا على بعض موروثاتهم البيولوجية، إلا أننا جميعا لا نتحدث لغتهم رغم أن ما نتحدث به من لغة متأثر بتلك اللغة ، وبالتالى لا نقرأ آدابهم ،ولا نمارس الحياة مثلما كانوا يمارسون، وأصبحت لنا عادات وتقاليد وأفكار وقيم ومعتقدات مختلفة كل الاختلاف عما كانوا هم عليه، قد وفدت علينا من أمم أخرى من الشرق والغرب، وها نحن نكتسب أيضا عادات وتقاليد وأفكار مختلفة عما كان لآبائنا الأقربين،ومن استمع إلى الأجيال المسنة سيدرك كم تطورت العامية فى خلال خمسون عاما،ومن يقرأ الصحف القديمة سيعلم أن لغة الكتابة وأسلوبها قد تغيرا على نحو كبير.. وهكذا الحال فى كل الجماعات البشرية فى العالم بأسره، التى تنطلق نحو التوحد فى جماعة بشرية عالمية واحدة، لها ثقافة عالمية واحدة بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا لهذه الثقافة.
والحقيقة الموضوعية الأخرى هى أن كل جماعة بشرية لابد أن تتكون من أفراد أخلاقيين ولا أخلاقيين، مثاليين وماديين، عباقرة وأغبياء، نشطاء وكسالى، شرفاء وأوغاد، نظيفين وقذرين، منظمين وفوضويين، أرقاء وقساه، واقعيين وخياليين..
وما بين كل هذه الأقطاب من درجات، بل إن الفرد الإنسانى فى ذاته قد يمر عبر تاريخ حياته بلحظات متنوعة من الأنانية والغيرية، من الذكاء والغباء، من النشاط والكسل.. فما بالكم بأمة بأسرها تتمايز إلى هؤلاء الأفراد المتنوعين، وتتمايز إلى طبقات اجتماعية، تختلف فى مصالحها وظروف حياتها، وتتصارع فيما بينها، وتتمايز فى أخلاقها وسلوكها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وثقافتها، فكيف تتم محاولة تجميع كل هذا التنوع فى قالب واحد وخالد، يقال عنه جوهر الأمة، ذاتها، تراثها، روحها الخالدة ؟!!وإذا تسائلت صادقا فى رغبتك فى الفهم ،عن هذه الروح الخالدة تمت الإجابة بعبارات مبهمة.لا تفصح إلا عن تشوش لا حد له،وغموض لا يوحى بالعمق إلا للسذج، فالواقع برغم تعقده إلا أننا يمكن أن نعبر عنه ببساطة لغة العلم.فأصعب نظريات العلم يمكن فهمها فى النهاية لأنها تعبر عن أفكار واضحة حتى لو عجز عن فهمها معظم البشر فعلى الأقل يفهمها العلماء، ويستطيعون استخدامها عمليا.أما الكائنات الغيبية كالأرواح فلا يمكن إدراكها أو فهمها ومن ثم تستعصى على التوضيح ومن ثم لا يمكن التعامل معها إلا بمنطق الإيمان والكفر فحسب،فى حين أن حقائق العلم ونظرياته لا يمكن التعامل معها إلا بمنطق المعرفة والجهل فقط.
الحقيقة أن المحاولة فاشلة منطقيا، إلا أن سببها واضح، ومن هناك تكتسب وظيفتها الاجتماعية، ألا وهى : طمس الصراع الطبقى الحقيقى من أجل صراع عنصرى وهمى.
ولقد تعلمنا من التاريخ أن كل حركة سياسية تتبنى فكرة كونها معبرة عن ذات جماعية ما وممثلة لجماعة ما - قومية كانت أو دينية أو حضارية أو عنصرية أو ثقافية أو طبقية - لابد أن تكون استبدادية الطابع، حيث يتم قمع الجماعة البشرية المعنية بأسم الذات الجماعية، فالبعثية والناصرية فى العالم العربى، والنازية والفاشية فى أوروبا، وحكم آيات الله فى إيران.. مجرد أمثلة من كثير، حيث يتفقون فى شئ واحد على اختلافاتهم، هو : قمع بعض طبقات وشرائح وفئات المجتمع، باسم ذات المجتمع، لصالح إحدى طبقات أو شرائح أو فئات هذا المجتمع.
الذاتية والباب إلى التلفيقية :
لأن الذات تحاول أن تثبت وجودها وتميزها على أساس تراث خلقته ظروف تاريخية لا دخل للذات فيها، وقد زالت هى الأخرى، ولما كان الحاضر يمارس نفوذه وتأثيره اللذين لا يمكن مقاومتهما، فكان لابد من التوفيق والتلفيق، وبالتالى عرفت إسهامات كتابنا سلسلة من الثنائيات (الأصالة والمعاصرة - الروح والمادة - النقل والعقل - التراثية والحداثة.. الخ).. ولما كانت هذه الأفكار هى تعبير عن واقع حاضر وحى، فإن التعبير عن مشكلات الواقع يتم فى هذه الحالة بمفردات آتية فقط من الماضى، والتى كانت تعبر عن واقع انتهى منذ زمن طويل، فذهب البعض فى سبيل الخصوصية قومية أو دينية إلى أن هناك إمكانية صياغة نظام اقتصادى إسلامى أو عربى أو مصرى حسب الخصوصية المقدسة التى ترفع لوائها الجماعة السياسية، فتحدث الأوائل عن رفض ظاهرة الندرة فى الموارد الإنسانية وصياغة علم الأرزاق، واتجه الآخرون إلى التلفيق بين الاشتراكية والرأسمالية، والحقيقة هى أن كل ما كتب فى الاقتصاد الإسلامى أو القومى هى تلوينات مختلفة للاشتراكيات الإصلاحية التى هى فى حقيقتها نوع من رأسمالية الدولة، تحت مسميات إسلامية أو قومية، إلا أنه لا يوجد جهد علمى حقيقى لتحليل كل من القيمة و فائضها والأجر والربح والفائدة والعرض والطلب والثمن... وفق مفاهيم إسلامية أو قومية ؛ فهذه فى الحقيقة مهمة علمية بشرية عامة، لن تخرج فى هذه الحالة عن حدود الاقتصاد السياسى البرجوازى دون الاقتراب من الاقتصاد السياسى الاشتراكى الذى تتعارض استنتاجاته السياسية مع أهداف الإسلام السياسى أو الحركات القومية، وبالتالى فإنه يتم تجاوز المهام العلمية لوضع برنامج سياسى عام تحت اسم الاقتصاد الإسلامى أو القومى مصحوبا بنظريات أيديولوجية لا تخرج عن الإصلاحية بدرجاتها المختلفة التى تزعم لنفسها بدورها إنها ليست برأسمالية ولا بشيوعية، وأنها تأخذ بحسنات النظامين، وترفض مساوئهما.. وكأن النظم الاقتصادية تحدد وفق إرادات ما، ولا تفرضها الظروف الموضوعية
يكتب د.محمد محمود الأمام" ويبنى الفكر الاشتراكى العربى اختياراته وفقا لمتطلبات التنمية باعتبارها الهاجس الأساسى لدول تعيش مراحل مبكرة من النمو بينما تتسارع وتائر التقدم فى أنحاء مختلفة من العالم سواء فى الدول المتقدمة أو فى عدد من الدول النامية فى الوقت الذى تتراكم فيه عوامل التراجع فى أجزاء أخرى من العالم"(23) والآن نسأل ما هى علاقة الاشتراكية أصلا بالتنمية؟ فالاشتراكية أيديولوجية للتحرر والعدالة ،وهى لن تتحقق إلا على أساس من تغيرات جوهرية فى قوى الإنتاج والوعى الاجتماعى ومن المفترض أن تسبقها على هذا النحو مراحل من التنمية قد تقوم بها الدولة فى شكل رأسمالية دولة أو يقودها الرأسماليون بمساعدة الدولة أو بدونها. والمشكلة أن أنصار اشتراكية أو رأسمالية الدولة أيا ما كانت أصولهم الفكرية ،ماركسية أو قومية أو دينية يتحدثون عن الإصلاح والتنمية فى إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية ،وقوى الإنتاج الرأسمالية، والوعى الاجتماعى الرأسمالى ،لعدم قدرتهم على تجاوز كل ذلك موضوعيا حتى الآن .إلا انهم يخلطون حديثهم هذا بالاشتراكية أو بإعلان الاختلاف عن الرأسمالية لرغبة فى التميز عن شكلها التقليدى النقى،أو لتبرير ضرورة الخروج عن شكلها التقليدى إلى شكل آخر، إلا أنهم لا يخرجون فى كل الأحوال عن جوهرها الذى يتحدد بشكل إنتاج وتوزيع الفائض الاجتماعى، وليس بشكل الملكية.إذ أنهم يستهدفون التنمية والإصلاح فى داخل نفس العلاقات الرأسمالية ،ولا يستهدفون التحرر والعدالة المفترضين فى الاشتراكية.
العلم يدرس الواقع الملموس وقد يتنبأ بتطورات ظواهره فى المستقبل، أما الرؤية الخيالية أو الخرافية فهى تصور عقلى للمستقبل قد يتحقق فى الواقع أو لا يتحقق، حسبما يتفق مع الضرورات الكامنة فى الواقع أولا يتفق معها.
ونحن نعرف أن الاقتصاد السياسى البورجوازى بدأ منذ ظهور البرجوازية فى غرب أوروبا كعلم يدرس ظاهرة اجتماعية طرأت على المجتمعات التى ظهر فيها هذا العلم، وهى نشوء الرأسمالية كنظام اجتماعى اقتصادى.. وبالتالى لم يظهر كتأسيس إرادى لنظام اجتماعى اقتصادى، فهو علم يدرس الظاهرة الاقتصادية الرأسمالية من وجهة نظر البرجوازية، ومن ثم نشأ الاقتصاد السياسى الماركسى كنقد علمى لهذا العلم، من وجهة نظر الطبقة العاملة، إلا أن تصور الماركسية عن المستقبل لم يتحقق حتى الآن.
فالنظم الاقتصادية الاجتماعية لا توجد بالبرامج السياسية ولا تسبقها التأسيسات النظرية والعلمية، والتى لا تبدأ إلا مع نشأة النظم فعليا، والتى توجد كتغيرات فى نظم أسبق، تفرضها ضرورات موضوعية، مستقلة عن الإرادة والوعى : فنشوء الرأسمالية فى أوروبا لم يكن نتاجا للطابع المادى لأوروبا، بل ناتجا لتضافر حركة الكشوف الجغرافية الكبرى، ومن ثم التراكم البدائى لرأس المال، ثم الثورتين العلمية والصناعية.. لتبدأ الرأسمالية كنظام اجتماعى أكثر قوة، وليكسح من أمامه كل النظم التى كانت سائدة قبله، ليس فى أوروبا فحسب، بل فى العالم بأسره.
وكان هناك إمكانية لأن يسبق العالم الإسلامى أوروبا فى الوصول إلى الرأسمالية بما تراكم لديه من ثروات هائلة نتيجة سيطرته على التجارة العالمية، إلا أن هذه الإمكانية كبحتها على نحو متواصل عمليات النهب المتواصل من قبل الحكام للثروات المتراكمة فى أيدى التجار، مما حرمهم من فرص تحويل هذه الثروات إلى رأسمال، فى حين استطاع البرجوازيون فى المدن الحرة فى أوروبا والمستقلون عن سيطرة النبلاء الإقطاعيين أن يتحولوا إلى رأسماليين نتيجة عدم تعرض ثرواتهم للنهب من قبل الحكام والإقطاعيين والذين تحولوا بدورهم إلى رأسماليين.
وفى الحقيقة قد أدت هذه العملية إلى نشوء الحضارة الرأسمالية التى شكلت قطيعة نسبية مع الحضارة التى كانت قائمة فى غرب أوروبا قبلها، وما لبثت هذه الحضارة الرأسمالية الجديدة أن انتقلت من مركزها فى غرب أوروبا لتصبح هى الحضارة السائدة عالميا، وهى عملية وإن كانت قد قطعت شوطا كبيرا للغاية فى سبيل توحيد البشرية فى حضارة واحدة، إلا أنها مازالت مستمرة فى ابتلاعها كل الخصوصيات الحضارية الأخرى.
المصادر
(1) عادل حسين: "الإسلام دين وحضارة - مشروع للمستقبل" صـ36.
(2) د. محمد عمارة: "العرب والتحدى" صـ71.
(3) جورج المصرى : "الحرب العراقية الإيرانية – رؤية قومية" – سلسلة اليقظة العربية – السنة الرابعة – العدد الرابع، مايو 1988، صـ35.
(4) أمين أسكندر-اليسار العربى وقضايا المستقبل-الحركة التقدمية العربية-مصدر سابق-ص372.
(5) د. محمد عمارة: "العرب والتحدى" صـ47.
(6)سناء المصرى – حكايات الفتح-دار سينا – القاهرة-1997-الطبعة الأولى-ص وما بعدها.
(7)د.عبد العظيم رمضان-الصراع بين العرب و أوربامن ظهورالإسلام إلى أنتهاء الحروب الصليبية-دار المعارف-القاهرة-ص14.
(8)عادل حسين، الإسلام دين وحضارة، صـ45.
(9)بدر نشأت- مدخل إلى اللغة العامية المصرية لغة الفكر والحياه-مجلة القاهرة –عدد يونيه-ص32.
(10) د. عبد الهادى النجار، الإسلام والاقتصاد، صـ259.
(11) د.عبد العظيم رمضان-الصراع بين العرب وأوربا-ص170
(12) فهمى هويدى: "القرآن والسلطان" صـ18-19.
(13)محمد السعيد أدريس-الوفد والطبقة العاملة-ص43.
(14) أحمد طاهر_ الاشتراكيون والديمقراطية_ص317.
(15) د.رفعت السعيد –بيان مشترك صادر عن المنظمات الماركسية الثلاثة فى فبراير1957.
(16) أحمد العلمى: "مقدمات لتأسيس علم اجتماع إسلامى" مجلة الحوار الفصلية العدد الثانى 1987، صـ142.
(17) د. محمد مورو: "طارق البشرى شاهد على سقوط العلمانية" صـ19.
(18) سيد قطب :"فلنؤمن بأنفسنا" مقال بمجلة الفكر الجديد،15 يناير 1948.
(19) د.محمد عمارة :"العرب والتحدى"ص12.
(20) د.محمد عمارة- المصدر نفسه _ص227.
(21) ميشيل عفلق –فى سبيل البعث-ص128.
(22)د.عبد العزيز الدورى –التكوين التاريخى للأمة العربية –دراسة فى الهوية والوعى-دار المستقبل العربى-مركز دراسات الوحدة العربية-القاهرة-1985-الطبعة الثانية-ص185.
(23) د.محمد محمود الأمام-التطورات فى النظام الاقتصادى العالمى ومغزاه بالنسبة لفكر اليسار العربى –ص73
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية