التاريخية واللاتاريخية
كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
سامح سعيد عبود
التاريخية واللاتاريخية
قد نعترف جميعا بأن كل شئ فى حالة حركة مستمرة، وأنه لا يوجد شئ يبقى على حاله، هذا لأن الواقع الملموس يفصح عن هذا فى كل لحظة، وفى كل مكان..إلا أنه بالرغم من هذه الحقيقة البسيطة، فإن البشر حين يفكرون ويتصرفون قد يتغافلون عن كل هذا، فهم قد يعترفون بالتاريخ، إلا أنهم لا يعيشون إلا حاضر اللحظة. فلا تعنيهم اللحظة السابقة عليها، وكيف نشأت منها، ولا ينظرون للحظة المقبلة بعدها، ولا كيف ستنشأ من اللحظة الحاضرة.
لدينا طريقتان فى التفكير : الأولى هى اللاتاريخية، التاريخ لديها مجرد مرور للزمن، وليس تطور الأشياء عبر الزمن، ومن هنا فهى بحث دائم عن جوهر ثابت يتخطى التاريخ، جوهر لا تجرى عليه تحولات عبر هذا التاريخ.. أى أنها لا تنطلق فى بحثها لفهم الشيء محل البحث من تاريخية الشئ، بمعنى تغافلها عن كونه نشأ من شئ سابق عليه، وعبر رحلة النشوء والنمو، سيتحول فى مستقبله لشئ آخر.. ومع إدراك واعتراف هذه العقلية بحقيقة الحركة والتغير والتاريخية، إلا أنها تفترض الثبات والخلود والنهائية فى الأشياء والأفكار.. ولكن لا يعنى تمسك العقلية اللاتاريخية بالجوهر الثابت أنها لا تستهدف التغيير، فقد تتمسك بجوهر مخالف للوضع القائم، وبالتالى تنزع الشرعية عنه، وبالتالى تسعى لتغييره.
والثانية هى : التاريخية، وهى تنطلق فى فهمها للأشياء محل البحث فى تحولاتها، فى تاريخيتها : كيف نشأت ؟ وكيف تتطور وتتحرك ؟ وكيف ستتحول لأشياء أخرى ؟ فهى تدرك حركة وتغير الأشياء المستمرة، ولا تفهمها إلا فى سياق هذه الحركة، أى من حيث هى عملية.. وبالتالى فهى لا تعترف بوجود ما هو ثابت أو خالد أو نهائى فى أى شئ من أشياء الواقع ؛ فالوجود كله هو مجموع أشياء لا حصر لها تتطور من الأدنى للأرقى، و من الأبسط للأعقد فى حركة لا تتوقف.
وفى الحقيقة أن أى أصولية أيا كانت - دينية أو قومية أم مذهبية - هى كحركة تحاول أن تقاوم اتجاه التاريخ، فالتمسك بالأصول يعنى الوقوف فى وجه التطور، أو بمعنى آخر : التمسك بما لم يعد مناسبا للتطور.
قياس الماضى على الحاضر:
إن جوهر التفكير الخرافى والتراثى عموما هو أن التاريخ صراع مستمر بين الإلهى والشيطاني أو الأنا(ولى الله) والآخر(حليف الشيطان)، وقد يحدث أن يأخذ الصراع شكل دورة، وإن لم يكن هذا قانونا حتميا ولا إلهيا.. ولذلك فإن خطاب الإسلام السياسى الآن يطرح العودة للماضي ظاهريا، وليس أى ماضى، ولكن تلك اللحظة المعينة فى الماضى، التى يقدسونها ويسعون لعودتها مرة أخرى بكل ما شهدته من أحداث. فهم يقولون إن المجتمعات عادت جاهلية مرة أخرى، حيث غاب الإسلام عن الحياة، وعليه الآن أن يعود فى صورة عصبة مؤمنة، تعيد نفس خطوات التاريخ : الصراع بين الإيمان والشرك، ثم انتصار الإيمان، ومنه إلى إعادة فتح العالم لنشر الإسلام، ومن ثم عودة الدور القيادى للحضارة الإسلامية فى العالم مثلما كانت فى العصور الوسطى، بصرف النظر عن الظروف التى قد توافرت فى الماضى، وسمحت بهذا التسلسل، وتولى هذا الدور، وبصرف النظر عن الظروف التى جدت على واقع العالم المعاصر من توحد حضارى يزداد عمقا.
فسقوط الغرب الذى يبشر به الإسلاميون ويفترضونه كضرورة للنهضة الإسلامية لا يعنى بالضرورة هذه النهضة. هذا السقوط معناه سقوط الجزء الأكثر تقدما فى العالم، والذى يشكل مركزه، ولاشك أن هذا سيكون له تأثيره المدمر على مستوى العالم، للاعتماد المتبادل، والترابط المعقد بين هذا المركز وأطرافه، وهى كل أجزاء العالم الباقية، ولك أن تفكر فحسب فى توقف الصناعة فى الغرب وما سيؤدى إليه هذا من انهيار أسعار البترول إلى أقصى حد، وما يمكن أن يؤدى إليه هذا من ارتداد الحياة فى الخليج للبداوة مرة أخرى.
يكتب د. محمد عمارة "لا لتيار "التغريب" الذى أراد أنصاره من المستعمرين، وأنصارهم من الذين "أدهشتهم" فبهرتهم عظمة الحضارة الأوروبية عندما قارنوها بتخلف المماليك والعثمانيين" (1). وكأننا لو قارنا هذه الحضارة الأوروبية بفترات الذروة فى الحضارة الإسلامية لن نصاب بنفس الاندهاش والانبهار، فهل سيدهشنا الاسطرلاب والبوصلة أم الكمبيوتر ومكوك الفضاء ؟ وهل ستجذبنا الديمقراطية وحقوق الإنسان أم الخلافة المستبدة ؟ فكل ما فى الأمر إذن أنه يريد العودة بنا إلى تلك اللحظة من التاريخ التى كانت فيها بغداد حاضرة العالم، فى حين كانت باريس فى ذلك الوقت مجرد قرية صغيرة لا شأن لها، وهو إذن يظن أننا أذا عدنا فكريا لهذه اللحظة سنستطيع تجاوز التخلف إلى التقدم. والسؤال الآن : لماذا لا نحاول تجاوز كلتا الحضارتين بالمزيد من التقدم الإنسانى على كافةالأصعدة، بتجاوز كل من الأصالة والمعاصرة، إلى المستقبل الأفضل ؟ هذا مالا تقبله ولا تفهمه الحركة الإسلامية أو أى حركة قومية.
الاقتصاد الإسلامى/القومى وسكون الزمن :
مرت المجتمعات البشرية بالعديد من أساليب الإنتاج، ففى بادئ الأمر عرفت البشرية المجتمعات المشاعية البدائية، حيث كانت وسائل الإنتاج لا تزيد عن بعض أدوات الصيد وجمع الثمار والزراعة البدائية، وكان أفراد الجماعة يعملون جميعا كل حسب قدراته فى استخراج منتجات مادية من الطبيعة، لإشباع احتياجاتهم، تقسم بينهم بالتساوى ، ولما كان الإنتاج لا يكفى إلا احتياجاتهم الضرورية فلم يكن لأى منهم أن يستحوز على جزء من هذا الإنتاج لنفسه، وإلا مات آخرون جوعا.. وتطورت وسائل الإنتاج، وبالتالى زادت الإنتاجية، مما ساعد على تكوين فائض اجتماعى.. أصبح لبعض أفراد العشيرة أن يستحوزوا عليه لأنفسهم، مما أدى لنشوء الملكية الخاصة، ومن ثم انقسام المجتمع لطبقات، (من يملكون ومن لا يملكون)، وظهرت الأسرة كمؤسسة هدفها الحفاظ على استمرار الملكية الخاصة فى سلالة المالك، وظهرت الدولة كجهاز لقهر من لا يملكون لصالح من يملكون وسائل الإنتاج أو يسيطرون عليها. هؤلاء الملاك الذين يستحوزون لأنفسهم على الفائض الاجتماعى من الإنتاج.
كان اكتشاف الزراعة التقليدية سواء على مياه الأمطار أم على مياه الأنهار، وتدجين الحيوانات ورعيها، هى الأساس لظهور المجتمعات الطبقية، ما قبل الرأسمالية، التى تعتمد على وجود طبقة تقوم بمهام سياسية وقضائية وتشريعية وإدارية وعسكرية عامة، وهى إما أن تملك أو تسيطر على وسائل الإنتاج بما فيها قوة العمل أو تكتفى بربطها بها بأشكال أقرب للملكية، وهى فى هذه الحالة تقتصر على انتزاع ريع أو خراج من الفلاحين والحرفيين والتجار الخاضعين لسلطتها مقابل أدائها لمهامها.
وكان أحد أشكال هذه المجتمعات (الإقطاع فى غرب أوروبا)، قد تطور من داخله ومن خلال المدن الحرة غير الخاضعة للسادة الإقطاعيين، فصعدت الطبقة البرجوازية وهم ملاك وسائل الإنتاج الذين يشترون قوة العمل المأجورة الحرة، لإنتاج السلع من أجل السوق.. وسيدت هذه الطبقة علاقات إنتاجها الجديدة على أساس الثورة الصناعية تدريجيا فى شتى بقاع الأرض.
والملاحظ بشكل أساسى فى هذه الرحلة، هو أن أساليب الإنتاج المختلفة لا تنشأ وتتطور وتموت وفق إرادات مسبقة، أو برامج محددة سلفا، وإنما توافقا مع ضرورة كامنة فى طبيعة المجتمعات البشرية نفسها.
فلما كانت احتياجات البشر تزداد نتيجة زيادة عدد السكان، وتطور مستوى المعيشة نفسه، فإنه يجب عليهم أن يطوروا قوة إنتاجهم (وسائل الإنتاج + قوة العمل) لتزداد الإنتاجية (أى تزداد قدرة البشر على إنتاج المزيد من المنتجات المادية) لسد حاجة السكان المتزايدة. ولما كان الإنتاج نفسه يتم جماعيا، فإن البشر أثناء عملية الإنتاج يدخلون فى علاقات إنتاج تتطور لتتطابق مع مستوى قوى الإنتاج، واللذان يشكلان سويا أساس ما يسمى بأسلوب الإنتاج.
وبنفس هذه الضرورة لابد أن تزول الرأسمالية يوما لتفسح المجال لعلاقات إنتاج أخرى تقوم على أساس قوى إنتاج أكثر تطورا... وهلم جرا.إلا أن القوى السياسية القائمة على أساس الهوية قومية أو دينية أو ثقافية ..الخ لا تفهم الطابع التاريخى لتطور المجتمعات ولذلك.
كتب جمال عبد الناصر "يضاف إلى ذلك أنه منذ عصور بعيدة فى التاريخ توصلت الزراعة المصرية إلى حلول اشتراكية صحيحة لأعقد مشاكلها وفى مقدمتها الرى والصرف وهما فى مصر الآن ومنذ زمن طويل فى إطار الخدمات العامة "(2).
وهكذا يعتبر أن الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية هى مجرد حلول لمشاكل، وبالتالى لاتاريخية فى تسلسلها، ولاضرورةوراء هذا التسلسل، وبالتالى فالأنظمة الاجتماعية تقبل الخلود والثبات وهو الأمر الذى لا تتصف به على الإطلاق،ومن ثم فقد عرفت مصر -كما هى العادة –حسبما يزعم الاشتراكية كحل جزئى لمشكلة الرى حيث يعتبر أن أى تدخل عام من الدولة هو من قبيل الاشتراكية،والنظم الاجتماعية الاقتصادية لا يتحدد جوهرها فى النهاية بمن يملك بقدر ما تتحدد بشكل علاقة الإنتاج التى يدخل فيها البشر خلال عملية الإنتاج، وبشكل توزيع الفائض الاجتماعى بين الداخلين فى علاقة الإنتاج.
واتساقا مع هذه النظرة اللاتاريخية يكتب د. عبد الحميد الغزالى "وعلى هذا الأساس عرف الجنس البشرى، وضعيا، وفقا لتتابع زمنى : النظام البدائى، ونظام الرق، والنظام الإقطاعى، والنظام الحرفى، والنظام الرأسمالى، والنظام الاشتراكى، كما عاش تجربة ثرية ومضيئة فى تاريخه، تمثلت فى النظام الاقتصادى الإسلامى. إن هذا النظام صالح لكل زمان ومكان بثوابته ومتغيراته" (3).
وذلك دون أى تحديد لمميزات اقتصادية لذلك الذى يسميه النظام الاقتصادى الإسلامى، وهنا نتساءل :
1- هل اختلف ما يسميه بالاقتصاد الإسلامى عما كان فى الواقع فى المجتمعات الإسلامية ما قبل الرأسمالية، وعن كل ما عرفته المجتمعات النهرية مما يسمى بنمط الإنتاج الخراجى والقائم على انتزاع الفائض الاجتماعى فى صورة خراج من الفلاحين بواسطة جهاز الدولة، الذى يشكل من يعملون به طبقة متميزة تستحوذ على هذا الفائض لنفسها، والذى يوزع على أفراد هذه الطبقة بنظام معين مقابل حفظها للأمن الخارجى وإقامة العدل وتنظيم الرى، سواء أكانت هذه المجتمعات هندوسية أم بوذية أم وثنية أم فرعونية أم كونفوشية أم مسيحية، وسواء أكانت فى مصر فى الصين أم فى الهند أم فى العراق فى الفترة من حوالى 4000 ق.م إلى 1800 ب.م ؟
2- على أى أساس، وعلى خلاف قوانين التطور التى يشرحها هو نفسه، يمكن القول بأن هناك وفق ضرورات التطور نظاما اقتصاديا صالحا لكل زمان ومكان؟! ولماذا هزم هذا النظام الذى لم يعرفه التاريخ إذن أمام الرأسمالية ؟!
3- كيف يقول لنا إن كل هذه الأنظمة وضعية، ونحن لم نعرف أبدا نظاما اقتصاديا من وضع البشر، فالبشر لا يضعون أنظمتهم، ولكنهم يضطرون إليها، وفق ضرورات لا دخل لهم فيها ؟ لكنه يكتب "ويبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا إلى ما لم يبلغه أى نظام من صنع البشر، ووضع الإنسان، على الإطلاق، فى يسر وطمأنينة واعتدال" (3).. وللأمانة العلمية متى وأين حدث هذا ؟ . وما هو الذى تحقق للبشر من تقدم مادى وفكرى وروحى، وفاق ما حققته الرأسمالية بصورها المختلفة التى ظهرت فحسب منذ خمسة قرون؟!
4- وكيف يتفق هذا الادعاء، وحقيقة الصراع الطبقى عبر كل التاريخ الإسلامى، من الفتنة الصغرى، للفتنة الكبرى، وثورات الخوارج، وثورة الزنج، وحركة القرامطة، والثورة البابكية وهو ما عرفناه فحسب من كتب التاريخ. الخ. ألم يكن هذا التاريخ صراعا دائما بين من يملكون ويسيطرون على السلطة ،ومن ثم يسيطرون على الخراج الذى يشكل الفائض الاجتماعى، وبين من لا يملكون السيطرة عليه ولذا يسعون للسلطة للاستيلاء عليه ؟
التلفيقية واللاتاريخية :
هناك أساس مشترك لكل من التلفيقية واللاتاريخية فى فكر الحركة الإسلامية والكثير من الحركات السياسية على امتداد العالم العربى. فلما كان الحاضر المعاصر يفرض نظاما إنتاجيا معينا ليس مخالفا تماما لما تراه الحركة الإسلامية متفقا مع رؤيتها للإسلام، ونظرا لرؤيتها اللاتاريخية، فإنها تلجأ إلى التلفيق ما بين ضروريات الحاضر ومصطلحات الماضى وقيمه، تنطلق من الرفض الشكلى للرأسمالية والاشتراكية، وتستلهم محاولات فقهية للتوفيق بين العلوم الاجتماعية الحديثة والنظم الاجتماعية المعاصرة، وبين النصوص الدينية عند الحركات الدينية أو التراث القومى لدى القوميين، ومنها يؤسس ما يسمى بالعلوم الاجتماعية الدينية أو النظريات القومية، وإذا تفحصنا هذه الأيديولوجيات جوهريا سنجدها تشترك فيما هو متوفر جزئيا فى الاقتصاد الرأسمالى فيما يتعلق بالحرية والمبادرة الحرة، وجزئيا أيضا فيما يسمى باشتراكية الدولة فيما يتعلق بتدخل الدولة والضمان الاجتماعى، وفى هذا تشترك إيران الإسلامية مع مصر الناصرية، وهذه الأسس الانتقالية قد قامت على أساسها الأنظمة التقدمية الاشتراكية والتحررية فى العالم الثالث على اختلافاتها التفصيلية وغير الجوهرية.
والحقيقة أن سبب ظهور كل هذه الأنظمة الإصلاحية بدرجاتها المختلفة من الاشتراكيات الستالينية والماوية والقومية والدينية والإصلاحية... الخ راجع إلى ضرورة تاريخية فرضت تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، لتطوير قوى الإنتاج وحل مشاكل النمو الرأسمالى، والتحكم فى الصراع الطبقى، فى ظل برجوازية مأزومة أو ضعيفة أو عاجزة عن أداء هذا الدور.فتحل الدولة مكانها جزئيا أو كليا وبشكل مؤقتا لحين إنجاز هذه المهام.
ولما كانت المجتمعات الإسلامية تواجه هذا الموقف كغيرها من المجتمعات المتخلفة، فإن وضع برنامج يحمل نفس المضمون، فى ظل مصطلحات إسلامية، مستخرجة من النصوص الإسلامية، التى عبرت عن احتياجات نظام اقتصادى اجتماعى مختلف، لا تصبح غريبة عما يطرحه الحاضر من ضرورات ولا عن الخاصية اللاتاريخية لفكر الإسلام السياسى أو الفكر القومى، حيث جدت ضرورة تاريخية أخرى فرضت تخلى الدولة عن تدخلها المباشر فى عملية الإنتاج - نتيجة التناقض بين الإنتاج العالمى الطابع، وملكية الدولة لوسائل الإنتاج - وهو ما أدى لسقوط كل هذه الأنظمة التدخلية، فهل سيتحفنا منظرو الإسلام السياسى بتلفيقات جديدة توائم بين التراث الدينى والمستجدات الجديدة، فيصبح لدينا علمان للاقتصاد الإسلامى أحدهما مع التدخلية البيروقراطية والآخر مع الليبرالية الرأسمالية ؟ وهل سيخرج فى الحالتين عن الدائرة الرأسمالية بشكل جوهرى ؟!
واللاتاريخية تجعل الخطاب السياسى الإسلامى يركز على تحريم الربا، ومن ثم فوائد البنوك، واعتبار أن هذا التحريم هو الميزة التى تخرج النظام من دائرة الظلم الاجتماعى المميز للمجتمعات الطبقية، وهو لا يقيس الربا باعتباره فضل مال بغير عوض فى مبادلة مال بمال بفائض القيمة الذى هو فضل قيمة عمل بغير عوض فى مبادلة قوة العمل بأجر.
والسبب فى عدم قياس فائض القيمة على الربا يرجع فى الحقيقة إلى أن الحاضر فحسب يرتدى ثياب الماضى، التى لا تخفى معاصرته، فمنع الربا ظاهرة شائعة فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية.. (فقد كان محرما فى كثير من المجتمعات الأوروبية المسيحية قبل الرأسمالية، ومحلا للنقد الأخلاقى،( نذكر شيلوك بطل مسرحية تاجر البندقية لشكسبير) ولكن ترديد هذه الفكرة الآن لا ينتج عن تعبير الإسلام السياسى عن بقايا ما قبل الرأسمالية فى المجتمع، وإنما عن البرجوازية الصغيرة المتمردة على الرأسمالية المتخلفة، وهى ترى من مصلحتها تحريم الربا فى التجارة والإقراض، وبالتالى اجتهدت فقاست فوائد البنوك على الربا، إلا أنها تقاوم بشراسة نفس القياس لو تم على فائض القيمة، وتستند إلى الكثير من الأحاديث التى تتحدث عن العمل المأجور، متناسية أن عمال الماضى المأجورين، ليسوا هم عمال الحاضر، فلم يكن الإنتاج فى أساسه يقوم على انتزاع فائض العمل من العمل المأجور، وبالتالى فالقياس غير قائم أساسا بين الحالتين.
وهذا التركيز الدعائى على مسألة الربا والفوائد هو أيضا ورطة يضطر للسقوط فيها هذا التيار بسبب تقديس النص. خصوصا أن الإسلام السياسى تربى فى مواجهة الحركة الماركسية، واضطر لتبنى مفاهيم العدالة الاجتماعية، ولم يكن بإمكانه التراجع بشكل فاضح إلى حد استثناء الربا من القوانين الإلهية الواجبة التطبيق. ومع ذلك فمن الواضح فى الممارسة الإسلامية أن الخمر والدعارة والسفور والاختلاط بين الجنسين وشرائط الفيديو.. هى محور الدعاية الإسلامية، وليس بأى حال من الأحوال الربا، ولم يشهد تاريخ الحركة هجوما ولا تدميرا للبنوك مثلما هوجمت محلات الفيديو، وهوجم السائحون.
أما التصدى الجدى للمشكلة فأخذ شكل التحايل.. وهو ما يعرف بظاهرة البنوك الإسلامية، فوائد تأخذ شكل مرابحة، وبهذا التحايل والتعديل يتم الحفاظ على جوهر النظام الرأسمالى، أى إثبات أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان بإلباس الجوهر الرأسمالى المعاصر الشكل الإسلامى القديم.
اللاتاريخية والثقافة القومية
الحركة الماركسية فى مصر لم تكن معنية حقا بكونها ماركسية ،مما كان يستوجب فى هذه الحالة ضرورة أن تكون حركة عمالية وأممية بالأساس يعنيها فى المقام الأول الصراع الطبقى منحازة فى ذلك إلى الطبقة العاملة ،وسائر المستغلين والمقهورين بصرف النظر عن المسألة القومية، و بهدف التحرر الإنسانى عموما وليس بهدف التحرر القومى خصوصا،وإنما كانت حركة وطنية جذرية ذات ميول إصلاحية اجتماعيا تجاوز برنامج النظام الناصرى نفسه برنامجها الإصلاحي ، وإن كان لا يعنيها البعد الديمقراطى مثلما كانت الحركات الاشتراكية الديمقراطية فى أوربا، والدليل تأييدها للنظام الناصرى متجاوزة عن ديكتاتوريته عندما تأكدت من وطنيته فى 1955 بعد مؤتمر باندونج ، بعد أن كانت تعارض تلك الديكتاتورية نفسها لشكها فى تلك الوطنية فى 1954والتى بلغت تلك المعارضة ذروتها أزمة مارس 54. وجرت مياه من تحت الجسر، ولم يصبح للقضية الوطنية زياك البريق الخاطف جماهيريا مع انسحاب إسرائيل من سيناء، فاستندوا لنظرية التبعية حتى تزلزلت النظرية تماما مع التسعينات ، ومن ثم فقد أتخذ فريقين منهما اتجاهين. الأول فى مواجهة الجماعات الإسلامية ويدعوا لاستنهاض الهمم القومية من خلال الترويج لما يسمى ب "القومية المصرية "محاولا إحيائها، داعيا لدعم اللهجة العامية المصرية باعتبارها لغة متميزة عن العربية، متحدثا وعلى نحو غامض ومشوش عن الخصوصية المصرية الثابتة والخالدة التى يحاولون إثباتها فى بعض الألفاظ والتراكيب اللغوية العامية، والعادات والتقاليد التى تكاد تنقرض، كسبوع المولود، والأربعين للموتى واحتفال شم النسيم ،وبالطبع لا يذكر ختان الإناث، ومظاهر التطرف فى التعبير عن الأفراح والأحزان. وهكذا اكتسبنا حركة جديدة تقوم على بقايا أثرية لثقافة طوتها عوامل الزمن، ولم يبق منها إلا آثار حجرية واجتماعية تضمحل باستمرار مطرد بتأثير الثقافات الأحدث والأكثر تقدما، وأدعك لتفكر فى كم ابتلينا بمثقفين يدعون التقدمية بلغت بهم الرجعية هذا المبلغ لعجزهم عن مواجهة الفاشية الإسلامية برؤية إنسانية أممية ديمقراطية تتفق على الأقل إن لم يكن مع ماركسيتهم المزعومة فمع دعواهم الديمقراطية ،مما ينم عن طبيعتهم المزدوجة. متناسين أن عناصر الثقافة العربية أقوى بمراحل من عناصر الثقافة المصرية القديمة فى مركب الثقافة المصرية المعاصرة ،وأن عناصر الثقافة الإسلامية والدين الإسلامى لا يمكن مقاومتها إلا فى إطار مواجهة الإسلام ذاته، فأي من عناصر الثقافة المصرية القديمة حين لا يتوائم مع الإسلام يمكن ببساطة قمعه دون أن يجد من يجرؤ عن الدفاع عنه فى مواجهة دين فى شمول الإسلام ،وذلك فى المقام الأول من الجماهير البسيطة التى يتحدثون عنها، والتى تمارس عناصر الثقافة المصرية القديمة بأكثر مما يمارسها هؤلاء المتثاقفون المتأثرون أكثر بالثقافات الوافدة الأكثر جدة ، ومن ثم الممارسون للثقافة الأكثر حداثة بكل ما تعنيه من نفى للثقافة الأقدم، إلا أنهم ينتجون خطابا يتمحور حول الثقافة الأقدم لأسباب أيديولوجية.
والاتجاه الثانى وفى مواجهة الثقافات الوافدة من الغرب الامبريالى أنشأ ما سمي ب "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية". وهم يعلنون تعريفهم للثقافة القومية فيما يلى:-
"وبالثقافة القومية نعنى فى هذا الإطار مجمل العوامل التى تشكلت من جماعها الشخصية المصرية العربية فى تاريخ مصر الحديث ،التاريخ والتراث الفكرى والأهداف الجماعية التى استهدفها هذا التاريخ والتراث،أسلوب التفكير ومضمونه وهدفه وأسلوب التعليم ومضمونه وهدفه ومجموعة القيم الأخلاقية والسلوكية التى توجه هذا الفعل وتهديه إلى غير ذلك من العوامل المتفاعلة والمؤثرة بعضها فى البعض،والتى تتكون من محصلتها ثقافة أمة من الأمم."(5). ويفهم من هذا النص بوضوح دفاعهم عن أساليب التفكير السائدة اجتماعيا بما تتميز به من لا علمية ومحافظة وتخلف ،ودفاعهم عن أنظمة التعليم التلقينية التى لا تنتج إلا الموظفين ،والسلبيات السلوكية والأخلاقية السائدة ،وعلى الجملة فهم ليسوا على استعداد للوقوف موقف النقد الثورى والعلمى من الثقافة المحلية التى تنتمى لما قبل الرأسمالية، حيث وضعوا أنفسهم فى موضع الدفاع عنها متحدين حركة التاريخ الإنساني التى تقودها الرأسمالية من أجل التوحد البشرى منذ نحو خمس قرون ،ولا داع هنا للحديث عن الاشتراكية التى يرفع رايتها بعضهم بالطبع.وبناء على ذلك يعلنون:
"وفى ظل ذات الإطار تصدت اللجنة للدفاع عن هوية الشخصية المصرية ضد مجموعة العوامل الخارجية و الداخلية التى تسعى إلى وقف تطورها وإلى عزلها عن بعدها العربى-والقضاء على منطلقاتها الوطنية التحررية من الاستعمار والصهيونية"(6).
ويعلنون "وما من أحد منا يملك أن يقف موقف المتفرج وثقافتنا التى ورثناها من آبائنا ،و التى سنورثها لأبنائنا تتعرض للتهديد وما من أحد يملك الوقوف موقف المتفرج ،ومقومات شخصيته تتعرض لفقدان الحرية وبالتالى للضياع"(7).وبمثل هذه العبارات رفض مشركو قريش دعوة النبى محمد الذى حاول إقناعهم بأن ما عبادتهم من الأصنام لا تضر ولا تنفع ، وهى جزء من ثقافتهم الموروثة عن آبائهم،ومن ثم لم يقفوا موقف المتفرج بل قاوموا ما وسعهم الجهد لحماية تراثهم الموروث من الدعوة الجديدة .
وهم فى هذا الموقف لا يختلفون عن الجماعات الإسلامية التى تقاوم آثار الثقافة الحديثة على التراث الإسلامى،ومثل كل من يتباكى على التراث الذى يندثر أمام الثقافة الوافدة والحديثة ،مما يشير للجذر الاجتماعى الواحد لأقطاب الصراع الدائر بين الإسلاميين والعديد من النخب العلمانية، فمعظم نخب المثقفين تتوحد فى الحديث بأسم هوية اجتماعية ما ،يدعون تمثيلها والدفاع عنها ويختلفون فحسب فى نوع تلك الهوية (مصرية أو عربية أو إسلامية) ،ومن ثم يتصارع كل منهم للدفاع عن الهوية التى يدعون تمثيلها،وهم لا يدركون الطابع التاريخى الذى يحكم المجتمعات البشرية ليس بمعنى مرور الزمن، وإنما التطور والتغير عبر الزمن.هذا الطابع الذى يسمح بالطابع المركب للثقافة الاجتماعية،نتيجة التأثير المتبادل للثقافات الإنسانية الذى ازداد تأثيره الآن بفعل الثورات الإعلامية والتكنولوجية ،و الذى لا يمكن مقاومته إلا بالانعزال التام عن العالم.
وبالرغم مما يدعيه بعضهم من تقدمية تتضح من أسم الحزب الذى يعملون من خلاله، يدافعون عن استمرار المقومات والأسس التى يدعونها للشخصية المصرية فى مواجهة حركة التاريخ التى تعمل على تطورها، سواء بفعل الحركة الداخلية التى تتمرد على التراث والموروث ،أو بالتأثر بالثقافات الوافدة.وهكذا
"ترى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية المنبثقة عن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى والتى تضم مثقفين من داخل الحزب وخارجه ضرورة التصدى للمنطلقات _التى تهدد أسس الثقافة القومية ومقومات الشخصية المصرية"(8).
فما هى أسس تلك الثقافة القومية، ومقومات الشخصية المصرية ما يميزها عن الشخصيات القومية الأخرى أولا ؟،وما هى المنطلقات التى تهددها ثانيا؟، ولماذا لا يعتبر الغرب مثلا أن تأثره ببعض عناصر تلك الثقافة نفسها تهديدا لثقافته وشخصية شعوبه ، فهم يأتون بالملايين ليشاهدوا الآثار، ويؤمن بعضهم بالعقائد المصرية القديمة ،والبعض منهم بالإسلام، ويمارس هؤلاء وهؤلاء حياتهم فى الغرب بكل حرية،فلماذا نخشى أذن من أن يتأثر بعضنا ببعض عناصر من ثقافة مختلفة عن ما ورثناه من ثقافة وتراث،ونعتبر مقاومة ما يسمى بالغزو الثقافى مهمة نضالية بل وتقدمية!؟.
وكلا الفريقين يتصفان باللاتاريخية حيث ينظران للثقافة ككائن ثابت ونهائى بلا تاريخ تطورى، متغافلين عن أن أى ثقافة ليست سوى مركب معقد من ثقافات متعددة اللهم إلا الثقافات المنعزلة والبدائية ،وأن الثقافات الأكثر تقدما خاضعة دوما للتأثير والتأثر بالثقافات الأخرى ،وأنها متطورة أيضا بفعل التغيرات التى تحدث من داخلها ، وبفضل هذا التأثر.
وكما يحكى الجنين الإنسانى قصة التطور فى الرحم، وكما نجد فى الجسم الإنسانى نفسه قصة هذا التطور كبقايا أثرية لمراحل من هذا التطور،مثل بقايا الجفن الثالث فى العين المميز للطيور،والزائدة الدودية ،والعصص فى الظهر كأثر للذيل، وهكذا ،يجرى التطور فى المجتمعات البشرية على هذا النحو فالجديد لا ينفى القديم على نحو مطلق ،ويظل المجتمع البشرى فى رحلة تطوره يحمل فى ثناياه البقايا الأثرية للمجتمعات الأقدم، سواء لأنماط الإنتاج بما تتضمنه من قوى إنتاج أو علاقات إنتاج،وأشكال التنظيم الاجتماعى والسياسى والاقتصادى المتنوعة، والثقافات التى مر بها،من معتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد وأخلاق وسلوك،ففى مصر مازالت قبائل العبابدة والبشارية يحيون حياة الرعى البدائية ،فى حين تمتلىء مصر بشركات برمجة الكومبيوتر التى تتزايد كالطحالب على سطح الماء الراكد لتغطى بعض مظاهر التخلف .وإلى جانب المزارع الرأسمالية المتطورة التى تستخدم الهندسة الوراثية ،مازال الفلاحون يستخدمون الفأس والشادوف كما أستخدمهما أجدادهم المصريون القدماء .وإلى جانب الورش الحرفية القديمة توجد الصناعات المتطورة.وعلى بعد كيلومترات قليلة من وسط القاهرة حيث الأوبرا والبرج والفنادق الفخمة ومجمع التحرير ومترو الأنفاق تتواجد أحياء الصفيح وعربات الكارو. ففى صميم بنية أكثر المجتمعات تقدما مثل "الولايات المتحدة "وكندا وروسيا، سنجد رعاة الرنة من الأسكيمو،بجانب من يستعملون الروبوت والتحكم الآلى ،كما نجد الغجر فى أوروبا بجانب العاملين فى مراكز الفضاء ومحطات الطاقة النووية والصناعات الالكترونية ،وهؤلاء البدائيين قريبو الشبه فى أحوال المعيشة من العبابدة والبشارية وسكان الواحات فى مصر والعشائر الهندية الحمراء فى الولايات المتحدة ،كما أن المتقدمين يتشابهون اجتماعيا وثقافيا مع أمثالهم فى مصر ،وكما يؤمن بعض المصريون بالسحر سنجد من الأمريكيون والأوروبيون من يؤمنون بالسحر وبحيوية المادة،وإذا كان لدينا جماعات التكفير والهجرة فهناك من الطوائف الدينية المسيحية ما تحرم استخدام أيا من وسائل تكنولوجيا ما بعد الثورة الصناعية.وفى الهند صناعات متقدمة متطورة كالبرمجيات والأقمار الصناعية بجانب بقايا عشائر بدائية، وزراعة تقوم على وسائل مازالت تستخدم من آلاف السنين،وبجانب بقايا الرق وعبودية الأرض نجد علاقات إنتاج رأسمالية متطورة ،وبجانب الديمقراطية البرلمانية المتطورة نجد بقايا نظام الطبقات الهندية القديمة.ففى داخل كل مجتمع ،تعيش شرائح مختلفة على درجات متفاوتة من التقدم والتخلف ومستويات المعيشة وموقعها من علاقات الإنتاج ومصالحها المادية ومواقفها الفكرية وهكذا .و يرتبط بعضها بأرقى قوى الإنتاج ومن ثم بعلاقات إنتاج أكثر تطورا وبعضها يعيش وفق علاقات إنتاج أدنى.وتنقسم هذه الشرائح فر رؤاها السياسية والاجتماعية والثقافية .ولا يوجد من مبرر يوحدها سوى الدولة وعناصر من ثقافة مشتركة أساسها أحيانا مجرد اللغة الواحدة .
والمجتمعات لا تتطور فى نفس الوقت مرة واحدة على نحو متجانس .ففكرة المجتمع محلى كان أم قومى يتميز بتجانس ما محل شك كبير .أن التطور اللامتكافىء داخل كل مجتمع وبين كل المجتمعات هى سمة من سمات النمو الرأسمالى ،كما هو التفسخ الشامل والاستقطاب الحاد واطراد عدم التجانس المصاحبة للمجتمعات التى تسودها الرأسمالية وبرغم كل هذه الظاهرة فدائما ما تسيطر أنماط الإنتاج الأكثر تطورا على الأنماط الأقل تطورا ،كما تسيطر الثقافات الأكثر تطورا على الثقافات الأقل تطورا داخل المركب الاجتماعى الواحد ،أو هذا ما ينبغى له أن يكون، وأى حركة تقدمية فعلا عليها أن تنحاز لما هو أكثر تقدما فى هذا المركب إلا أن هذا ما لا نلاحظه لدى العقليات اللاتاريخية التى تدعى التقدمية.مع ملاحظة أن التاريخ البشرى لا يتحرك للأمام نحو التقدم إلا فى المحصلة النهائية للحركة،إلا أنه يعرف التراجع للخلف، ومن ثم فمعيار الانحياز لا يقاس بمعيار الجديد والقديم بقدر ما يقاس بالأكثر تقدما أو تخلفا.
النظرة اللاتاريخية للتاريخ تنظر إليه كصراع إرادات واعية بأكثر مما تنظر إليه كتعبير عن ضرورات اجتماعية، تخلق بنفسها الإرادات التى تعبر عنها.ومن ثم فتفسير اتفاق معظم النخب المثقفة على كونها ممثلة لهوية جماعية ما مع اختلافها على نوع الهوية فقط ،وما ينتج عن هذا الاختلاف من آثار جانبية تميز فحسب هذه النخب عن بعضها البعض.هو تبرير هذه النخب لدور الدولة الحديثة فى إحداث التقدم الاجتماعى ،تلك الدولة التى يشكلون دعامتها الأساسية فى إطار عملية التقدم،لكونهم النخب المتعلمة تعليما حديثا والمستقلة عن الطبقات الرئيسية فى المجتمع، ومن ثم وفى إطار بحثهم فحسب عن نوع الهوية التى تبرر سلطة الدولة يختلفون فى الاختيارات، ومن ثم يتصارعون صراعا نخبويا فى ظل مجتمع راكد سياسيا واجتماعيا على نحو كبير حيث تحتكر الدولة جل العمليات السياسية والاجتماعية منذ أن بدأت الدولة الحديثة مع "محمد على" اللهم إلا لحظات خاطفة فى التاريخ الحديث لم تسفر عن تبلور كاف للطبقات الاجتماعية ،ومن ثم للحركات السياسية التى تعبر عنها.
المصادر
(1) د. محمد عمارة "تجديد الفكر الإسلامى - محمد عبده ومدرسته" كتاب الهلال، العدد 630، ديسمبر 1980، صـ12.
(2) جمال عبد الناصر-شروق مبدأ الناصرية-مصدر سابق-ص96.
(3) د. عبد الحميد الغزالى: "مقدمة فى الاقتصاديات الكلية"-مصدر سابق صـ373.
(4) المصدر نفسه، صـ371.
(5) لجنة الدفاع عن الثقافة القومية- مقالات ووثائق-1979-1994.-ص65.
(6) المصدر نفسه-ص76.
(7) المصدر نفسه-ص39.
(8) المصدر نفسه-ص42.
قد نعترف جميعا بأن كل شئ فى حالة حركة مستمرة، وأنه لا يوجد شئ يبقى على حاله، هذا لأن الواقع الملموس يفصح عن هذا فى كل لحظة، وفى كل مكان..إلا أنه بالرغم من هذه الحقيقة البسيطة، فإن البشر حين يفكرون ويتصرفون قد يتغافلون عن كل هذا، فهم قد يعترفون بالتاريخ، إلا أنهم لا يعيشون إلا حاضر اللحظة. فلا تعنيهم اللحظة السابقة عليها، وكيف نشأت منها، ولا ينظرون للحظة المقبلة بعدها، ولا كيف ستنشأ من اللحظة الحاضرة.
لدينا طريقتان فى التفكير : الأولى هى اللاتاريخية، التاريخ لديها مجرد مرور للزمن، وليس تطور الأشياء عبر الزمن، ومن هنا فهى بحث دائم عن جوهر ثابت يتخطى التاريخ، جوهر لا تجرى عليه تحولات عبر هذا التاريخ.. أى أنها لا تنطلق فى بحثها لفهم الشيء محل البحث من تاريخية الشئ، بمعنى تغافلها عن كونه نشأ من شئ سابق عليه، وعبر رحلة النشوء والنمو، سيتحول فى مستقبله لشئ آخر.. ومع إدراك واعتراف هذه العقلية بحقيقة الحركة والتغير والتاريخية، إلا أنها تفترض الثبات والخلود والنهائية فى الأشياء والأفكار.. ولكن لا يعنى تمسك العقلية اللاتاريخية بالجوهر الثابت أنها لا تستهدف التغيير، فقد تتمسك بجوهر مخالف للوضع القائم، وبالتالى تنزع الشرعية عنه، وبالتالى تسعى لتغييره.
والثانية هى : التاريخية، وهى تنطلق فى فهمها للأشياء محل البحث فى تحولاتها، فى تاريخيتها : كيف نشأت ؟ وكيف تتطور وتتحرك ؟ وكيف ستتحول لأشياء أخرى ؟ فهى تدرك حركة وتغير الأشياء المستمرة، ولا تفهمها إلا فى سياق هذه الحركة، أى من حيث هى عملية.. وبالتالى فهى لا تعترف بوجود ما هو ثابت أو خالد أو نهائى فى أى شئ من أشياء الواقع ؛ فالوجود كله هو مجموع أشياء لا حصر لها تتطور من الأدنى للأرقى، و من الأبسط للأعقد فى حركة لا تتوقف.
وفى الحقيقة أن أى أصولية أيا كانت - دينية أو قومية أم مذهبية - هى كحركة تحاول أن تقاوم اتجاه التاريخ، فالتمسك بالأصول يعنى الوقوف فى وجه التطور، أو بمعنى آخر : التمسك بما لم يعد مناسبا للتطور.
قياس الماضى على الحاضر:
إن جوهر التفكير الخرافى والتراثى عموما هو أن التاريخ صراع مستمر بين الإلهى والشيطاني أو الأنا(ولى الله) والآخر(حليف الشيطان)، وقد يحدث أن يأخذ الصراع شكل دورة، وإن لم يكن هذا قانونا حتميا ولا إلهيا.. ولذلك فإن خطاب الإسلام السياسى الآن يطرح العودة للماضي ظاهريا، وليس أى ماضى، ولكن تلك اللحظة المعينة فى الماضى، التى يقدسونها ويسعون لعودتها مرة أخرى بكل ما شهدته من أحداث. فهم يقولون إن المجتمعات عادت جاهلية مرة أخرى، حيث غاب الإسلام عن الحياة، وعليه الآن أن يعود فى صورة عصبة مؤمنة، تعيد نفس خطوات التاريخ : الصراع بين الإيمان والشرك، ثم انتصار الإيمان، ومنه إلى إعادة فتح العالم لنشر الإسلام، ومن ثم عودة الدور القيادى للحضارة الإسلامية فى العالم مثلما كانت فى العصور الوسطى، بصرف النظر عن الظروف التى قد توافرت فى الماضى، وسمحت بهذا التسلسل، وتولى هذا الدور، وبصرف النظر عن الظروف التى جدت على واقع العالم المعاصر من توحد حضارى يزداد عمقا.
فسقوط الغرب الذى يبشر به الإسلاميون ويفترضونه كضرورة للنهضة الإسلامية لا يعنى بالضرورة هذه النهضة. هذا السقوط معناه سقوط الجزء الأكثر تقدما فى العالم، والذى يشكل مركزه، ولاشك أن هذا سيكون له تأثيره المدمر على مستوى العالم، للاعتماد المتبادل، والترابط المعقد بين هذا المركز وأطرافه، وهى كل أجزاء العالم الباقية، ولك أن تفكر فحسب فى توقف الصناعة فى الغرب وما سيؤدى إليه هذا من انهيار أسعار البترول إلى أقصى حد، وما يمكن أن يؤدى إليه هذا من ارتداد الحياة فى الخليج للبداوة مرة أخرى.
يكتب د. محمد عمارة "لا لتيار "التغريب" الذى أراد أنصاره من المستعمرين، وأنصارهم من الذين "أدهشتهم" فبهرتهم عظمة الحضارة الأوروبية عندما قارنوها بتخلف المماليك والعثمانيين" (1). وكأننا لو قارنا هذه الحضارة الأوروبية بفترات الذروة فى الحضارة الإسلامية لن نصاب بنفس الاندهاش والانبهار، فهل سيدهشنا الاسطرلاب والبوصلة أم الكمبيوتر ومكوك الفضاء ؟ وهل ستجذبنا الديمقراطية وحقوق الإنسان أم الخلافة المستبدة ؟ فكل ما فى الأمر إذن أنه يريد العودة بنا إلى تلك اللحظة من التاريخ التى كانت فيها بغداد حاضرة العالم، فى حين كانت باريس فى ذلك الوقت مجرد قرية صغيرة لا شأن لها، وهو إذن يظن أننا أذا عدنا فكريا لهذه اللحظة سنستطيع تجاوز التخلف إلى التقدم. والسؤال الآن : لماذا لا نحاول تجاوز كلتا الحضارتين بالمزيد من التقدم الإنسانى على كافةالأصعدة، بتجاوز كل من الأصالة والمعاصرة، إلى المستقبل الأفضل ؟ هذا مالا تقبله ولا تفهمه الحركة الإسلامية أو أى حركة قومية.
الاقتصاد الإسلامى/القومى وسكون الزمن :
مرت المجتمعات البشرية بالعديد من أساليب الإنتاج، ففى بادئ الأمر عرفت البشرية المجتمعات المشاعية البدائية، حيث كانت وسائل الإنتاج لا تزيد عن بعض أدوات الصيد وجمع الثمار والزراعة البدائية، وكان أفراد الجماعة يعملون جميعا كل حسب قدراته فى استخراج منتجات مادية من الطبيعة، لإشباع احتياجاتهم، تقسم بينهم بالتساوى ، ولما كان الإنتاج لا يكفى إلا احتياجاتهم الضرورية فلم يكن لأى منهم أن يستحوز على جزء من هذا الإنتاج لنفسه، وإلا مات آخرون جوعا.. وتطورت وسائل الإنتاج، وبالتالى زادت الإنتاجية، مما ساعد على تكوين فائض اجتماعى.. أصبح لبعض أفراد العشيرة أن يستحوزوا عليه لأنفسهم، مما أدى لنشوء الملكية الخاصة، ومن ثم انقسام المجتمع لطبقات، (من يملكون ومن لا يملكون)، وظهرت الأسرة كمؤسسة هدفها الحفاظ على استمرار الملكية الخاصة فى سلالة المالك، وظهرت الدولة كجهاز لقهر من لا يملكون لصالح من يملكون وسائل الإنتاج أو يسيطرون عليها. هؤلاء الملاك الذين يستحوزون لأنفسهم على الفائض الاجتماعى من الإنتاج.
كان اكتشاف الزراعة التقليدية سواء على مياه الأمطار أم على مياه الأنهار، وتدجين الحيوانات ورعيها، هى الأساس لظهور المجتمعات الطبقية، ما قبل الرأسمالية، التى تعتمد على وجود طبقة تقوم بمهام سياسية وقضائية وتشريعية وإدارية وعسكرية عامة، وهى إما أن تملك أو تسيطر على وسائل الإنتاج بما فيها قوة العمل أو تكتفى بربطها بها بأشكال أقرب للملكية، وهى فى هذه الحالة تقتصر على انتزاع ريع أو خراج من الفلاحين والحرفيين والتجار الخاضعين لسلطتها مقابل أدائها لمهامها.
وكان أحد أشكال هذه المجتمعات (الإقطاع فى غرب أوروبا)، قد تطور من داخله ومن خلال المدن الحرة غير الخاضعة للسادة الإقطاعيين، فصعدت الطبقة البرجوازية وهم ملاك وسائل الإنتاج الذين يشترون قوة العمل المأجورة الحرة، لإنتاج السلع من أجل السوق.. وسيدت هذه الطبقة علاقات إنتاجها الجديدة على أساس الثورة الصناعية تدريجيا فى شتى بقاع الأرض.
والملاحظ بشكل أساسى فى هذه الرحلة، هو أن أساليب الإنتاج المختلفة لا تنشأ وتتطور وتموت وفق إرادات مسبقة، أو برامج محددة سلفا، وإنما توافقا مع ضرورة كامنة فى طبيعة المجتمعات البشرية نفسها.
فلما كانت احتياجات البشر تزداد نتيجة زيادة عدد السكان، وتطور مستوى المعيشة نفسه، فإنه يجب عليهم أن يطوروا قوة إنتاجهم (وسائل الإنتاج + قوة العمل) لتزداد الإنتاجية (أى تزداد قدرة البشر على إنتاج المزيد من المنتجات المادية) لسد حاجة السكان المتزايدة. ولما كان الإنتاج نفسه يتم جماعيا، فإن البشر أثناء عملية الإنتاج يدخلون فى علاقات إنتاج تتطور لتتطابق مع مستوى قوى الإنتاج، واللذان يشكلان سويا أساس ما يسمى بأسلوب الإنتاج.
وبنفس هذه الضرورة لابد أن تزول الرأسمالية يوما لتفسح المجال لعلاقات إنتاج أخرى تقوم على أساس قوى إنتاج أكثر تطورا... وهلم جرا.إلا أن القوى السياسية القائمة على أساس الهوية قومية أو دينية أو ثقافية ..الخ لا تفهم الطابع التاريخى لتطور المجتمعات ولذلك.
كتب جمال عبد الناصر "يضاف إلى ذلك أنه منذ عصور بعيدة فى التاريخ توصلت الزراعة المصرية إلى حلول اشتراكية صحيحة لأعقد مشاكلها وفى مقدمتها الرى والصرف وهما فى مصر الآن ومنذ زمن طويل فى إطار الخدمات العامة "(2).
وهكذا يعتبر أن الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية هى مجرد حلول لمشاكل، وبالتالى لاتاريخية فى تسلسلها، ولاضرورةوراء هذا التسلسل، وبالتالى فالأنظمة الاجتماعية تقبل الخلود والثبات وهو الأمر الذى لا تتصف به على الإطلاق،ومن ثم فقد عرفت مصر -كما هى العادة –حسبما يزعم الاشتراكية كحل جزئى لمشكلة الرى حيث يعتبر أن أى تدخل عام من الدولة هو من قبيل الاشتراكية،والنظم الاجتماعية الاقتصادية لا يتحدد جوهرها فى النهاية بمن يملك بقدر ما تتحدد بشكل علاقة الإنتاج التى يدخل فيها البشر خلال عملية الإنتاج، وبشكل توزيع الفائض الاجتماعى بين الداخلين فى علاقة الإنتاج.
واتساقا مع هذه النظرة اللاتاريخية يكتب د. عبد الحميد الغزالى "وعلى هذا الأساس عرف الجنس البشرى، وضعيا، وفقا لتتابع زمنى : النظام البدائى، ونظام الرق، والنظام الإقطاعى، والنظام الحرفى، والنظام الرأسمالى، والنظام الاشتراكى، كما عاش تجربة ثرية ومضيئة فى تاريخه، تمثلت فى النظام الاقتصادى الإسلامى. إن هذا النظام صالح لكل زمان ومكان بثوابته ومتغيراته" (3).
وذلك دون أى تحديد لمميزات اقتصادية لذلك الذى يسميه النظام الاقتصادى الإسلامى، وهنا نتساءل :
1- هل اختلف ما يسميه بالاقتصاد الإسلامى عما كان فى الواقع فى المجتمعات الإسلامية ما قبل الرأسمالية، وعن كل ما عرفته المجتمعات النهرية مما يسمى بنمط الإنتاج الخراجى والقائم على انتزاع الفائض الاجتماعى فى صورة خراج من الفلاحين بواسطة جهاز الدولة، الذى يشكل من يعملون به طبقة متميزة تستحوذ على هذا الفائض لنفسها، والذى يوزع على أفراد هذه الطبقة بنظام معين مقابل حفظها للأمن الخارجى وإقامة العدل وتنظيم الرى، سواء أكانت هذه المجتمعات هندوسية أم بوذية أم وثنية أم فرعونية أم كونفوشية أم مسيحية، وسواء أكانت فى مصر فى الصين أم فى الهند أم فى العراق فى الفترة من حوالى 4000 ق.م إلى 1800 ب.م ؟
2- على أى أساس، وعلى خلاف قوانين التطور التى يشرحها هو نفسه، يمكن القول بأن هناك وفق ضرورات التطور نظاما اقتصاديا صالحا لكل زمان ومكان؟! ولماذا هزم هذا النظام الذى لم يعرفه التاريخ إذن أمام الرأسمالية ؟!
3- كيف يقول لنا إن كل هذه الأنظمة وضعية، ونحن لم نعرف أبدا نظاما اقتصاديا من وضع البشر، فالبشر لا يضعون أنظمتهم، ولكنهم يضطرون إليها، وفق ضرورات لا دخل لهم فيها ؟ لكنه يكتب "ويبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا إلى ما لم يبلغه أى نظام من صنع البشر، ووضع الإنسان، على الإطلاق، فى يسر وطمأنينة واعتدال" (3).. وللأمانة العلمية متى وأين حدث هذا ؟ . وما هو الذى تحقق للبشر من تقدم مادى وفكرى وروحى، وفاق ما حققته الرأسمالية بصورها المختلفة التى ظهرت فحسب منذ خمسة قرون؟!
4- وكيف يتفق هذا الادعاء، وحقيقة الصراع الطبقى عبر كل التاريخ الإسلامى، من الفتنة الصغرى، للفتنة الكبرى، وثورات الخوارج، وثورة الزنج، وحركة القرامطة، والثورة البابكية وهو ما عرفناه فحسب من كتب التاريخ. الخ. ألم يكن هذا التاريخ صراعا دائما بين من يملكون ويسيطرون على السلطة ،ومن ثم يسيطرون على الخراج الذى يشكل الفائض الاجتماعى، وبين من لا يملكون السيطرة عليه ولذا يسعون للسلطة للاستيلاء عليه ؟
التلفيقية واللاتاريخية :
هناك أساس مشترك لكل من التلفيقية واللاتاريخية فى فكر الحركة الإسلامية والكثير من الحركات السياسية على امتداد العالم العربى. فلما كان الحاضر المعاصر يفرض نظاما إنتاجيا معينا ليس مخالفا تماما لما تراه الحركة الإسلامية متفقا مع رؤيتها للإسلام، ونظرا لرؤيتها اللاتاريخية، فإنها تلجأ إلى التلفيق ما بين ضروريات الحاضر ومصطلحات الماضى وقيمه، تنطلق من الرفض الشكلى للرأسمالية والاشتراكية، وتستلهم محاولات فقهية للتوفيق بين العلوم الاجتماعية الحديثة والنظم الاجتماعية المعاصرة، وبين النصوص الدينية عند الحركات الدينية أو التراث القومى لدى القوميين، ومنها يؤسس ما يسمى بالعلوم الاجتماعية الدينية أو النظريات القومية، وإذا تفحصنا هذه الأيديولوجيات جوهريا سنجدها تشترك فيما هو متوفر جزئيا فى الاقتصاد الرأسمالى فيما يتعلق بالحرية والمبادرة الحرة، وجزئيا أيضا فيما يسمى باشتراكية الدولة فيما يتعلق بتدخل الدولة والضمان الاجتماعى، وفى هذا تشترك إيران الإسلامية مع مصر الناصرية، وهذه الأسس الانتقالية قد قامت على أساسها الأنظمة التقدمية الاشتراكية والتحررية فى العالم الثالث على اختلافاتها التفصيلية وغير الجوهرية.
والحقيقة أن سبب ظهور كل هذه الأنظمة الإصلاحية بدرجاتها المختلفة من الاشتراكيات الستالينية والماوية والقومية والدينية والإصلاحية... الخ راجع إلى ضرورة تاريخية فرضت تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، لتطوير قوى الإنتاج وحل مشاكل النمو الرأسمالى، والتحكم فى الصراع الطبقى، فى ظل برجوازية مأزومة أو ضعيفة أو عاجزة عن أداء هذا الدور.فتحل الدولة مكانها جزئيا أو كليا وبشكل مؤقتا لحين إنجاز هذه المهام.
ولما كانت المجتمعات الإسلامية تواجه هذا الموقف كغيرها من المجتمعات المتخلفة، فإن وضع برنامج يحمل نفس المضمون، فى ظل مصطلحات إسلامية، مستخرجة من النصوص الإسلامية، التى عبرت عن احتياجات نظام اقتصادى اجتماعى مختلف، لا تصبح غريبة عما يطرحه الحاضر من ضرورات ولا عن الخاصية اللاتاريخية لفكر الإسلام السياسى أو الفكر القومى، حيث جدت ضرورة تاريخية أخرى فرضت تخلى الدولة عن تدخلها المباشر فى عملية الإنتاج - نتيجة التناقض بين الإنتاج العالمى الطابع، وملكية الدولة لوسائل الإنتاج - وهو ما أدى لسقوط كل هذه الأنظمة التدخلية، فهل سيتحفنا منظرو الإسلام السياسى بتلفيقات جديدة توائم بين التراث الدينى والمستجدات الجديدة، فيصبح لدينا علمان للاقتصاد الإسلامى أحدهما مع التدخلية البيروقراطية والآخر مع الليبرالية الرأسمالية ؟ وهل سيخرج فى الحالتين عن الدائرة الرأسمالية بشكل جوهرى ؟!
واللاتاريخية تجعل الخطاب السياسى الإسلامى يركز على تحريم الربا، ومن ثم فوائد البنوك، واعتبار أن هذا التحريم هو الميزة التى تخرج النظام من دائرة الظلم الاجتماعى المميز للمجتمعات الطبقية، وهو لا يقيس الربا باعتباره فضل مال بغير عوض فى مبادلة مال بمال بفائض القيمة الذى هو فضل قيمة عمل بغير عوض فى مبادلة قوة العمل بأجر.
والسبب فى عدم قياس فائض القيمة على الربا يرجع فى الحقيقة إلى أن الحاضر فحسب يرتدى ثياب الماضى، التى لا تخفى معاصرته، فمنع الربا ظاهرة شائعة فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية.. (فقد كان محرما فى كثير من المجتمعات الأوروبية المسيحية قبل الرأسمالية، ومحلا للنقد الأخلاقى،( نذكر شيلوك بطل مسرحية تاجر البندقية لشكسبير) ولكن ترديد هذه الفكرة الآن لا ينتج عن تعبير الإسلام السياسى عن بقايا ما قبل الرأسمالية فى المجتمع، وإنما عن البرجوازية الصغيرة المتمردة على الرأسمالية المتخلفة، وهى ترى من مصلحتها تحريم الربا فى التجارة والإقراض، وبالتالى اجتهدت فقاست فوائد البنوك على الربا، إلا أنها تقاوم بشراسة نفس القياس لو تم على فائض القيمة، وتستند إلى الكثير من الأحاديث التى تتحدث عن العمل المأجور، متناسية أن عمال الماضى المأجورين، ليسوا هم عمال الحاضر، فلم يكن الإنتاج فى أساسه يقوم على انتزاع فائض العمل من العمل المأجور، وبالتالى فالقياس غير قائم أساسا بين الحالتين.
وهذا التركيز الدعائى على مسألة الربا والفوائد هو أيضا ورطة يضطر للسقوط فيها هذا التيار بسبب تقديس النص. خصوصا أن الإسلام السياسى تربى فى مواجهة الحركة الماركسية، واضطر لتبنى مفاهيم العدالة الاجتماعية، ولم يكن بإمكانه التراجع بشكل فاضح إلى حد استثناء الربا من القوانين الإلهية الواجبة التطبيق. ومع ذلك فمن الواضح فى الممارسة الإسلامية أن الخمر والدعارة والسفور والاختلاط بين الجنسين وشرائط الفيديو.. هى محور الدعاية الإسلامية، وليس بأى حال من الأحوال الربا، ولم يشهد تاريخ الحركة هجوما ولا تدميرا للبنوك مثلما هوجمت محلات الفيديو، وهوجم السائحون.
أما التصدى الجدى للمشكلة فأخذ شكل التحايل.. وهو ما يعرف بظاهرة البنوك الإسلامية، فوائد تأخذ شكل مرابحة، وبهذا التحايل والتعديل يتم الحفاظ على جوهر النظام الرأسمالى، أى إثبات أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان بإلباس الجوهر الرأسمالى المعاصر الشكل الإسلامى القديم.
اللاتاريخية والثقافة القومية
الحركة الماركسية فى مصر لم تكن معنية حقا بكونها ماركسية ،مما كان يستوجب فى هذه الحالة ضرورة أن تكون حركة عمالية وأممية بالأساس يعنيها فى المقام الأول الصراع الطبقى منحازة فى ذلك إلى الطبقة العاملة ،وسائر المستغلين والمقهورين بصرف النظر عن المسألة القومية، و بهدف التحرر الإنسانى عموما وليس بهدف التحرر القومى خصوصا،وإنما كانت حركة وطنية جذرية ذات ميول إصلاحية اجتماعيا تجاوز برنامج النظام الناصرى نفسه برنامجها الإصلاحي ، وإن كان لا يعنيها البعد الديمقراطى مثلما كانت الحركات الاشتراكية الديمقراطية فى أوربا، والدليل تأييدها للنظام الناصرى متجاوزة عن ديكتاتوريته عندما تأكدت من وطنيته فى 1955 بعد مؤتمر باندونج ، بعد أن كانت تعارض تلك الديكتاتورية نفسها لشكها فى تلك الوطنية فى 1954والتى بلغت تلك المعارضة ذروتها أزمة مارس 54. وجرت مياه من تحت الجسر، ولم يصبح للقضية الوطنية زياك البريق الخاطف جماهيريا مع انسحاب إسرائيل من سيناء، فاستندوا لنظرية التبعية حتى تزلزلت النظرية تماما مع التسعينات ، ومن ثم فقد أتخذ فريقين منهما اتجاهين. الأول فى مواجهة الجماعات الإسلامية ويدعوا لاستنهاض الهمم القومية من خلال الترويج لما يسمى ب "القومية المصرية "محاولا إحيائها، داعيا لدعم اللهجة العامية المصرية باعتبارها لغة متميزة عن العربية، متحدثا وعلى نحو غامض ومشوش عن الخصوصية المصرية الثابتة والخالدة التى يحاولون إثباتها فى بعض الألفاظ والتراكيب اللغوية العامية، والعادات والتقاليد التى تكاد تنقرض، كسبوع المولود، والأربعين للموتى واحتفال شم النسيم ،وبالطبع لا يذكر ختان الإناث، ومظاهر التطرف فى التعبير عن الأفراح والأحزان. وهكذا اكتسبنا حركة جديدة تقوم على بقايا أثرية لثقافة طوتها عوامل الزمن، ولم يبق منها إلا آثار حجرية واجتماعية تضمحل باستمرار مطرد بتأثير الثقافات الأحدث والأكثر تقدما، وأدعك لتفكر فى كم ابتلينا بمثقفين يدعون التقدمية بلغت بهم الرجعية هذا المبلغ لعجزهم عن مواجهة الفاشية الإسلامية برؤية إنسانية أممية ديمقراطية تتفق على الأقل إن لم يكن مع ماركسيتهم المزعومة فمع دعواهم الديمقراطية ،مما ينم عن طبيعتهم المزدوجة. متناسين أن عناصر الثقافة العربية أقوى بمراحل من عناصر الثقافة المصرية القديمة فى مركب الثقافة المصرية المعاصرة ،وأن عناصر الثقافة الإسلامية والدين الإسلامى لا يمكن مقاومتها إلا فى إطار مواجهة الإسلام ذاته، فأي من عناصر الثقافة المصرية القديمة حين لا يتوائم مع الإسلام يمكن ببساطة قمعه دون أن يجد من يجرؤ عن الدفاع عنه فى مواجهة دين فى شمول الإسلام ،وذلك فى المقام الأول من الجماهير البسيطة التى يتحدثون عنها، والتى تمارس عناصر الثقافة المصرية القديمة بأكثر مما يمارسها هؤلاء المتثاقفون المتأثرون أكثر بالثقافات الوافدة الأكثر جدة ، ومن ثم الممارسون للثقافة الأكثر حداثة بكل ما تعنيه من نفى للثقافة الأقدم، إلا أنهم ينتجون خطابا يتمحور حول الثقافة الأقدم لأسباب أيديولوجية.
والاتجاه الثانى وفى مواجهة الثقافات الوافدة من الغرب الامبريالى أنشأ ما سمي ب "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية". وهم يعلنون تعريفهم للثقافة القومية فيما يلى:-
"وبالثقافة القومية نعنى فى هذا الإطار مجمل العوامل التى تشكلت من جماعها الشخصية المصرية العربية فى تاريخ مصر الحديث ،التاريخ والتراث الفكرى والأهداف الجماعية التى استهدفها هذا التاريخ والتراث،أسلوب التفكير ومضمونه وهدفه وأسلوب التعليم ومضمونه وهدفه ومجموعة القيم الأخلاقية والسلوكية التى توجه هذا الفعل وتهديه إلى غير ذلك من العوامل المتفاعلة والمؤثرة بعضها فى البعض،والتى تتكون من محصلتها ثقافة أمة من الأمم."(5). ويفهم من هذا النص بوضوح دفاعهم عن أساليب التفكير السائدة اجتماعيا بما تتميز به من لا علمية ومحافظة وتخلف ،ودفاعهم عن أنظمة التعليم التلقينية التى لا تنتج إلا الموظفين ،والسلبيات السلوكية والأخلاقية السائدة ،وعلى الجملة فهم ليسوا على استعداد للوقوف موقف النقد الثورى والعلمى من الثقافة المحلية التى تنتمى لما قبل الرأسمالية، حيث وضعوا أنفسهم فى موضع الدفاع عنها متحدين حركة التاريخ الإنساني التى تقودها الرأسمالية من أجل التوحد البشرى منذ نحو خمس قرون ،ولا داع هنا للحديث عن الاشتراكية التى يرفع رايتها بعضهم بالطبع.وبناء على ذلك يعلنون:
"وفى ظل ذات الإطار تصدت اللجنة للدفاع عن هوية الشخصية المصرية ضد مجموعة العوامل الخارجية و الداخلية التى تسعى إلى وقف تطورها وإلى عزلها عن بعدها العربى-والقضاء على منطلقاتها الوطنية التحررية من الاستعمار والصهيونية"(6).
ويعلنون "وما من أحد منا يملك أن يقف موقف المتفرج وثقافتنا التى ورثناها من آبائنا ،و التى سنورثها لأبنائنا تتعرض للتهديد وما من أحد يملك الوقوف موقف المتفرج ،ومقومات شخصيته تتعرض لفقدان الحرية وبالتالى للضياع"(7).وبمثل هذه العبارات رفض مشركو قريش دعوة النبى محمد الذى حاول إقناعهم بأن ما عبادتهم من الأصنام لا تضر ولا تنفع ، وهى جزء من ثقافتهم الموروثة عن آبائهم،ومن ثم لم يقفوا موقف المتفرج بل قاوموا ما وسعهم الجهد لحماية تراثهم الموروث من الدعوة الجديدة .
وهم فى هذا الموقف لا يختلفون عن الجماعات الإسلامية التى تقاوم آثار الثقافة الحديثة على التراث الإسلامى،ومثل كل من يتباكى على التراث الذى يندثر أمام الثقافة الوافدة والحديثة ،مما يشير للجذر الاجتماعى الواحد لأقطاب الصراع الدائر بين الإسلاميين والعديد من النخب العلمانية، فمعظم نخب المثقفين تتوحد فى الحديث بأسم هوية اجتماعية ما ،يدعون تمثيلها والدفاع عنها ويختلفون فحسب فى نوع تلك الهوية (مصرية أو عربية أو إسلامية) ،ومن ثم يتصارع كل منهم للدفاع عن الهوية التى يدعون تمثيلها،وهم لا يدركون الطابع التاريخى الذى يحكم المجتمعات البشرية ليس بمعنى مرور الزمن، وإنما التطور والتغير عبر الزمن.هذا الطابع الذى يسمح بالطابع المركب للثقافة الاجتماعية،نتيجة التأثير المتبادل للثقافات الإنسانية الذى ازداد تأثيره الآن بفعل الثورات الإعلامية والتكنولوجية ،و الذى لا يمكن مقاومته إلا بالانعزال التام عن العالم.
وبالرغم مما يدعيه بعضهم من تقدمية تتضح من أسم الحزب الذى يعملون من خلاله، يدافعون عن استمرار المقومات والأسس التى يدعونها للشخصية المصرية فى مواجهة حركة التاريخ التى تعمل على تطورها، سواء بفعل الحركة الداخلية التى تتمرد على التراث والموروث ،أو بالتأثر بالثقافات الوافدة.وهكذا
"ترى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية المنبثقة عن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى والتى تضم مثقفين من داخل الحزب وخارجه ضرورة التصدى للمنطلقات _التى تهدد أسس الثقافة القومية ومقومات الشخصية المصرية"(8).
فما هى أسس تلك الثقافة القومية، ومقومات الشخصية المصرية ما يميزها عن الشخصيات القومية الأخرى أولا ؟،وما هى المنطلقات التى تهددها ثانيا؟، ولماذا لا يعتبر الغرب مثلا أن تأثره ببعض عناصر تلك الثقافة نفسها تهديدا لثقافته وشخصية شعوبه ، فهم يأتون بالملايين ليشاهدوا الآثار، ويؤمن بعضهم بالعقائد المصرية القديمة ،والبعض منهم بالإسلام، ويمارس هؤلاء وهؤلاء حياتهم فى الغرب بكل حرية،فلماذا نخشى أذن من أن يتأثر بعضنا ببعض عناصر من ثقافة مختلفة عن ما ورثناه من ثقافة وتراث،ونعتبر مقاومة ما يسمى بالغزو الثقافى مهمة نضالية بل وتقدمية!؟.
وكلا الفريقين يتصفان باللاتاريخية حيث ينظران للثقافة ككائن ثابت ونهائى بلا تاريخ تطورى، متغافلين عن أن أى ثقافة ليست سوى مركب معقد من ثقافات متعددة اللهم إلا الثقافات المنعزلة والبدائية ،وأن الثقافات الأكثر تقدما خاضعة دوما للتأثير والتأثر بالثقافات الأخرى ،وأنها متطورة أيضا بفعل التغيرات التى تحدث من داخلها ، وبفضل هذا التأثر.
وكما يحكى الجنين الإنسانى قصة التطور فى الرحم، وكما نجد فى الجسم الإنسانى نفسه قصة هذا التطور كبقايا أثرية لمراحل من هذا التطور،مثل بقايا الجفن الثالث فى العين المميز للطيور،والزائدة الدودية ،والعصص فى الظهر كأثر للذيل، وهكذا ،يجرى التطور فى المجتمعات البشرية على هذا النحو فالجديد لا ينفى القديم على نحو مطلق ،ويظل المجتمع البشرى فى رحلة تطوره يحمل فى ثناياه البقايا الأثرية للمجتمعات الأقدم، سواء لأنماط الإنتاج بما تتضمنه من قوى إنتاج أو علاقات إنتاج،وأشكال التنظيم الاجتماعى والسياسى والاقتصادى المتنوعة، والثقافات التى مر بها،من معتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد وأخلاق وسلوك،ففى مصر مازالت قبائل العبابدة والبشارية يحيون حياة الرعى البدائية ،فى حين تمتلىء مصر بشركات برمجة الكومبيوتر التى تتزايد كالطحالب على سطح الماء الراكد لتغطى بعض مظاهر التخلف .وإلى جانب المزارع الرأسمالية المتطورة التى تستخدم الهندسة الوراثية ،مازال الفلاحون يستخدمون الفأس والشادوف كما أستخدمهما أجدادهم المصريون القدماء .وإلى جانب الورش الحرفية القديمة توجد الصناعات المتطورة.وعلى بعد كيلومترات قليلة من وسط القاهرة حيث الأوبرا والبرج والفنادق الفخمة ومجمع التحرير ومترو الأنفاق تتواجد أحياء الصفيح وعربات الكارو. ففى صميم بنية أكثر المجتمعات تقدما مثل "الولايات المتحدة "وكندا وروسيا، سنجد رعاة الرنة من الأسكيمو،بجانب من يستعملون الروبوت والتحكم الآلى ،كما نجد الغجر فى أوروبا بجانب العاملين فى مراكز الفضاء ومحطات الطاقة النووية والصناعات الالكترونية ،وهؤلاء البدائيين قريبو الشبه فى أحوال المعيشة من العبابدة والبشارية وسكان الواحات فى مصر والعشائر الهندية الحمراء فى الولايات المتحدة ،كما أن المتقدمين يتشابهون اجتماعيا وثقافيا مع أمثالهم فى مصر ،وكما يؤمن بعض المصريون بالسحر سنجد من الأمريكيون والأوروبيون من يؤمنون بالسحر وبحيوية المادة،وإذا كان لدينا جماعات التكفير والهجرة فهناك من الطوائف الدينية المسيحية ما تحرم استخدام أيا من وسائل تكنولوجيا ما بعد الثورة الصناعية.وفى الهند صناعات متقدمة متطورة كالبرمجيات والأقمار الصناعية بجانب بقايا عشائر بدائية، وزراعة تقوم على وسائل مازالت تستخدم من آلاف السنين،وبجانب بقايا الرق وعبودية الأرض نجد علاقات إنتاج رأسمالية متطورة ،وبجانب الديمقراطية البرلمانية المتطورة نجد بقايا نظام الطبقات الهندية القديمة.ففى داخل كل مجتمع ،تعيش شرائح مختلفة على درجات متفاوتة من التقدم والتخلف ومستويات المعيشة وموقعها من علاقات الإنتاج ومصالحها المادية ومواقفها الفكرية وهكذا .و يرتبط بعضها بأرقى قوى الإنتاج ومن ثم بعلاقات إنتاج أكثر تطورا وبعضها يعيش وفق علاقات إنتاج أدنى.وتنقسم هذه الشرائح فر رؤاها السياسية والاجتماعية والثقافية .ولا يوجد من مبرر يوحدها سوى الدولة وعناصر من ثقافة مشتركة أساسها أحيانا مجرد اللغة الواحدة .
والمجتمعات لا تتطور فى نفس الوقت مرة واحدة على نحو متجانس .ففكرة المجتمع محلى كان أم قومى يتميز بتجانس ما محل شك كبير .أن التطور اللامتكافىء داخل كل مجتمع وبين كل المجتمعات هى سمة من سمات النمو الرأسمالى ،كما هو التفسخ الشامل والاستقطاب الحاد واطراد عدم التجانس المصاحبة للمجتمعات التى تسودها الرأسمالية وبرغم كل هذه الظاهرة فدائما ما تسيطر أنماط الإنتاج الأكثر تطورا على الأنماط الأقل تطورا ،كما تسيطر الثقافات الأكثر تطورا على الثقافات الأقل تطورا داخل المركب الاجتماعى الواحد ،أو هذا ما ينبغى له أن يكون، وأى حركة تقدمية فعلا عليها أن تنحاز لما هو أكثر تقدما فى هذا المركب إلا أن هذا ما لا نلاحظه لدى العقليات اللاتاريخية التى تدعى التقدمية.مع ملاحظة أن التاريخ البشرى لا يتحرك للأمام نحو التقدم إلا فى المحصلة النهائية للحركة،إلا أنه يعرف التراجع للخلف، ومن ثم فمعيار الانحياز لا يقاس بمعيار الجديد والقديم بقدر ما يقاس بالأكثر تقدما أو تخلفا.
النظرة اللاتاريخية للتاريخ تنظر إليه كصراع إرادات واعية بأكثر مما تنظر إليه كتعبير عن ضرورات اجتماعية، تخلق بنفسها الإرادات التى تعبر عنها.ومن ثم فتفسير اتفاق معظم النخب المثقفة على كونها ممثلة لهوية جماعية ما مع اختلافها على نوع الهوية فقط ،وما ينتج عن هذا الاختلاف من آثار جانبية تميز فحسب هذه النخب عن بعضها البعض.هو تبرير هذه النخب لدور الدولة الحديثة فى إحداث التقدم الاجتماعى ،تلك الدولة التى يشكلون دعامتها الأساسية فى إطار عملية التقدم،لكونهم النخب المتعلمة تعليما حديثا والمستقلة عن الطبقات الرئيسية فى المجتمع، ومن ثم وفى إطار بحثهم فحسب عن نوع الهوية التى تبرر سلطة الدولة يختلفون فى الاختيارات، ومن ثم يتصارعون صراعا نخبويا فى ظل مجتمع راكد سياسيا واجتماعيا على نحو كبير حيث تحتكر الدولة جل العمليات السياسية والاجتماعية منذ أن بدأت الدولة الحديثة مع "محمد على" اللهم إلا لحظات خاطفة فى التاريخ الحديث لم تسفر عن تبلور كاف للطبقات الاجتماعية ،ومن ثم للحركات السياسية التى تعبر عنها.
المصادر
(1) د. محمد عمارة "تجديد الفكر الإسلامى - محمد عبده ومدرسته" كتاب الهلال، العدد 630، ديسمبر 1980، صـ12.
(2) جمال عبد الناصر-شروق مبدأ الناصرية-مصدر سابق-ص96.
(3) د. عبد الحميد الغزالى: "مقدمة فى الاقتصاديات الكلية"-مصدر سابق صـ373.
(4) المصدر نفسه، صـ371.
(5) لجنة الدفاع عن الثقافة القومية- مقالات ووثائق-1979-1994.-ص65.
(6) المصدر نفسه-ص76.
(7) المصدر نفسه-ص39.
(8) المصدر نفسه-ص42.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية