الاثنين، 19 مايو 2008

7 ـ تطورات الرأسمالية

العمال ورأسالمال والدولة
سامح سعيد عبود
7 ـ تطورات الرأسمالية
مرت علاقة الإنتاج الرأسمالى بثلاث مراحل أساسية، كان الرأسمال في كل مرحلة منها يتخذ شكلا جديدا سائدا ومسيطرا على ما سبقه من أشكال، وكانت العلاقة بين الأطراف الثلاثة العمال والرأسماليين والدولة، تختلف من مرحلة لمرحلة أخرى، إلا أن الرأسمالية قد بدأت كعلاقة إنتاج قبل هذه المراحل الثلاث كمجرد طريقة فى التبادل والإقراض، و ذلك كرأسمال تجارى ومالى، و قد ظهرت العلاقة الرأسمالية فى الإنتاج فى العصور الوسطى والقديمة فى الإمبراطورية الرومانية و فى مصر الفاطمية مثلا،و لكن لم تصبح تلك العلاقة سائدة فى الإنتاج إلا فى انجلترا أولا ثم امتدت إلى غرب أوروبا ثانيا بدءا من منتصف القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية ثم العالم كله مع أوائل القرن العشرين، و هى المراحل التى تعنيننا فى هذا البحث.
***
يجب التمييز بين تراكم الرأسمال على أساس الرأسمالية كما سبق شرحه، و التراكم المسمى بالتراكم الأولى لرأسالمال، ان التراكم الأولي يخلق العامل الحر المجرد من الملكية في قطب, وفي قطب آخر الرأسمالي. وهذا يتم بانتزاع ملكية المنتجين الأفراد المستقلين، و يتم بأشد النزعات الى الهدم و التدمير بعدا عن الشفقة وبدافع من احط المشاعر و احقرها و اشدها تفاهة و حقدا. فالملكية الخاصة المكتسبة بعمل المالك الصغير (عمل الفلاح و الحرفي) و القائمة اذا جاز التعبير على اندماج المنتج الفردي المستقل مع ادوات و وسائل عمله تزيحها الملكية الخاصة الرأسمالية التي ترتكز على استثمار قوة عمل العامل، أما فى التراكم الرأسمالى فإن من يتم انتزاع ملكيته ليس هو المنتج الفردى الصغير، بل الرأسمالي الذي يستثمر العديد من العمال. ان انتزاع الملكية فى هذه الحالة يتم بفعل القوانين الملازمة للإنتاج الرأسمالي نفسه عن طريق تمركز رأسالمال. ان رأسماليا واحدا يقضي على الكثيرين من أمثاله. و الى جانب هذا التمركز اي انتزاع بعض الرأسماليين ملكية عدد كبير من امثالهم يتطور الشكل الجماعى فى عملية الإنتاج على مقياس يتسع اكثر فأكثر، كما يتطور تطبيق العلم على التكنيك تطبيقا فطنا و متعقلا، و استثمار الارض استثمارا منهجيا وتحويل وسائل العمل التى يمكن استخدامها فرديا الى وسائل للعمل لا يمكن استعمالها الا استعمالا مشتركا، و توفير جميع وسائل الانتاج باستعمالها كوسائل انتاج لعمل اجتماعي منسق، و دخول جميع الشعوب في شبكة السوق العالمية، و تتطور الى جانب كل ذلك الصفة العالمية للنظام الرأسمالي، و بقدر ما يتناقص باستمرار عدد كبار ملاك الرأسمال الذين يغتصبون و يحتكرون جميع منافع عملية التحول هذه، بقدر ما يشتد و يستشري البؤس و الظلم و الاستعباد و الانحطاط و الاستثمار و بقدر ما يزداد ايضا تمرد الطبقة العاملة التي تتثقف و تتحد و تنتظم بفعل آلية عملية الإنتاج الرأسمالي نفسها" [1].
***
المرحلة التى بدأت فى منتصف القرن الثامن عشر سادتها الرأسمالية التنافسية، حيث تنافس العشرات والمئات من المنتجين والتجار داخل الأسواق المحلية والقومية، وداخل السوق العالمى على إنتاج و توزيع نفس النوع من السلع، وقد توفرت فى تلك المرحلة الحرية فى انتقال السلع و رأسالمال والعمالة عبر الحدود القومية، وامتدت علاقات الإنتاج الرأسمالية من غرب أوروبا لتتسيد على كل كوكب الأرض،وكانت الطبقة العاملة تعيش على الحد الأدنى من ضرورات الحياة، و تعانى فى غالبيتها العظمى من البؤس، و عد م الاستقرار فى العمل، ومن عدم وجود أى ضمانات أو حقوق اجتماعية تحميها سواء أثناء العمل أو التقاعد، ومحرومة فى نفس الوقت من تشكيل نقابتها وأحزابها و من ممارسة الضغط على أصحاب العمل، و لم تتمكن من إجبارهم على قبول تحسين ظروف حياتهم وعملهم، فقد كانت محرومة أيضا من الحقوق السياسية المتمثلة فى حق الاقتراع العام والترشيح والانتخاب للمجالس النيابية، ولما كان العلم لم يكن قد تدخل بقوة فى هذه الفترة فى الإنتاج فقد كانت فى غالبيتها عمالة يدوية غير مؤهلة علميا.
***
مرحلة الرأسمالية الاحتكارية بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر، حيث تم تقسيم الأنصبة فى السوق المحلى و العالمى بين عدد أقل من المتنافسين العمالقة، نتيجة تمركز رأسمال المشار إليه سابقا، و اتخذت إجراءات التقييد أو حتى المنع الكامل للانتقال الحر لكل من السلع و رأسالمال والعمالة عبر الحدود القومية، وتميزت هذه الفترة عموما بتدخل الدولة فى الإنتاج والخدمات سواء على نحو كامل كما فى المجتمعات البيروقراطية أو نحو جزئى كما فى المجتمعات الرأسمالية، سواء أكان التدخل بالتأميم أو بالاستثمار الحكومى، و تضخمت البيروقراطية فى كل من الحكومة والقطاع الخاص، حجما ونفوذا ودخلا، كما تضخمت العمالة الحكومية فى كل من الحكومة والقطاع العام بما يتميز به وضعها من استقرار وحماية اجتماعية سواء أثناء العمل أو التقاعد، و قد أخذت الطبقة العاملة المستقرة تحقق ما هو أعلى قليلا من الحد الأدنى من ضروريات الحياة، أما المؤسسات الرأسمالية الاحتكارية فقد عرف عمالها الأوضاع الوظيفية المستقرة، والحماية الاجتماعية الشاملة سواء أثناء العمل أو التقاعد، و تم الاعتراف بحق الطبقة العاملة فى المساومة الجماعية مع الدولة وأصحاب العمل فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، واعترفت المجتمعات الرأسمالية بالنقابات والأحزاب العمالية، وحصلت الطبقة العاملة على حق الاقتراع العام والترشيح والانتخاب للمجالس النيابية مما سمح لممثليها بالوصول للبرلمانات وتم تشكيل الحكومات أحيانا من أحزاب إصلاحية حققت الكثير من الرفاهية للعمال فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وعرفت الطبقة العاملة أعداد متزايدة من المتعلمين والمؤهلين دراسيا مع دخول العلم المباشر والمتزايد فى الإنتاج.
***
المرحلة التى بدأت مع نهاية القرن العشرين هى الرأسمالية الكوكبية. و هى مرحلة تتميز بتفكيك مراحل الإنتاج للسلعة الواحدة عبر الحدود الوطنية فى ظل استمرار سيطرة نفس الشركات الرأسمالية العملاقة على الإنتاج والخدمات والتجارة والائتمان، وقد اضمحلت فى هذه المرحلة قيود الحماية الجمركية، و عادت الحرية فى انتقال كل من السلع و رأسالمال والعمالة عبر الحدود القومية، وتتميز المرحلة الجديدة بظهور معظم سمات المرحلة التنافسية القديمة فى العلاقة بين الأطراف الثلاث العمال والرأسماليين والدولة، بدءا من تخلى الدولة القومية عن تدخلها الكامل أو الجزئى فى الإنتاج والخدمات، وهو وضع أدى لتقلص حجم و نفوذ و دخل كل من البيروقراطية و العمال لدى الدولة ، و أخذت الطبقة العاملة تعرف مجددا البؤس والإفقار المتزايد وعدم استقرارها فى العمل، و عرفت مجددا انعدام أو تقلص الحماية الاجتماعية سواء أثناء العمل او التقاعد، كما ضعفت النقابات و الأحزاب العمالية تنظيميا وتقلصت عضويتهما ونفوذهما الاجتماعى والسياسى، وتلاشت إمكانيات تحقيق الإصلاحية فى المجتمع الرأسمالى، وتلاشت رفاهية الطبقة العاملة، بسبب ديكتاتورية كل من الرأسمالية الكوكبية المتعدية الجنسية و المؤسسات الدولية الفوق قومية العملاقة على الدول القومية المختلفة، و ازدادت أهمية الطبقة العاملة الذهنية بالنسبة للعمالة اليدوية مع الثورة العلمية الجديدة، والتى كان لها تأثيرها فى التقلص الحاد فى حجم العمالة الصناعية.
***
منذ نهاية القرن العشرين والكوكب كله تجتاحه موجة عارمة من خصخصة القطاع العام، وخصخصة الخدمات التى كانت تؤديها الحكومات، و قد تخلت معظم الدول الآن عن دورها فى الإنتاج والخدمات، مما قلص بالضرورة من الجهاز البيروقراطى للدولة على نحو مطرد، وأضعف من مكانة البيروقراطية الحكومية، كما قلص فى نفس الوقت من حجم العاملين فى كل من الحكومة والقطاع العام، لصالح توسع حجم العمال غير الحكوميين. فالاتجاهات السياسية الليبرالية الحاكمة للأرض الآن، و التى تعبر عن مصالح الرأسمالية الكوكبية، تريد أن ترجع بالدولة الرأسمالية لما كانت عليه فى مرحلة الرأسمالية التنافسية، و ذلك بأن تقصر دورها على المهام السيادية فقط فى الأمن الداخلى والدفاع الخارجى والمالية و العدل و التمثيل الخارجى، تاركة الإنتاج والخدمات كاملة للرأسمالية.
***
فى ظل المرحلتين التنافسية و الاحتكارية من الرأسمالية، واجهت الطبقة العاملة صاحب عمل واضح المعالم سواء أكان الدولة أو المشروع الرأسمالى المحصور والمتوطن فى حدود الدولة القومية، و لكن مع تطورات الرأسمالية الكوكبية، اصبح إنتاج أى سلعة يتم فعليا عبر العديد من الدول القومية بعد تقسيم مراحل إنتاج السلعة الواحدة عبر هذه الدول، والمشروع الرأسمالى المتعدى الجنسية الواحد تزايدت فروعه عبر شتى بلاد الأرض، وتشابكت علاقاته الاقتصادية بمشاريع متعددة أخرى مبعثرة عبر الكوكب، سواء أكانت تابعه له،أو مشاركة له فى شركات مشتركة، ومن ثم فالضغط على صاحب العمل بشتى وسائل الضغط العمالية يستلزم توحيد الطبقة العاملة عبر هذه البلاد التى تتواجد فيها فروعه المختلفة، كما يستلزم كذلك توحيد الطبقة العاملة التى تعمل فى كل مراحل إنتاج السلعة الواحدة فى كل هذه المشاريع المتكاملة فيما بينها عبر كل البلاد التى تنتج عبرها هذه السلع، لزيادة فعالية المساومة الجماعية، و الضغط على أصحاب العمل لانتزاع تحسين شروط عملهم وحياتهم، إلا أن الرأسمالية حريصة على استمرار تفكك الطبقة العاملة بحصر نضالاتها الاقتصادية والسياسية داخل الحدود القومية، وكان هذا له انعكاسه على المزيد من إضعاف الطبقة العاملة فى مواجهتها لرأسالمال، و بعد أن كانت الطبقة العاملة مقيدة فى غالبيتها داخل حدود الدولة القومية مما كان يجعلها أشد قابلية للنضال الجماعى فى مواجهة البرجوازية المحلية و دولتها، فأنه من سمات المرحلة الكوكبية أيضا أنها أعطت العمال الإمكانية للهجرة عبر الحدود وراء فرص العمل و الحياة الافضل بدلا من النضال الجماعى.
***
مع السبعينات من القرن العشرين، بدأت مرحلة جديدة من مراحل التطور الرأسمالى ،فقد انتهى ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية، و الذى عرف التشغيل شبه الكامل للعمالة، ليبدأ عصر جديد من البطالة المتزايدة باطراد، و يشكل المتعطلون عن العمل جيوش متزايدة من غير المنتجين، و لكنها ترغب فى نفس الوقت فى الاستهلاك، ومستعدة للقبول حتى بوضع العبودية الكاملة لو كان له أن ينقذها مما هى فيه من ضياع و جوع، وهو ما يفسر ظاهرة عودة القنانة والعبودية الحديثة كما سبق وأشرنا،و أما عن العاملون بأجر فمستعدون للقبول بشروط أسوء للعمل، و بأجور أقل مما يحصلون عليه، للحفاظ على وضعهم المتميز نسبيا كعمال مشتغلين بالنسبة للمتعطلين عن العمل، الذين ينتظرون على أحر من الجمر أن يحلوا محلهم بأجور أقل وشروط عمل أسوء. و تضخم جيش العمل الاحتياطى المتكون من المتعطلين عن العمل، يضغط على العمال المشتغلين لقبول أسوء شروط العمل فى إطار المساومة الجماعية مع أصحاب العمل، فكلما تضخم هذا الجيش ضعف موقف العمال المشتغلين فى محاولتهم فرض شروطهم ومطالبهم على أصحاب العمل، وكلما تقلص حجم هذا الجيش خف ضغطه على العمال المشتغلين مما يمكنهم من فرض أفضل شروط العمل فى إطار المساومة الجماعية مع أصحاب العمل.
***
أصبح العالم يعرف منذ السبعينات أزمة من نوع جديد هى الركود التضخمى الممتدة حتى الآن، و هى أزمة تجمع بين سمات الركود والرواج معا، وهى ظاهرة غريبة لأن الأسباب المؤدية للركود تختلف عن الأسباب المؤدية للتضخم، فنحن نلاحظ أنه برغم الاتساع فى حجم البطالة و الكساد عالميا منذ السبعينات، إلا أننا نلاحظ أيضا ارتفاع حاد فى أسعار شتى السلع والخدمات فى نفس الوقت، وتفسير تلك الظاهرة الغريبة يكمن فيما تناولناه سابقا ، من ارتفاع نصيب الرأسمال المضارب والمالى والتجارى من القيمة المضافة فى نفس الوقت الذى يتقلص فيه نصيب الرأسمال الإنتاجى من القيمة المضافة.
***
الأزمة التى تغرق العالم منذ عقود هى أزمة كساد فى حقيقتها فهناك فيض من السلع والخدمات لا تجد من يشتريها، إلا أن التضخم المصاحب لها هو نتيجة زيادة معدلات المضاربة على السلع والأسهم والنقود التى ترفع و تخفض أسعار السلع والأسهم والنقود بأعلى كثيرا أو أقل كثيرا من قيمتها التبادلية، والمضاربة تزيد باطراد من نصيب رأسالمال التجارى والمالى بالنسبة للنصيب المتضائل الذى يحصل عليه الرأسمال الإنتاجي الصناعى والزراعى من الحجم الإجمالى لفائض القيمة، ومن الضرورة الإشارة إلى أنه لا يوجد رأسماليون مضاربون ورأسماليون منتجون كما قد يبدو من التقسيم السابق، فالرأسمالى المالى قد يكون صناعيا وتجاريا وعقاريا فى نفس الوقت بتعدد الأنشطة التى يمارسها، كما أن تعدد أنشطته لن يمنعه من المضاربة أحيانا، و بالتبعية فلا توجد رأسمالية منتجة وأخرى طفيلية كما يزعم البعض، فالرأسماليون متطفلون بحكم وضعهم الطبقى على الإنتاج، و لا يوجد أى مانع أمام الرأسمالى يحول دون ممارسة نشاطات متعددة بعضها ينتمى للإنتاج وبعضها ينتمى للتداول، و بعضها فى الخدمات والبعض الآخر ينتمى للمضاربة، طالما إن الدافع وراء نشاط أى رأسمالى هو الربح.
***
غالبية الرأسماليون فى الوقت الراهن لا يملكون سوى نقود وحسابات بنكية و أجهزة كومبيوتر واتصال دائم بشبكة الانترنت. وهم يشترون ويبيعون طول الوقت عبر بورصات الأرض المختلفة، أسهما وسندات ونقودا وسلعا مختلفة، و عبر عمليات المضاربة التى تتم بمجرد الضرب على لوحة مفاتيح الكومبيوتر، يربحون نقودا بلا جهد يذكر، كما يفلس بعضهم بالطبع، ويثرى بعضهم ثراءا فاحشا، بنفس البساطة التى يتنفسون بها، فبإمكان الواحد منهم أن يشترى لوحة فنية أو قطعة آثار مثلا بمبلغ مليون جنية ليضعها فى مخزنه، و ليبيعها هى نفسها بلا أدنى تغيير بعد فترة بخمسة ملايين جنية دون بذل أى جهد، ليشتريها آخر ليبيعها بعد فترة بعشرة ملايين جنيه وهكذا، هؤلاء المضاربون المنتشرون عبر الأرض تراهم يندفعون لشراء أسهم مشروع ما فى البورصة فترتفع قيمة أصول هذا المشروع فى السوق، وترتفع أسعار أسهمه و يحقق بما أتاه من أموال من جراء شراء أسهمه أرباحا وهمية وفقا لذلك، ثم يندفع هؤلاء المضاربون مجددا ليبيعون أسهم نفس المشروع فى السوق فتنخفض أسعارها، وتنخفض قيمة أصول المشروع فى السوق، و يحقق خسائر وهمية وفقا لذلك ، ومن هنا تصبح الخسائر والمكاسب مجرد أرقام تتحرك فى دفاتر الموازنات من بنود الأرباح لبنود الخسائر وبالعكس، وقد يؤدى هذا لإفلاس المشروع، و يتم تشريد العاملين فيه لمجرد ألعاب المضاربون التى تتم فى البورصة، وفى حين ترتفع أسعار الأسهم وأرباح المؤسسات بنسب تبلغ عشرة فى المئة وأكثر، تنخفض أجور العاملين وفى نفس الوقت تتفاقم البطالة.
***
ماذا يفعل هؤلاء الرأسماليين المضاربين بما كسبوه من نقود لا تعبر عن إنتاج قيمة مضافة حقيقية تم إنتاجها، أنهم يربحون نقودا من الهواء لينفقوها مجددا على شراء ما ينتجه الاقتصاد الحقيقى، فيرفعون أسعار ما ينتجه من سلع وخدمات، دون أدنى تفكير فى استثمار ما ربحوه فى توسيع رأسالمال الثابت أو توظيف رأسالمال الحى مما لا يحل قضية البطالة، فما الذى يدفع المضارب لينشأ مصنعا ويوظف عمالا، إذا كان يكسب بمجرد شراءه أو بيعه أسهم مشروع قائم بالفعل، وهكذا لم يعد الاقتصاد الحقيقى للسلع والخدمات والاقتصاد الرمزى للمال والائتمان مرتبطا أحدهما بالآخر ارتباطا عضويا بوصف الاقتصاد الرمزى تعبيرا بالضرورة عن الاقتصاد الحقيقى. وإنما اصبحت حركة رأسالمال وأسعار الفائدة و أسعار الصرف منذ النصف الأول من السبعينات بعيدة عن حركة التجارة الدولية[2].
***
بصرف النظر عن ما يحدث فعليا فى الاقتصاد الحقيقى من ركود، فالمضاربة تزيد من حجم النقود المتداولة إذن فى أيدي هؤلاء الرأسماليين ، وهو ما يدفعهم لإنفاقها فى السوق لطلب المزيد من الأسهم والسندات والنقود والسلع المختلفة، أو يدفعهم لإنفاقها على الاستهلاك الترفى والكمالى، أو يدفعونها لأيدى أخرى تحقق لهم بعض الخدمات، فيوسعوا بذلك من حجم الطلب، مما يرفع من أسعار السلع والخدمات و هو ما يعرف بالتضخم.و المضاربة كما يشارك فيها كبار حائزي النقود، يشارك فيها أيضا صغار ومتوسطي الحائزين، سواء عبر البيع والشراء مباشرة للأسهم والنقود والسلع والعقارات، أو بشكل غير مباشر بمدخراتهم فى البنوك وصناديق التأمينات والادخار، وبجانب الأفراد المضاربون بتفاوت أحجامهم ، فإن المضاربة عملية تنخرط فيها المؤسسات الرأسمالية الإنتاجية نفسها، وصناديق التقاعد والتأمينات ، والحكومات نفسها، وهذه العملية تسبب ظاهرة تسمى ديكتاتورية سوق المال العالمى التى تنحنى أمامها كل الحكومات القومية من أقواها إلى أضعفها[3].
***
أن سر أزمة و إخفاق بعض الحركات السياسية والاجتماعية فى العقود القليلة الماضية فى تحقيق أهدافها ناتج من أنها مازلت تركز نشاطها ضد أو مع الدولة القومية، فى حين أن مركز السلطة السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى تحرك فى العقود القليلة الماضية من يد كل من الدولة والرأسمالية المحلية فى كل بلد على حدى ليصبح مركزا عالميا ممثلا فى العديد من المؤسسات الدولية سواء الحكومية منها أو غير الحكومية، سواء الشركات المتعدية الجنسية أو رأسمال المالى، وهذا المركز يمارس استبداده على كل من الدولة القومية و رأسماليتها المحلية نفسها، بالإضافة إلى من تمارس عليهم السلطة من العمال وغيرهم بالتبعية، ومن ثم فأن المنطق يرى أننا يجب أن نبحث البشرية، كما هى فعلا الآن، لا كما أعتدنا أن نراها مجزأة إلى مجتمعات محلية، أى كوحدة واحدة برغم كل التباينات فيما بينها التى يجب الاعتراف بها ووضعها فى الحسبان عند دراسة كل مجتمع محلى على حدى.
***
يلاحظ أن بنية المجتمع الرأسمالى تتجه بقوة الآن فى ظل مرحلتها الكوكبية إلى تقسيم سكان الأرض إلى ثلاث أقسام، القسمين الأول و الثانى وهما ما يطلق عليهما معا مفكروا الرأسمالية المليار الذهبى، أما الثالث فهو الخمس مليارات التعيسة المطلوب إبادة معظمها حتى تستمر الرأسمالية فى الوجود، القسم الأول الرأسماليون بشرائحهم المختلفة، و سيشكلون أقلية ضئيلة جدا من السكان،[4] و القسم الثانى سوف يتشكل من كل الذين يحصلون على عوائد العمل (الأجور) وينتجون القيمة المضافة أى العمال المشتغلون، و سيشكلون أقلية كبيرة من السكان، وسيشكل جيش العمل الاحتياطى ( العمال غير المشتغلون) أغلبية ساحقة من السكان، و هذا سوف يفكك الطبقة العاملة ويمزقها بقوة و يضعف من قدرتها التفاوضية مع أصحاب العمل لأقصى حد، فالذهبية الموعودة إذن ستكون فقط صفة القسم الأول، فى حين سيتميز القسم الثانى عن القسم الثالث بأنه سيعيش فقط على الحد الأدنى من ضروريات الحياة، و لن يستطيع أن يناضل للحصول على ما يتجاوز حدود تلك الضروريات، فى حين قد يموت القسم الثالث جوعا أو مرضا أو قتلا، أو قد يعيش الأفضل حظا منهم على ما دون الحد الأدنى الضرورى للحياة الذى قد يحصلون عليه بطرق شتى أسوءها التسول و التشرد و ارتكاب الجرائم المختلفة، أو أفضلها ممارسة الأعمال الهامشية و التى لا تحتاج لمهارة ما، ولا علاقة لها بإنتاج القيمة المضافة كالباعة المتجولين و أعمال الخدمة والنظافة وغيرها. وهذه النسب تخص المجتمع البشرى ككل إلا أنها ستتفاوت من مجتمع لآخر حسب درجة تقدمه أو تخلفه. والرأسمالية وهى تجر البشرية وراءها نحو هذا المخطط تتسلح فى مواجهته بشتى أشكال المسكنات التى ستخمد بها أصوات هؤلاء البؤساء من انتشار صناعة التسلية إلى المخدرات وغيرها.
***
تقف البشرية الآن عند نقطة تحول تاريخية مهمة.فلأول مرة منذ أزمة الكساد الكبير يرتفع حجم البطالة فى العالم،ليصل إلى حوالى مليار فرد فى حالة بطالة كاملة أو جزئية،وهو ما يعادل حوالى 30% من قوة العمل أجمع.وهؤلاء يتوزعون بنسب متباينة على مختلف أنحاء المعمورة،فى البلدان الصناعية،وفى الدول التى كانت بيروقراطية،وفى البلاد النامية،بحيث يمكن القول،إن البطالة الآن أصبحت أزمة عالمية،..و لا يقف الأمر عند هذا الحد،حيث ان الرقم يميل للتزايد بشكل حاد عبر الزمن،ومن المتوقع له أن يتجه للتزايد فى المستقبل والمفارقة المدهشة فى هذا الخصوص،باتت البطالة المعاصرة تحدث وتتزايد على الرغم من ارتفاع معدلات النمو الاقتصادى[5].
***
كل الرأسماليين باعتبارهم رأسماليين،بصرف النظر عن تنوعاتهم الفردية السلوكية والأخلاقية والفكرية،لديهم دافع قسرى للبحث عن الربح، وهو ما له علاقة بالتراكم سواء الأولى أو الرأسمالى كما سبق شرحهما، وهذا الدافع يفسر كل تاريخ البشرية فى القرون الخمسة الماضية،فالتجار والمصرفيين الذين سيطروا على طرق التجارة العالمية، تراكم لديهم ما نهبوه من التداول مع المستعمرات، مولو الحرفيين المستقلين ليصبح بعضهم رأسماليا، والآخريين عمال بعد أن تم افقارهم، فبعد أن قضى الرأسماليين على القنانة والإقطاعيين فى بلادهم، امتدوا للخارج من أجل الأسواق الخارجية بعد أن تشبعت أسواقهم القومية، ليقضوا على القنانة والإقطاع فى تلك البلاد، وليسيدوا فيها العلاقات الرأسمالية، وقد تنافسوا على الأسواق عبر العالم وأشعلوا الحروب من أجل السيطرة عليها أولا، إلا أن الحروب نفسها كانت الوسيلة المثلى لهم للتخلص من فيض الإنتاج والسكان،وإعادة بناء ما دمرته الحروب فى فترات السلام فرصتهم لمزيد من التوسع فى الاستثمار ثانيا، وبعد أن أصبح العالم رأسماليا بأكمله تخلوا عن السيطرة العسكرية والحروب، ليتوحدوا فى شبكة معقدة من العلاقات، فى مواجهة الطبقة العاملة العالمية التى يتم نهبها واستغلالها عبر الأرض.
[1] كارل ماركس راس المال", المجلد الاول
[2] ـ د.فؤاد مرسى الرأسمالية تجدد نفسها ، سلسلة عالم المعرفة، العدد 147 ، الكويت،1990.

[3] ـ هانس بيتر مارتين و آخر، ترجمة د.عدنان عباس على،مراجعة وتقديم أ.د.رمزى زكى، فخ العولمة الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية ،سلسلة عالم المعرفة،العدد 238الكويت، .1998.

[4] ـ هانس بيتر مارتين و آخر، ترجمة د.عدنان عباس على،مراجعة وتقديم أ.د.رمزى زكى، فخ العولمة الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية ،سلسلة عالم المعرفة،العدد 238الكويت، .1998.

[5] ـ د.رمزى زكى الاقتصاد السياسى للبطالة تحليل لأخطر مشكلات الرأسمالية العالمية المعاصرة، سلسلة عالم المعرفة ، العدد 226 الكويت،1997.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية