فليكن يوم 9 إبريل 2004عيدا وشرارة للحرية
فليكن يوم 9 إبريل 2004عيدا وشرارة للحرية
سامح سعيد عبود
كان يوم 9 إبريل 2003 يوما من أسعد أيام كل المقهورين و المستغَلين فى العراق ، و من ثم فهو من أسعد أيام حياتى شخصيا ، فلهؤلاء و لأمثالهم فى كل مكان أنحاز لا لغيرهم ، و من ثم لا تعنينى تلك المطلقات المجردة التى يطلقون عليها الهوية الجماعية أو الوطن ، فهؤلاء المقهورين و المستغَلين تحديدا ، وحيثما كانوا و أيما كانت قومياتهم أو أديانهم هم الوطن والهوية الجماعية التى إليها انتمى ، حريتهم وكرامتهم هى حرية وكرامة هذا الوطن ، وعبوديتهم وإذلالهم هى عبودية و إذلال ذاك الوطن ، فلا مبرر عقلانى للانتماء للتراب والوديان و الجبال التى تتشابه بدون هؤلاء مع تراب و وديان وجبال المريخ و القمر ، فالانتماء وفق قيم الحداثة والتقدم والتحرر والإنسانية لا يكون للقبيلة والعشيرة والقومية والطائفة والملة والعنصر واللون والثقافة واللغة والجنس ، بل يكون الانتماء للبشر من حيث كونهم بشر ، والانحياز لبعضهم ضد بعضهم، يتحدد من حيث موقعهم فى الصراع الاجتماعى القائم بينهم ، فإذا كنت يساريا فأنت تنتمى للطرف المنتهكة حقوقه الإنسانية فى الصراع الاجتماعى من أجل حصوله عليها ، أما إن كنت يمينيا فأنت منتمى للطرف المعتدى على الحقوق الإنسانية فى الصراع الاجتماعى ، وهذا هو التعبير الأدق لمفهوم اليسار واليمين فى السياسة .
وبمثل هذا المنطق نستنتج أن هؤلاء المقهورين و المستغَلين فى العراق قد عانوا من استعمار البعث السابق ذلا وقهرا وحرمانا بأكثر مما عانوا من الاستعمار العثمانى و الاستعمار الإنجليزي الأسبقين ، و بأكثر مما سيعانون من الاستعمار الأنجلو /أمريكى الحالى ومن ثم فالانحياز يكون لتحريرهم من كل أشكال الاستغلال والقهر فلا فرق بينهما سواء أكان مصدرهما محليا أم أجنبيا، أما منطق الشاعر الذى قال " بلادى وإن جارت على عزيزة و أهلى وإن ضنوا على كرام" ، فهو منطق متخلف و عنصرى يرسخ لاستبداد وقهر ذوى القربى الأقوياء على ضعفاءهم .
قد سقط فى هذا اليوم من على كاهل المستغَلين والمقهورين فى العراق أسوء النظم العربية الفاشية ، بل هو الأكثر فجاجة فى توحشه وتخلفه وإجرامه وقهره من كل النظم الفاشية فى العالم ، صحيح أنه قد شابت تلك السعادة وعكر صفوها أن هذا السقوط قد تم بواسطة عدو آخر لهؤلاء المستغَلين والمقهورين لا بيدهم ، لكنى اعتقد أنهم قادرين على إزاحته بعد قليل من الوقت بأكثر مما كانوا قادرين على إزاحة النظام البائد ، عندما يستعيدون عافيتهم وحيويتهم التى سلبها حتى الرمق الأخير ذلك النظام البائد خلال ما يقرب من أربعين عاما ، خصوصا أن الاستعمار الأنجلو /أمريكى لن يمارس نفس المستوى من القهر والإذلال والحرمان الذى بلغه النظام البائد لأسباب لها علاقة بتوازنات القوى الدولية و الإقليمية و المحلية ، و لأسباب لها علاقة بعقلانية أهداف وممارسة ومصالح هذا الاستعمار لا غير ، فالرأسمالية الأمريكية تحديدا هى أبعد ما يكون تاريخيا عن الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته وهى الأكثر انتهاكا لها عبر تاريخها .
و لا أخفى عليكم فقد كنت قبل و أثناء العدوان الأنجلو /أمريكى على العراق قلقا للغاية من خطرين محتملين على الشعب العراقى ، وعلى شعوب المنطقة الممتدة جنوب وبحر المتوسط ، ربما كانا ماثلين أمامى بقوة بسبب التأثر الطبيعى بآلة الدعاية والإعلام العربية الجبارة التى كانت منحازة انحيازا غبيا لصف النظام الحاكم فى بغداد باعتباره هو نفسه الشعب العراقى برغم الفارق الجلى بين الوحش والفريسة .
أولهما أن ينتهى الغزو الاستعمارى بما هو متوقع من احتلال العراق بعد تدمير مروع للعراق شعبا و ثروات بشرية وطبيعية مما قد يطيل من أمد الاحتلال ، وهو احتمال لم يتحقق بما كان يتخيله المرء قبل الحرب ، فقد تم الاحتلال سريعا بقليل من الدمار والخسائر لا يقارن بدمار وخسائر أى حروب سابقة ، فلم تسوى مدن بالأرض كما سويت درسدن ، و لا حوصرت مدن كما حوصرت لينينجراد ،ولا أبيد سكان مدن بكاملها كما أبيد سكان هيروشيما ، وليس ذلك بسبب إنسانية الغزاة بالطبع ، بل بسبب انعدام المقاومة الشعبية للغزو ، وضعف مقاومة جيوش النظام للغزو ، وحياد غالبية العراقيين فى الصراع القائم بين النظام والغزو ، مما سوف يعطى الفرصة للعراقيين لاستعادة قواهم سريعا لمواجهة الغزو وتداعياته.
وثانيهما أن تطول الحرب بسبب صمود القوى الحاكمة فى العراق أمام الغزو ، فتتحول تلك العصابة الإجرامية لرمز للمقاومة فى العراق، وفى المنطقة الممتدة جنوب وبحر المتوسط ،مما يعنى استمرار سيادة بل وتصاعد نفوذ القوى الفاشية و الشعبوية ، وطنية كانت أم قومية أم دينية ، و التى تنتمى لها تلك العصابة الإجرامية ، التى سببت سواء أكانت فى الحكم أم فى المعارضة ذلك التدهور الشامل و المتسارع الخطى خلال معظم سنوات القرن الماضي فى المنطقة الممتدة جنوب وبحر المتوسط ، وهو احتمال لم يتحقق بدوره ، "فقطع العادة فال" كما يقول المثل المصرى الدارج ، فقد عودتنا هذه القوى التى حكمتنا طوال هذه الفترة ، بدأ من نكبة 1948، و انتهاء بوكسة 2003، و مرورا بنكسة 1967،وخيبة 1991، على العنجهية الفارغة ، و على حروب الميكروفونات ، و الكلمات النارية التى ما قتلت يوما ذبابة ، فقد أثبتوا المرة تلو المرة قدرتهم الفائقة على خداعنا و قمعنا وقهرنا ، وحلب ثراوتنا وتبديدها حتى الدم ، وسحقنا حتى العظم ، كما أثبتوا المرة تلو المرة ضعفهم المخجل وفشلهم الذريع أمام أى قوى أجنبية وغزو خارجى ، ومن ثم فالهزيمة السريعة التى لحقت بهذا النظام على هذا النحو تعطى القوى التحررية واليسارية ـ فعلا لا قولا ـ الفرصة لمواجهة تلك القوى الفاشية والشعبوية والمحافظة واستئصال شأفتها فى الحكم أو فى المعارضة ، مما يجعلنا قادرين على وقف التدهور والانطلاق قدما إلى الأمام .
تشكلت الحياة السياسية فى منطقة جنوب وشرق البحر المتوسط خلال القرنين الماضيين متفاعلة مع كل من الحكم العثمانى و الغزو الاستعمارى الأوروبى للمنطقة الذى بدأ أواخر القرن الثامن عشر بالحملة الفرنسية على مصر ،ومع الاستقلال الوطنى الذى بدأ فى النصف الأول من القرن العشرين ، تشكلت أنظمة حكم محافظة تعبر عن مصالح الطبقات المالكة المحلية المرتبطة بمصالح الرأسمالية العالمية ، وقد تميزت تلك الأنظمة بوطنية معتدلة وليبرالية محافظة وحكم مدنى ، فى البلدان الأكثر تطورا كمصر والعراق ولبنان والمغرب ، أو تميزت بملكيات مطلقة محافظة ذات طابع دينى عشائرى تقليدى فى البلدان الأقل تطور كالسعودية واليمن وليبيا .
وقد نشأت فى مواجهة تلك الأنظمة العديد من حركات المعارضة مع ثلاثينات القرن العشرين ، لتعبر عن طموحات شرائح المتعلمين تعليما حديثا فى إنجاز الدولة القوية التى تحقق التقدم والقوة والاستقلال فى العالم ،مستلهمين ما يناسب هذا الطموح من أيديولوجيات متنوعة ، والتى تنوعت وتناقضت مرجعياتها .
فانطلاقا من منطق إعادة التاريخ للوراء من أجل استرجاع المجد الإسلامي الزائل ظهرت حركة الأخوان المسلمين و ما خرج من عباءتها من جماعات إسلامية أخرى ، ومن منطق إعادة إنتاج التجارب الفاشية فى أوربا عربيا نشأت أحزاب قومية متطرفة ، كالحزب القومى السورى، وحزب الكتائب اللبنانى، وحزب البعث وفروعه ، وحزب مصر الفتاة ، و استلهاما لتجارب الماركسية القومية الإصلاحية نشأت المنظمات الستالينية والماوية التى عرفتها الساحة السياسية العربية ،والتى أفرغت الماركسية من مضمونها الطبقى والإنسانى والعلمى والتحررى ، لتصبح على يديها مسخا شعبويا لا يستنكف أن يتذيل الفاشيين، ويتحالف معهم ، ويشاركهم جرائمهم تحت حجة التحرر الوطنى .
و انقسمت المنطقة منذ الخمسينات فصاعدا لأنظمة سميت بالتقدمية والثورية سيطرت عليها تلك الحركات التى صعدت للحكم بانقلابات عسكرية ، رسخت سيادة المؤسسة العسكرية ، وعسكرت الحياة بدرجات متفاوتة فى تلك البلدان ، وبقيت بعض أنظمة أخرى سميت بالرجعية تحت سيطرة المحافظين والتقليدين من المدنيين ، وانتهت التجربة مع بدايات القرن الواحد والعشرين ليثبت لنا فشل الجميع على تحقيق أحلام التقدم والتحديث والتحرر فى كل بلدان المنطقة ، التى تحولت إلى المنطقة الأكثر تخلفا فى العالم بعد إفريقيا جنوب الصحراء ، و المنطقة الأقل إنتاجا ومشاركة فى الاقتصاد العالمى يرغم البترول ، إذ يبلغ الإنتاج الإجمالى لكل البلاد العربية ما تنتجه دولة متوسطة التقدم ومحدودة السكان كأسبانيا ى الأبعد عن الجداثة الاجتماعية ، ك البلدان ، أما عن أنظمتها السياسية فهى الأقل التزاما بحقوق الإنسان وحرياته، و هى الأقل ديمقراطية حيث تجد فيها الملكيات المطلقة والجمهوريات الوراثية والعشائرية ، ومجتمعاتها هى الأبعد عن الحداثة الاجتماعية حيث تنتشر العلاقات الاجتماعية المتخلفة فى العمل والأسرة والتعليم ، و حيث يسود شتى مناحى الحياة وعى اجتماعى متخلف ينتمى فى غالبه لما قبل الرأسمالية،وحيث تنتشر الأمية والضحالة الفكرية والثقافية ، فالنخب المثقفة والمتعلمة لدينا تسيطر عليها غالبا العقلية الخرافية والتفاهة والثقافة البدوية التى تتوشح اسم الفكر .
ويلاحظ أنه برغم كل صراعات وتناقضات هذه القوى فيما بينها ، والتى حكمت أهم البلاد العربية على مدى نصف قرن ، أنها تتميز بالتطرف القومي أو الوطني أو الديني أو الطائفي الذى يصل أحيانا لحد الشوفينية والعنصرية ، و بالتخلى عن المبادئ الديمقراطية و الليبرالية واحتقارها مرسخة لمفاهيم الاستبداد والديكتاتورية سواء أكانت ديكتاتورية الخليفة أو أمير المؤمنين أو ولاية الفقية عند تيار الإسلام السياسى أو ديكتاتورية اللجنة المركزية للحزب وسكرتير عام الحزب لدى الستالينين والماويين ، وصولا لعبادة الزعيم الأوحد لدى القوميين ، وحكم العشيرة والأسرة المالكة لدى التقليدين والمحافظين ، و هم رغم اختلافاتهم الظاهرية فيما بينهم ، فأنهم مع تقديس الدولة والسلطة العامة وتقويتهما فى مواجهة حريات الفرد وحقوقه ، وفى مواجهة حرية واستقلال المجتمع المدنى بدرجات متفاوتة من التقييد و الاحتواء إلى حد الإلغاء ، وهم رغم خطاباتهم السياسية المتناقضة فهم مع طمس و تشويه الصراع الاجتماعى بالنزعة الشعبوية العامة التى تدمج الطبقات الاجتماعية فى كل واحد متجانس يسمونه الشعب أو الوطن أو الطائفة أو الدين أو العشيرة ، و التى تعنى الاستناد على هوية جماعية ما دينية كانت أو قومية أو ثقافية ،ككيان مصمت متجانس يخلوا من الصراع الاجتماعى ، وإن كان فى حالة الماركسيين وبعض القوميين باعتبارهم الأكثر إرتباطا بالحداثة لفظيا ، فأنه يتم الاعتراف بوجود الصراع الاجتماعى والطبقى نظريا بالطبع ، وطمسه عمليا بإعلاء ما هو قومى و وطنى على ما هو طبقى فى الصراع الاجتماعى .
و إذا كان البعض يضع الستالينين والماويين فى خانة اليسار تقليديا فإن تحليلا أدق لخطابهم السياسى وممارستهم العملية تضعهم فى خانة قوى اليمين الفاشية والشعبوية شأنهم شأن قوى الإسلام السياسي والقوميين العرب ، فقد تعلمنا أنه لا يهم ماذا يقول الناس عن أنفسهم و لا يهم ما يدعونه أو يتصورونه عن أنفسهم ،فالمهم ما يمارسونه فعليا فى الواقع .
ومع النصف الثانى للقرن العشرين سيطرت تلك القوى السياسية المسماة بالثورية والتقدمية والجذرية على الحكم وعلى الحياة السياسية فى معظم الدول العربية بتشكيلات مختلفة ، من التحالفات والصراعات بين فرقها المختلفة ، فقد يغلب أن تتسيد القومية الساحة السياسية فى لحظة ما كالستينات، وقد تتسيد الإسلامية الساحة السياسية فى لحظة ما كالتسعينات ،وقد يتصارع الستالينين والقوميين صراعا دمويا كما حدث فى العراق ، أو يتحالفون معا كما فى سوريا ، وقد يتصارع الإسلاميون مع القوميين صراعا دمويا كما حدث فى سوريا ، و قد ينفرد القوميون بالحكم كما فى العراق ، و قد يتحالف المحافظون التقليديون مع الإسلاميين كما فى السعودية ، أو يتصارعون فيما بينهم كما فى إيران .
فى ظل هذه الأوضاع المذرية فى المنطقة ، فإن نشأة حركة سياسية واجتماعية جديدة فى أصبح أمرا ضروريا وملحا لمواجهة التخلف والاستبداد والتهميش ، و أعتقد أنه من الأفضل أن تقوم مثل هذه الحركة على أساس من الاتفاق على إطارا مطلبى حقوقى عملي بعيدا عن النظريات السياسية و الأنساق الأيديولوجية المتكاملة ، والأهداف الاستراتيجية الكبرى ، مما يتيح لكل من يتفق مع هذا الإطار الحقوقى العملى أن يكون جزءا من تلك الحركة ، ويمكن تحديد هذا الإطار الحقوقى العملى فى مجموعة من الأهداف تتلخص فى
1 ـ تحقيق الحد الأقصى الممكن لكل الحقوق والحريات الإنسانية السياسية والمدنية والاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية كاملة غير منقوصة لكل فرد فى المجتمع ، وذلك فى ضوء أن لحقوق الإنسان ، شقين متكاملين أحدهما سياسى ومدنى والثانى اجتماعى واقتصادى وثقافى ، ومن ثم لا يصلح تحقيق أحدهما بدون الآخر ، فضلا على أن هذه الحقوق وكما وردت بالمواثيق الدولية ليست نصوصا مقدسة ، ومن ثم فيجوز تجاوزها فى اتجاه واحد هو بالمزيد من الحقوق والحريات، وليس فى الاتجاه المعاكس بالانتقاص منها وتقييدها بالطبع تحت أى حجة باسم الخصوصية والهوية ، وحيث أن صياغة هذه الحقوق عامة ومجردة ، فأنها تحتاج لتفصيل عملى يحقق جوهرها واقعيا فى سبيل تحررية كل العلاقات الإنسانية والاجتماعية فى المجتمع .
2 ـ أن تكون السلطات الاجتماعية منفصلة ومستقلة تماما عن كل من الدين والطائفة والقومية والعنصر والثقافة واللون والجنس والعرق والنوع واللغة والأصل الاجتماعى . و أن تنظم السلطات الاجتماعية على مبدأ السلطة الشعبية التى يشارك فيها كل المواطنين البالغين العاقلين على قدم المساواة ،وبما أن الهدف العام للحركة هو مقرطة جذرية لكل العلاقات الاجتماعية والإنسانية ، فأن الديمقراطية المنشودة يجب أن تتضمن كل أشكال الديمقراطية من مباشرة وغير مباشرة وتمثيلية فضلا عن تطبيق واسع لللامركزية الإدارية و الاتحادية ، وتقوية المجتمع المدنى وتحريره واستقلاله فى مواجهة السلطات التشريعية والتنفيذية . و ترسيخ المبادىء الديمقراطية والتعاونية فى كل مؤسسات الإنتاج والخدمات ،وتحررية العلاقات الأسرية ، ومقرطة التعليم والثقافة والإعلام والبحث العلمى .
عمليا يمكن أن تبدأ الحركة المنشودة بشرارة ما ، فمعظم النار من مستصغر الشرر فثورة 1919 فى مصر بدأت بزيارة لسعد زغلول ورفاقه لدار المعتمد البريطانى مطالبين إياه بالسماح لهم بالسفر لباريس لحضور مؤتمر الصلح ، وبدأت حركة العصيان المدنى فى الهند بالإضراب عن شراء الملح من الحكومة الإنجليزية ، وما أقصده هو ضرورة اتخاذ إجراء عملى يمارسه من يقبلون بهذا الإطار الحقوقى المطلبى ،وهو ما قد يفجر حركة الكتل الخاملة والسلبية وغير المؤدلجة إذا ما استجابت لهذا الإجراء، و وجدت فى هذه المطالب تعبيرا عن مصالحها المباشرة وغير المباشرة ، ومن هذا الإجراء يمكن أن تكبر الحركة ككرة الثلج بسلاسل من التفاعلات المتتابعة ، والأفعال و ردود الأفعال بين الجماهير والسلطات .
وفى ذهنى مجموعة من الاقتراحات العملية ربما تكون صالحة أو غير صالحة فهى مجرد مقترحات تحتاج لمناقشة و دراسة وإعداد ، وهى مجرد مادة خام تحتاج للمعالجة ، ولمن يتبناها للتنفيذ .
أن نحدد يوم 9 إبريل 2004 يوم البدء لممارسة هذا الإجراء ، وذلك باعتبار هذا اليوم ، هو عيد سقوط أسوء الأنظمة الفاشية فى المنطقة ، ويوم آخر الهزائم التى لحقت بالقوى الفاشية والشعبوية والمحافظة فى المنطقة. فضلا على أنه سيكون أمام من يتبنى هذا الاقتراح أكثر من عشر أشهر للإعداد لهذا الأجراء ، وهى فترة كافية نسبيا .
أول هذه الاقتراحات أن يتم تنظيم محاكمة شعبية لكل الأنظمة والحركات الفاشية والشعبوية والمحافظة التى حكمت هذه المنطقة خلال القرن الماضى تعقد أول جلساتها يوم 9 إبريل 2004 ،ويكون قضاتها من الشخصيات العامة المستقلة ذات الوزن الكبير فى المنطقة والتى لم تتولى من قبل أى مناصب رسمية فى تلك الأنظمة .
ثانى هذه الاقتراحات أن يتم تنظيم احتفالات ومؤتمرات وندوات جماهيرية فى بلدان جنوب وشرق البحر المتوسط فى يوم 9 إيريل القادم بهذه المناسبة ، تعلن رفضها وإدانتها لكل الأنظمة والحركات الفاشية والشعبوية والمحافظة التى حكمت هذه المنطقة خلال القرن الماضى .
ثالث هذه الاقتراحات أن يتم تنظيم مؤتمر شعبى يضم ممثلين عن القوى السياسية والاجتماعية والثقافية التى تتبنى الإطار الحقوقى سالف الذكر فى المنطقة ، من ممثلى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية ومؤسسات المجتمع المدنى واللجان الشعبية والشخصيات العامة بهدف تحويل هذا الإطار لبرنامج مطلبى أكثر تفصيلا ،يعقد أول جلساته فى هذا اليوم .
رابع هذه الاقتراحات وهو الأكثر طموحا وجموحا ،أن يتم بدءا من هذا اليوم تنظيم عصيان مدنى شامل بالامتناع عن الذهاب للعمل ومعاهد التعليم و الامتناع عن الخروج للشوارع والبقاء فى المنازل ، لحين قبول الأنظمة الحاكمة بتسليم كل السلطات فى كل بلدان المنطقة لمجالس شعبية منتخبة انتخابا حرا مباشرا على كل المستويات على أساس الإطار الحقوقى سالف الذكر .
أى اقتراح من هذه الاقتراحات يحتاج لتنفيذه أفراد يدعون إليه بشتى السبل والوسائل المتاحة من انترنيت وصحافة وخطابة وخلافه ، وينظمون أنفسهم فى مجموعات محلية لأعمال الدعاية لهذ الاجراء و تنظيم الجماهير حوله ، وهيئة للتنسيق بين هذه المجموعات ، وفى هذا الخصوص أرشح نشرة الحوار المتمدين للقيام بهذا الدور لو قبل القائمين عليها ،باعتبارها الأداة الأقوى حاليا للحوار و الإعلام للقوى اليسارية الديمقراطية فى المنطقة ، وهى الأنسب لمناقشة هذه الاقتراحات وتطويرها ومتابعة تنفيذها.
أعتقد أننا تحدثنا وتكلمنا وكتبنا كثيرا إلا أن ما يمكن أن يحرك الماء الراكد ،هو فعل مادى ، أعتقد أن الهزيمة الأخيرة التى لحقت بالفاشية العربية هى الوقت المناسب لهذا الفعل
كان يوم 9 إبريل 2003 يوما من أسعد أيام كل المقهورين و المستغَلين فى العراق ، و من ثم فهو من أسعد أيام حياتى شخصيا ، فلهؤلاء و لأمثالهم فى كل مكان أنحاز لا لغيرهم ، و من ثم لا تعنينى تلك المطلقات المجردة التى يطلقون عليها الهوية الجماعية أو الوطن ، فهؤلاء المقهورين و المستغَلين تحديدا ، وحيثما كانوا و أيما كانت قومياتهم أو أديانهم هم الوطن والهوية الجماعية التى إليها انتمى ، حريتهم وكرامتهم هى حرية وكرامة هذا الوطن ، وعبوديتهم وإذلالهم هى عبودية و إذلال ذاك الوطن ، فلا مبرر عقلانى للانتماء للتراب والوديان و الجبال التى تتشابه بدون هؤلاء مع تراب و وديان وجبال المريخ و القمر ، فالانتماء وفق قيم الحداثة والتقدم والتحرر والإنسانية لا يكون للقبيلة والعشيرة والقومية والطائفة والملة والعنصر واللون والثقافة واللغة والجنس ، بل يكون الانتماء للبشر من حيث كونهم بشر ، والانحياز لبعضهم ضد بعضهم، يتحدد من حيث موقعهم فى الصراع الاجتماعى القائم بينهم ، فإذا كنت يساريا فأنت تنتمى للطرف المنتهكة حقوقه الإنسانية فى الصراع الاجتماعى من أجل حصوله عليها ، أما إن كنت يمينيا فأنت منتمى للطرف المعتدى على الحقوق الإنسانية فى الصراع الاجتماعى ، وهذا هو التعبير الأدق لمفهوم اليسار واليمين فى السياسة .
وبمثل هذا المنطق نستنتج أن هؤلاء المقهورين و المستغَلين فى العراق قد عانوا من استعمار البعث السابق ذلا وقهرا وحرمانا بأكثر مما عانوا من الاستعمار العثمانى و الاستعمار الإنجليزي الأسبقين ، و بأكثر مما سيعانون من الاستعمار الأنجلو /أمريكى الحالى ومن ثم فالانحياز يكون لتحريرهم من كل أشكال الاستغلال والقهر فلا فرق بينهما سواء أكان مصدرهما محليا أم أجنبيا، أما منطق الشاعر الذى قال " بلادى وإن جارت على عزيزة و أهلى وإن ضنوا على كرام" ، فهو منطق متخلف و عنصرى يرسخ لاستبداد وقهر ذوى القربى الأقوياء على ضعفاءهم .
قد سقط فى هذا اليوم من على كاهل المستغَلين والمقهورين فى العراق أسوء النظم العربية الفاشية ، بل هو الأكثر فجاجة فى توحشه وتخلفه وإجرامه وقهره من كل النظم الفاشية فى العالم ، صحيح أنه قد شابت تلك السعادة وعكر صفوها أن هذا السقوط قد تم بواسطة عدو آخر لهؤلاء المستغَلين والمقهورين لا بيدهم ، لكنى اعتقد أنهم قادرين على إزاحته بعد قليل من الوقت بأكثر مما كانوا قادرين على إزاحة النظام البائد ، عندما يستعيدون عافيتهم وحيويتهم التى سلبها حتى الرمق الأخير ذلك النظام البائد خلال ما يقرب من أربعين عاما ، خصوصا أن الاستعمار الأنجلو /أمريكى لن يمارس نفس المستوى من القهر والإذلال والحرمان الذى بلغه النظام البائد لأسباب لها علاقة بتوازنات القوى الدولية و الإقليمية و المحلية ، و لأسباب لها علاقة بعقلانية أهداف وممارسة ومصالح هذا الاستعمار لا غير ، فالرأسمالية الأمريكية تحديدا هى أبعد ما يكون تاريخيا عن الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته وهى الأكثر انتهاكا لها عبر تاريخها .
و لا أخفى عليكم فقد كنت قبل و أثناء العدوان الأنجلو /أمريكى على العراق قلقا للغاية من خطرين محتملين على الشعب العراقى ، وعلى شعوب المنطقة الممتدة جنوب وبحر المتوسط ، ربما كانا ماثلين أمامى بقوة بسبب التأثر الطبيعى بآلة الدعاية والإعلام العربية الجبارة التى كانت منحازة انحيازا غبيا لصف النظام الحاكم فى بغداد باعتباره هو نفسه الشعب العراقى برغم الفارق الجلى بين الوحش والفريسة .
أولهما أن ينتهى الغزو الاستعمارى بما هو متوقع من احتلال العراق بعد تدمير مروع للعراق شعبا و ثروات بشرية وطبيعية مما قد يطيل من أمد الاحتلال ، وهو احتمال لم يتحقق بما كان يتخيله المرء قبل الحرب ، فقد تم الاحتلال سريعا بقليل من الدمار والخسائر لا يقارن بدمار وخسائر أى حروب سابقة ، فلم تسوى مدن بالأرض كما سويت درسدن ، و لا حوصرت مدن كما حوصرت لينينجراد ،ولا أبيد سكان مدن بكاملها كما أبيد سكان هيروشيما ، وليس ذلك بسبب إنسانية الغزاة بالطبع ، بل بسبب انعدام المقاومة الشعبية للغزو ، وضعف مقاومة جيوش النظام للغزو ، وحياد غالبية العراقيين فى الصراع القائم بين النظام والغزو ، مما سوف يعطى الفرصة للعراقيين لاستعادة قواهم سريعا لمواجهة الغزو وتداعياته.
وثانيهما أن تطول الحرب بسبب صمود القوى الحاكمة فى العراق أمام الغزو ، فتتحول تلك العصابة الإجرامية لرمز للمقاومة فى العراق، وفى المنطقة الممتدة جنوب وبحر المتوسط ،مما يعنى استمرار سيادة بل وتصاعد نفوذ القوى الفاشية و الشعبوية ، وطنية كانت أم قومية أم دينية ، و التى تنتمى لها تلك العصابة الإجرامية ، التى سببت سواء أكانت فى الحكم أم فى المعارضة ذلك التدهور الشامل و المتسارع الخطى خلال معظم سنوات القرن الماضي فى المنطقة الممتدة جنوب وبحر المتوسط ، وهو احتمال لم يتحقق بدوره ، "فقطع العادة فال" كما يقول المثل المصرى الدارج ، فقد عودتنا هذه القوى التى حكمتنا طوال هذه الفترة ، بدأ من نكبة 1948، و انتهاء بوكسة 2003، و مرورا بنكسة 1967،وخيبة 1991، على العنجهية الفارغة ، و على حروب الميكروفونات ، و الكلمات النارية التى ما قتلت يوما ذبابة ، فقد أثبتوا المرة تلو المرة قدرتهم الفائقة على خداعنا و قمعنا وقهرنا ، وحلب ثراوتنا وتبديدها حتى الدم ، وسحقنا حتى العظم ، كما أثبتوا المرة تلو المرة ضعفهم المخجل وفشلهم الذريع أمام أى قوى أجنبية وغزو خارجى ، ومن ثم فالهزيمة السريعة التى لحقت بهذا النظام على هذا النحو تعطى القوى التحررية واليسارية ـ فعلا لا قولا ـ الفرصة لمواجهة تلك القوى الفاشية والشعبوية والمحافظة واستئصال شأفتها فى الحكم أو فى المعارضة ، مما يجعلنا قادرين على وقف التدهور والانطلاق قدما إلى الأمام .
تشكلت الحياة السياسية فى منطقة جنوب وشرق البحر المتوسط خلال القرنين الماضيين متفاعلة مع كل من الحكم العثمانى و الغزو الاستعمارى الأوروبى للمنطقة الذى بدأ أواخر القرن الثامن عشر بالحملة الفرنسية على مصر ،ومع الاستقلال الوطنى الذى بدأ فى النصف الأول من القرن العشرين ، تشكلت أنظمة حكم محافظة تعبر عن مصالح الطبقات المالكة المحلية المرتبطة بمصالح الرأسمالية العالمية ، وقد تميزت تلك الأنظمة بوطنية معتدلة وليبرالية محافظة وحكم مدنى ، فى البلدان الأكثر تطورا كمصر والعراق ولبنان والمغرب ، أو تميزت بملكيات مطلقة محافظة ذات طابع دينى عشائرى تقليدى فى البلدان الأقل تطور كالسعودية واليمن وليبيا .
وقد نشأت فى مواجهة تلك الأنظمة العديد من حركات المعارضة مع ثلاثينات القرن العشرين ، لتعبر عن طموحات شرائح المتعلمين تعليما حديثا فى إنجاز الدولة القوية التى تحقق التقدم والقوة والاستقلال فى العالم ،مستلهمين ما يناسب هذا الطموح من أيديولوجيات متنوعة ، والتى تنوعت وتناقضت مرجعياتها .
فانطلاقا من منطق إعادة التاريخ للوراء من أجل استرجاع المجد الإسلامي الزائل ظهرت حركة الأخوان المسلمين و ما خرج من عباءتها من جماعات إسلامية أخرى ، ومن منطق إعادة إنتاج التجارب الفاشية فى أوربا عربيا نشأت أحزاب قومية متطرفة ، كالحزب القومى السورى، وحزب الكتائب اللبنانى، وحزب البعث وفروعه ، وحزب مصر الفتاة ، و استلهاما لتجارب الماركسية القومية الإصلاحية نشأت المنظمات الستالينية والماوية التى عرفتها الساحة السياسية العربية ،والتى أفرغت الماركسية من مضمونها الطبقى والإنسانى والعلمى والتحررى ، لتصبح على يديها مسخا شعبويا لا يستنكف أن يتذيل الفاشيين، ويتحالف معهم ، ويشاركهم جرائمهم تحت حجة التحرر الوطنى .
و انقسمت المنطقة منذ الخمسينات فصاعدا لأنظمة سميت بالتقدمية والثورية سيطرت عليها تلك الحركات التى صعدت للحكم بانقلابات عسكرية ، رسخت سيادة المؤسسة العسكرية ، وعسكرت الحياة بدرجات متفاوتة فى تلك البلدان ، وبقيت بعض أنظمة أخرى سميت بالرجعية تحت سيطرة المحافظين والتقليدين من المدنيين ، وانتهت التجربة مع بدايات القرن الواحد والعشرين ليثبت لنا فشل الجميع على تحقيق أحلام التقدم والتحديث والتحرر فى كل بلدان المنطقة ، التى تحولت إلى المنطقة الأكثر تخلفا فى العالم بعد إفريقيا جنوب الصحراء ، و المنطقة الأقل إنتاجا ومشاركة فى الاقتصاد العالمى يرغم البترول ، إذ يبلغ الإنتاج الإجمالى لكل البلاد العربية ما تنتجه دولة متوسطة التقدم ومحدودة السكان كأسبانيا ى الأبعد عن الجداثة الاجتماعية ، ك البلدان ، أما عن أنظمتها السياسية فهى الأقل التزاما بحقوق الإنسان وحرياته، و هى الأقل ديمقراطية حيث تجد فيها الملكيات المطلقة والجمهوريات الوراثية والعشائرية ، ومجتمعاتها هى الأبعد عن الحداثة الاجتماعية حيث تنتشر العلاقات الاجتماعية المتخلفة فى العمل والأسرة والتعليم ، و حيث يسود شتى مناحى الحياة وعى اجتماعى متخلف ينتمى فى غالبه لما قبل الرأسمالية،وحيث تنتشر الأمية والضحالة الفكرية والثقافية ، فالنخب المثقفة والمتعلمة لدينا تسيطر عليها غالبا العقلية الخرافية والتفاهة والثقافة البدوية التى تتوشح اسم الفكر .
ويلاحظ أنه برغم كل صراعات وتناقضات هذه القوى فيما بينها ، والتى حكمت أهم البلاد العربية على مدى نصف قرن ، أنها تتميز بالتطرف القومي أو الوطني أو الديني أو الطائفي الذى يصل أحيانا لحد الشوفينية والعنصرية ، و بالتخلى عن المبادئ الديمقراطية و الليبرالية واحتقارها مرسخة لمفاهيم الاستبداد والديكتاتورية سواء أكانت ديكتاتورية الخليفة أو أمير المؤمنين أو ولاية الفقية عند تيار الإسلام السياسى أو ديكتاتورية اللجنة المركزية للحزب وسكرتير عام الحزب لدى الستالينين والماويين ، وصولا لعبادة الزعيم الأوحد لدى القوميين ، وحكم العشيرة والأسرة المالكة لدى التقليدين والمحافظين ، و هم رغم اختلافاتهم الظاهرية فيما بينهم ، فأنهم مع تقديس الدولة والسلطة العامة وتقويتهما فى مواجهة حريات الفرد وحقوقه ، وفى مواجهة حرية واستقلال المجتمع المدنى بدرجات متفاوتة من التقييد و الاحتواء إلى حد الإلغاء ، وهم رغم خطاباتهم السياسية المتناقضة فهم مع طمس و تشويه الصراع الاجتماعى بالنزعة الشعبوية العامة التى تدمج الطبقات الاجتماعية فى كل واحد متجانس يسمونه الشعب أو الوطن أو الطائفة أو الدين أو العشيرة ، و التى تعنى الاستناد على هوية جماعية ما دينية كانت أو قومية أو ثقافية ،ككيان مصمت متجانس يخلوا من الصراع الاجتماعى ، وإن كان فى حالة الماركسيين وبعض القوميين باعتبارهم الأكثر إرتباطا بالحداثة لفظيا ، فأنه يتم الاعتراف بوجود الصراع الاجتماعى والطبقى نظريا بالطبع ، وطمسه عمليا بإعلاء ما هو قومى و وطنى على ما هو طبقى فى الصراع الاجتماعى .
و إذا كان البعض يضع الستالينين والماويين فى خانة اليسار تقليديا فإن تحليلا أدق لخطابهم السياسى وممارستهم العملية تضعهم فى خانة قوى اليمين الفاشية والشعبوية شأنهم شأن قوى الإسلام السياسي والقوميين العرب ، فقد تعلمنا أنه لا يهم ماذا يقول الناس عن أنفسهم و لا يهم ما يدعونه أو يتصورونه عن أنفسهم ،فالمهم ما يمارسونه فعليا فى الواقع .
ومع النصف الثانى للقرن العشرين سيطرت تلك القوى السياسية المسماة بالثورية والتقدمية والجذرية على الحكم وعلى الحياة السياسية فى معظم الدول العربية بتشكيلات مختلفة ، من التحالفات والصراعات بين فرقها المختلفة ، فقد يغلب أن تتسيد القومية الساحة السياسية فى لحظة ما كالستينات، وقد تتسيد الإسلامية الساحة السياسية فى لحظة ما كالتسعينات ،وقد يتصارع الستالينين والقوميين صراعا دمويا كما حدث فى العراق ، أو يتحالفون معا كما فى سوريا ، وقد يتصارع الإسلاميون مع القوميين صراعا دمويا كما حدث فى سوريا ، و قد ينفرد القوميون بالحكم كما فى العراق ، و قد يتحالف المحافظون التقليديون مع الإسلاميين كما فى السعودية ، أو يتصارعون فيما بينهم كما فى إيران .
فى ظل هذه الأوضاع المذرية فى المنطقة ، فإن نشأة حركة سياسية واجتماعية جديدة فى أصبح أمرا ضروريا وملحا لمواجهة التخلف والاستبداد والتهميش ، و أعتقد أنه من الأفضل أن تقوم مثل هذه الحركة على أساس من الاتفاق على إطارا مطلبى حقوقى عملي بعيدا عن النظريات السياسية و الأنساق الأيديولوجية المتكاملة ، والأهداف الاستراتيجية الكبرى ، مما يتيح لكل من يتفق مع هذا الإطار الحقوقى العملى أن يكون جزءا من تلك الحركة ، ويمكن تحديد هذا الإطار الحقوقى العملى فى مجموعة من الأهداف تتلخص فى
1 ـ تحقيق الحد الأقصى الممكن لكل الحقوق والحريات الإنسانية السياسية والمدنية والاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية كاملة غير منقوصة لكل فرد فى المجتمع ، وذلك فى ضوء أن لحقوق الإنسان ، شقين متكاملين أحدهما سياسى ومدنى والثانى اجتماعى واقتصادى وثقافى ، ومن ثم لا يصلح تحقيق أحدهما بدون الآخر ، فضلا على أن هذه الحقوق وكما وردت بالمواثيق الدولية ليست نصوصا مقدسة ، ومن ثم فيجوز تجاوزها فى اتجاه واحد هو بالمزيد من الحقوق والحريات، وليس فى الاتجاه المعاكس بالانتقاص منها وتقييدها بالطبع تحت أى حجة باسم الخصوصية والهوية ، وحيث أن صياغة هذه الحقوق عامة ومجردة ، فأنها تحتاج لتفصيل عملى يحقق جوهرها واقعيا فى سبيل تحررية كل العلاقات الإنسانية والاجتماعية فى المجتمع .
2 ـ أن تكون السلطات الاجتماعية منفصلة ومستقلة تماما عن كل من الدين والطائفة والقومية والعنصر والثقافة واللون والجنس والعرق والنوع واللغة والأصل الاجتماعى . و أن تنظم السلطات الاجتماعية على مبدأ السلطة الشعبية التى يشارك فيها كل المواطنين البالغين العاقلين على قدم المساواة ،وبما أن الهدف العام للحركة هو مقرطة جذرية لكل العلاقات الاجتماعية والإنسانية ، فأن الديمقراطية المنشودة يجب أن تتضمن كل أشكال الديمقراطية من مباشرة وغير مباشرة وتمثيلية فضلا عن تطبيق واسع لللامركزية الإدارية و الاتحادية ، وتقوية المجتمع المدنى وتحريره واستقلاله فى مواجهة السلطات التشريعية والتنفيذية . و ترسيخ المبادىء الديمقراطية والتعاونية فى كل مؤسسات الإنتاج والخدمات ،وتحررية العلاقات الأسرية ، ومقرطة التعليم والثقافة والإعلام والبحث العلمى .
عمليا يمكن أن تبدأ الحركة المنشودة بشرارة ما ، فمعظم النار من مستصغر الشرر فثورة 1919 فى مصر بدأت بزيارة لسعد زغلول ورفاقه لدار المعتمد البريطانى مطالبين إياه بالسماح لهم بالسفر لباريس لحضور مؤتمر الصلح ، وبدأت حركة العصيان المدنى فى الهند بالإضراب عن شراء الملح من الحكومة الإنجليزية ، وما أقصده هو ضرورة اتخاذ إجراء عملى يمارسه من يقبلون بهذا الإطار الحقوقى المطلبى ،وهو ما قد يفجر حركة الكتل الخاملة والسلبية وغير المؤدلجة إذا ما استجابت لهذا الإجراء، و وجدت فى هذه المطالب تعبيرا عن مصالحها المباشرة وغير المباشرة ، ومن هذا الإجراء يمكن أن تكبر الحركة ككرة الثلج بسلاسل من التفاعلات المتتابعة ، والأفعال و ردود الأفعال بين الجماهير والسلطات .
وفى ذهنى مجموعة من الاقتراحات العملية ربما تكون صالحة أو غير صالحة فهى مجرد مقترحات تحتاج لمناقشة و دراسة وإعداد ، وهى مجرد مادة خام تحتاج للمعالجة ، ولمن يتبناها للتنفيذ .
أن نحدد يوم 9 إبريل 2004 يوم البدء لممارسة هذا الإجراء ، وذلك باعتبار هذا اليوم ، هو عيد سقوط أسوء الأنظمة الفاشية فى المنطقة ، ويوم آخر الهزائم التى لحقت بالقوى الفاشية والشعبوية والمحافظة فى المنطقة. فضلا على أنه سيكون أمام من يتبنى هذا الاقتراح أكثر من عشر أشهر للإعداد لهذا الأجراء ، وهى فترة كافية نسبيا .
أول هذه الاقتراحات أن يتم تنظيم محاكمة شعبية لكل الأنظمة والحركات الفاشية والشعبوية والمحافظة التى حكمت هذه المنطقة خلال القرن الماضى تعقد أول جلساتها يوم 9 إبريل 2004 ،ويكون قضاتها من الشخصيات العامة المستقلة ذات الوزن الكبير فى المنطقة والتى لم تتولى من قبل أى مناصب رسمية فى تلك الأنظمة .
ثانى هذه الاقتراحات أن يتم تنظيم احتفالات ومؤتمرات وندوات جماهيرية فى بلدان جنوب وشرق البحر المتوسط فى يوم 9 إيريل القادم بهذه المناسبة ، تعلن رفضها وإدانتها لكل الأنظمة والحركات الفاشية والشعبوية والمحافظة التى حكمت هذه المنطقة خلال القرن الماضى .
ثالث هذه الاقتراحات أن يتم تنظيم مؤتمر شعبى يضم ممثلين عن القوى السياسية والاجتماعية والثقافية التى تتبنى الإطار الحقوقى سالف الذكر فى المنطقة ، من ممثلى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية ومؤسسات المجتمع المدنى واللجان الشعبية والشخصيات العامة بهدف تحويل هذا الإطار لبرنامج مطلبى أكثر تفصيلا ،يعقد أول جلساته فى هذا اليوم .
رابع هذه الاقتراحات وهو الأكثر طموحا وجموحا ،أن يتم بدءا من هذا اليوم تنظيم عصيان مدنى شامل بالامتناع عن الذهاب للعمل ومعاهد التعليم و الامتناع عن الخروج للشوارع والبقاء فى المنازل ، لحين قبول الأنظمة الحاكمة بتسليم كل السلطات فى كل بلدان المنطقة لمجالس شعبية منتخبة انتخابا حرا مباشرا على كل المستويات على أساس الإطار الحقوقى سالف الذكر .
أى اقتراح من هذه الاقتراحات يحتاج لتنفيذه أفراد يدعون إليه بشتى السبل والوسائل المتاحة من انترنيت وصحافة وخطابة وخلافه ، وينظمون أنفسهم فى مجموعات محلية لأعمال الدعاية لهذ الاجراء و تنظيم الجماهير حوله ، وهيئة للتنسيق بين هذه المجموعات ، وفى هذا الخصوص أرشح نشرة الحوار المتمدين للقيام بهذا الدور لو قبل القائمين عليها ،باعتبارها الأداة الأقوى حاليا للحوار و الإعلام للقوى اليسارية الديمقراطية فى المنطقة ، وهى الأنسب لمناقشة هذه الاقتراحات وتطويرها ومتابعة تنفيذها.
أعتقد أننا تحدثنا وتكلمنا وكتبنا كثيرا إلا أن ما يمكن أن يحرك الماء الراكد ،هو فعل مادى ، أعتقد أن الهزيمة الأخيرة التى لحقت بالفاشية العربية هى الوقت المناسب لهذا الفعل
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية