إعادة الاعتبار للعمل التطوعى
إعادة الاعتبار للعمل التطوعى
سامح سعيد عبود
كان امتلاكى لجهاز كومبيوتر شخصى منذ نحو ست سنوات، فرصتى للنجاة الشخصية من الإحباط التام، فقد أصررت على تعلم استخدام الانترنت بكل إمكانياتها بمجرد امتلاكه، وذلك للهروب من حالة الحصار التى تواجه من هم مثلى من مسئولى دور النشر و الصحف والمجلات المطبوعة . ومن ثم فقد شرعت فى بناء موقع "التحررية الجماعية" ووضعت فيه أعمالى وأعمال أصدقائى المقربين، وكونت قائمة احتوت على الآلاف من العناوين البريدية، أخذت أرسل لها رسائل لفترة من الزمن، و بنيت بعض المواقع الأخرى أبرزها موقع "المركز المصرى الاجتماعى الديمقراطى"، وكان حصيلة ما كتبته خلال تلك السنوات أضعاف ما كتبته قبلها، بعد أن فتحت أمامى فرص النشر المجانى دون أن يفرض على أى تنازلات، و دون أن أكتب وفق حسابات أخرى غير ما أومن به، ودون أن يقول لى شخص ما مثلما قال لى محمود أمين العالم ذات يوم: " أنه لن ينشر لى فى مطبوعة "قضايا فكرية"ـ الذى يرأس تحريرها ـ لأنه حريص على عقول القراء "برغم أنى لم أكن معارضا صلبا لمدرسته السياسية والفكرية مثلما أنا الآن, وقد اكتشفت أن بعض المواقع والمجلات والصحف تأخذ بعض مقالاتى من المواقع المختلفة، وتنشرها دون استئذانى أو حتى إخبارى بذلك، وبدون مقابل، على سبيل المثال مجلة "آفاق" الليبية وجريدة "التجمع" المصرية، وذلك فى حدود ما وصل إلى من معلومات بعد أن كان رؤساء التحرير يرفضون النشر لى بشتى الحجج . وبالطبع فأنى لم اكسب من وراء كل ذلك النشاط مليما واحدا، فضلا عن أن ما تكلفته ماليا مقابل هذا النشاط كان جزءا مقتطعا من أجرى الشهرى المحدود الذى أتلقاه مقابل عملى فى مركز خاص للبحوث.
ما دفعنى لكتابة هذا المقال هو أنى التقيت بالعديد من المعارف من اليساريين خلال تلك السنوات، وعند السؤال المعتاد عن الأحوال الشخصية يتطرق الحديث إلى نشاطى عبر الانترنت، فإذ ببعضهم يسأل عن من هو ممول هذا النشاط أو عن ضرورة البحث عن تمويل له، وأحدهم سأل هل أضع إعلانات تجارية على الموقع، وهل أكسب نقودا من هذا العمل، ولماذا لا أستثمر هذه المهارات التى اكتسبتها فى الربح، أما إحداهن فتصر على هذه الأسئلة فى كل مرة التقى بها مصادفة، وينتهى الأمر دائما بتعبيرها عن الدهشة عندما تعلم الحقيقة كما لو كانت لا تريد أن تصدق، كما التقيت بكتاب وباحثين يخشون النشر عبر الانترنت حرصا على حقوقهم الأدبية والمالية، وخوفا من أن يسطوا أحد ما على إنتاجهم وينسبه لنفسه.
أننا لا يمكن أن نفهم الإطار العام لما اندهشت بسببه و دفعنى للكتابة ، إلا حين نعلم ما طرأ على الساحة اليسارية المصرية منذ أكثر من عشر سنوات حين أندفع العشرات من اليساريين نحو تأسيس مؤسسات لحقوق الإنسان يتم تمويلها من هيئات أجنبية، فتحول هذا النشاط الذى من المفترض أن يكون تطوعيا إلى عمل بهدف الربح والكسب المادى وغير المادى، اجتذب بالطبع بالإضافة للمناضلين المخلصين والشرفاء العديد من الانتهازيين والفاسدين، وحتى الأبرياء من هؤلاء الذين يبحثون عن فرص للعمل فى سوق تتضاءل فيه فرص العمل خصوصا المحاميين والباحثين منهم، مما حول العاملين فى هذا النشاط لمحترفين للعمل العام الذى يخفى فى جوهره هدف التربح الخاص، بكل ما يؤدى إليه هذا الاحتراف من إمكانيات للفساد والانحراف، وبالطبع تمت بقرطة تلك المؤسسات، وتكونت بناء علي ذلك جماعات للمصالح فى هذا المجال تتنافس بشراسة على الكسب والربح، وكان هذا من أبرز ما ساعد على الخلط فى أذهان الكثيرين بين العمل الخاص الذى يستهدف الربح، وبين العمل العام التطوعى الذى يجب أن لا يستهدف الربح، ويفترض التضحية بالمصالح الشخصية أساسا.
لم تشهد الأوساط اليسارية فى مصر هذه الظواهر إلا مع منتصف الستينات، وعلى نطاق محدود جدا فى البداية عندما وظف النظام الناصرى العشرات من الشيوعيين من بين الآلاف منهم فى أجهزة الدولة المختلفة بعد أن تم الإفراج عنهم من المعتقلات الناصرية، وما كان نضال هؤلاء السابق، وقبولهم لحل منظماتهم المستقلة، إلا سببان فى حصولهم على هذه الوظائف المرموقة فى مؤسسات الدولة الناصرية، وفى السبعينات توفرت فرص التربح أيضا بسبب النضال العام، والذى أدى إلى نشوب الصراعات الداخلية داخل منظمات اليسار على الأموال والنفوذ، وذلك عندما أتيحت لمنظمات اليسار فى السبعينات أشكال من الدعم الأممى من منظمات يسارية أجنبية لم تتوافر لمنظمات الأربعينات التى حققت نجاحا أكبر بكثير دون هذا الدعم الأممى، إلا أن الاستفادة الشخصية من مثل هذا الدعم كانت محدودة فى نطاق المحترفين للعمل السياسى والقيادات العليا والكوادر التى شكلت قنوات اتصال يعبر منها الدعم الأممى لمنظمات الداخل، فالغالبية الساحقة من الكوادر والعضوية كانت تناضل مجانا دون انتظار أى فائدة مادية مع إثباتهم الاستعداد المستمر لبذل المزيد من التضحيات على الجانب الشخصى سواء فى تعرضهم إلى السجون والمعتقلات والتعذيب أو الفصل من العمل ومؤسسات الدراسة.
إلا أن انتشار الاتهامات المتبادلة بين اليساريين بالفساد والتربح من العمل العام سواء للعاملين منهم بمنظمات المجتمع المدنى المختلفة، أو أعضاء المنظمات اليسارية، سرية أو علنية، وحتى النشطين فى اللجان التضامنية المختلفة، لم يشكل ظاهرة قوية إلا مع نشوء مراكز حقوق الإنسان، مع ملاحظة أنها فى بعض الحالات يكون لها أساس من الصحة، و فى بعضها لا يكون لها أساس من الصحة، هذه الشائعات تستند فضلا عن وقائع الفساد المؤكدة بالطبع على منطق أصبح سائدا للأسف، يفترض فى كل من يتصدى للعمل العام أنه لابد و أن يكون وراءه تحقيق مصلحة شخصية مالية، و ربما لا تقتصر الاستفادة على الكسب المالى فقط، وفى الحقيقة أن الكثيرين فى الأوساط اليسارية التى تعمل الآن بالعمل العام، أصبحوا لا يفصلون بين ما هو عمل عام وما هو عمل خاص سواء من حيث الأهداف والوسائل، فيخلطون بينهما خلطا يؤدى لتخريب العمل العام .
هذا المناخ من انعدام الثقة والشك فى أوساط اليساريين ساعد على نفور غالبيتهم من أى عمل عام جماعى منظم، مفضلين أن يظلوا أفرادا معزولين على أن يستخدم نضالهم أحد لتحقيق مصالحه الشخصية، وأدى بالكثير منهم إلى اعتبار ما يمارسوه من عمل عام هو وسيلة للكسب، وفى كل الأحوال فقد انتهى الأمر بغالبيتهم الساحقة على قصر حياتهم على البحث عن رزقهم فى الحياة ونجاحهم الشخصى سواء كعمالة مأجورة أو فى مشاريعهم الخاصة أو بالحياة على حساب الآخرين، دون أى عمل طوعى حر مجرد عن الربح والمنفعة الخاصة .
لاشك أن منطق هؤلاء ومفهومهم للحياة يماثل منطق شخص إخوانى من معارفى، كان يتهم الشيوعيين بأنهم لابد وأنهم يقبضون نقودا من الاتحاد السوفيتى السابق مقابل كفاحهم وتضحياتهم، مادموا لا يتوقعون جزاءا فى الآخرة عن تضحياتهم، ولم يسأل نفسه ماذا عن الشيوعيين سواء قبل قيام أو بعد سقوط الاتحاد السوفيتى؟، وفى الحقيقة لم يكن هذا الإخوانى فى ادعاءاته تلك إلا متسقا مع مفهومه الإسلامى للحياة الذى يحدد هدف المسلم من الحياة الدنيا، بأنه اقتناص أكبر قدر من المتع والمنافع والمصالح الحسية الفردية فى الحياة الآخرة الأبدية بعد الموت، مقابل ما يدفعه الآن من حسنات فى الحياة الدنيا الفانية، والدفع هنا يتم بالتضحية بالقليل جدا والتافه من هذه المتع والمنافع والمصالح الحسية الفردية، كما يتم أيضا بالالتزام بالأوامر والنواهى الربانية التى لا تمنع إشباع الغرائز فى حدود بعض القيود والضوابط. والمسلم المتدين لا ينسى بالطبع أيضا اقتناص هذه المتع والمنافع والمصالح الحسية الفردية فى الحياة الدنيا طالما لا تنتهك تلك الأوامر والنواهى الربانية حتى لا يحرم فقط من المتع الأعظم التى يتوقعها ويتمناها فى الجنة.
فالمسلمون فى غالبيتهم مثلما هم اليهود و المسيحيون فى غالبيتهم، يتعاملون مع شعائر الدين وعبادته وأوامره ونواهيه وحلاله وحرامه، على أنها فرصة للإكثار بقدر ما يستطيعون من الحسنات، وتجنب قدر ما يستطيعون من السيئات، ليضمنون بما كسبوا من الحسنات، وتجنبوا من السيئات، الموضع الذى يتمنوه فى الجنة التى بها من المتع الحسية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فضلا عن التماس الجزاء السماوى فى الدنيا من نعم دنيوية كالصحة والمال وغيرها نتيجة طاعتهم للأوامر والنواهى الربانية، وتجنب عذاب جهنم التى بها من العذاب ما لا يطاق، فضلا عن تجنب العقاب السماوى فى الدنيا من نقم دنيوية كالمرض والفقر وغيرها نتيجة عصيانهم للأوامر والنواهى الربانية .
لاحظ أيضا أن المتدين الملتزم بشكليات الدين الظاهرية فى الحياة الدنيا يكسب منافع فردية ويحقق مصالح شخصية، نتيجة التزامه الظاهرى بالتدين، فالناس غالبا ما تثق فيه وتفضل التعامل معه وتسلمه قيادها، على عكس غير المتدين أو غير الملتزم بشكليات الدين الذى غالبا ما يخسر ثقة الناس لمجرد عدم التزامه الظاهرى بشكليات الدين حتى ولو كان الأفضل خلقا وسلوكا، والأكثر كفاءة وعلما ودراية، وهذا نوع من تحقيق المنفعة الخاصة عبر التدين الشكلى يدركها ويحققها الكثير من المتدينين، فالمسألة إذن ليست مجرد انتظار الجزاء فى الآخرة فحسب، فالجزاء قائم فى الدنيا أيضا وفورى ومصدره ثقة غالبية الناس فى المتدين ظاهريا أمامهم ، ومن ثم كان هذا الربح من التدين الشكلى هو الأهم لدى الكثيرين من هؤلاء المتدينين لأنه المحقق فى أيديهم بالفعل، برغم كل ما قد يخفيه من انحطاطهم الأخلاقى والسلوكى.
هذا الفهم البدائى والنفعى للدين وللحياة يتوقف عند مخاطبة الغرائز الحيوانية الأنانية فى الإنسان بالترغيب والترهيب، بالثواب والعقاب، و هو لا يتعدى مخاطبة فرديته مع تهذيبها ببعض القيود لضمان استقرار العلاقات الاجتماعية، وهو فى هذه الحدود لا يخاطب ما هو أسمى فى الإنسان من جوانبه النفعية الأنانية، فالمطلوب عند المتدينين هو تحقيق المصلحة الفردية سواء فى الدنيا أو الآخرة، أما مصالح الآخرين فأمر لا يعني هؤلاء إلا إذا كانت سببا فى تحقيق مصالحهم الفردية.
قد يتشابه المتدين فى سلوكه مع سلوك غير المتدين، فقد يتمتعان بالصدق مثلا، إلا أن الدافع مختلف عند كلا منهما، فالأول يلتزم بالصدق لأنه يرى فى ذلك تلبية مصلحته الفردية ومنفعته الأنانية فى الدنيا والآخرة ، أما الآخر فقد تكون دوافعه لذلك أسمى مما هو فردى وأنانى، وأرقى مما هو غرائزى حيوانى، فيلتزم المؤمن بالصدق لأن الكذب حرام وقد يورده الجحيم و ليس لأنه يستنكف الكذب، أما غير المتدين فقد يلتزم الصدق ويأنف من الكذب لأنه لا يرضى لنفسه أن يقال عليه كذابا مثلا، وقد يضحى المتدين من أجل دينه بكل غال ورخيص منتظرا جزاءا فرديا يتمثل فى متع الآخرة الحسية، وقد يضحى غير المتدين من أجل قضيته معتبرا إرضاء ضميره وتحقيق ذاته الإنسانية واحترامه لنفسه، وما يشعر به من سمو نتيجة تضحيته المجانية تلك هو نعم الجزاء الذى لا يريد سواه، وهى متع إنسانية دائمة تتجاوز فى قيمتها المتع الحيوانية السريعة الزوال، والتى يتميز بإمكانية الاستمتاع بها الإنسان عن سائر الكائنات الحية.
ولاشك أيضا أن هذا المفهوم البدائى النفعى للدين يتماثل تماما مع المفهوم البرجوازى للحياة، القائم بدوره على اقتناص المنفعة الشخصية، وتحقيق المصلحة الفردية، والمتعة الحسية على حساب الآخرين وعلى حساب منفعتهم ومصالحهم، فغاية الغايات فى المجتمع البرجوازى هى استهلاك أكبر قدر من السلع والمتع الحسية المشبعة للغرائز، فى الحدود التى لا تخل باستقرار العلاقات الاجتماعية، مما يستدعى تقديس سلوك يسميه مفكرو البرجوازية أخلاقا طبيعية أو قانونا طبيعيا، فى حين أن هدفه الجوهرى هو الحفاظ على النظام الاجتماعى البرجوازى فحسب، حيث يقوم أساسا على قيمة العمل الفردى النفعى من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من كسب النقود من أجل شراء واستهلاك أكبر قدر من السلع، فى حدود احترام القوانين التى ما شرعت إلا للحفاظ على مصالح البرجوازية، ومنها تقديس واحترام الملكية الخاصة وسلطة الدولة.
البرجوازية حولت كل مظاهر الحياة الإنسانية لسوق ضخم، يتم فيه تبادل سلع مختلفة، لكل منها قيمتين،قيمة استعمالية لأنها تحقق منفعة ما لمستهلك ما، و قيمة تبادلية لأن لها ثمن فى السوق يمكن وفقه مبادلتها بسلعة أخرى، ولم تستثن البرجوازية الإنسان نفسه من التسليع، فأصبحت كل خصائصه البدنية والذهنية القابلة للاستعمال قابلة للتبادل أيضا وفق ما يدفع فيها من ثمن، شأنها شأن أى سلعة، أيا كانت هذه الخصائص، قواه البدنية أو قواه العقلية، معارفه وعمله وجهده ومهاراته وإرادته وحريته ووقته ومشاعره وضميره وأرائه ، حتى صفاته الجسمانية سواء أكانت إيجابية من جمال و جاذبية و وسامة وقوة وصحة ، أو سلبية من تشوه وإعاقة ذهنية أو بدنية وقبح ودمامة وضعف ومرض ، فكل ما هو إنسانى أصبح لمن يملك ثمنه و يمكنه شراءه، ويريد استعماله لمنفعته ومتعته الخاصة.
فى اقتصاد السوق الرأسمالى حولت الأقلية البرجوازية من حائزى وسائل الثروة والعنف والمعرفة غالبية البشر إلى بروليتاريا من المجردين من وسائل الثروة والعنف والمعرفة، هؤلاء المضطرين من أجل تلبية احتياجاتهم إلى بيع ما يملكوه بالفعل وهو قدراتهم وخصائصهم الإنسانية المختلفة ، وهم فى كل الأحوال وبصرف النظر عن قيمة ما يبيعوه، مضطرين للتنازل عن حريتهم و إرادتهم ووقتهم وجهدهم لمن يدفع الثمن أو يجبرهم أو يخدعهم من أجل ذلك، وقد ينظر العلماء منهم أو المثقفين أو أصحاب المواهب الفنية لأنفسهم على أنهم متميزين اجتماعيا، وأنهم ليسوا مثل باقى البروليتاريا من العمال العاديين متجاهلين أن البرجوازية حولت غالبية البشر، لمجرد عبيد مأجورين لمن يدفع أجرهم فى سوق نخاسة ضخم يسمونه المجتمع البشري، وما شعور بعضهم الوهمى بالحرية والتميز إلا لأنهم مجبلون على تجاهل حقيقة أنفسهم، فلا فرق فى الحقيقة على هذا المستوى الملموس من حيث درجة التمتع بالحرية، بين بروليتاري متميز كالعالم أو المثقف وبين العامل العادى الذى لم يجد سوى معرفته أو قدراته أو مواهبه البدنية ليبيعها فى ذلك السوق لمن يدفع الثمن.
تنقسم الحيوانات التى يملكها البشر إلى حيوانات مدربة لإمتاع الناس فى السيرك، وحيوانات للجر، وحيوانات للعمل فى الحقول، وحيوانات لإنتاج الطعام، وهناك حيوانات للترفيه والتسلية تلك المتميزة برفاهيتها وتدليلها حتى عن الكثير من البشر، وبرغم تفاوت حظوظ كل تلك الحيوانات من الرفاهية والشقاء، إلا أن هذا لا ينفى أنها فى النهاية مجرد حيوانات لا تملك إرادتها وحريتها، وقابلة لأن تباع وأن تشترى..والحقيقة أن الفرق بين العبودية الكاملة والعبودية المأجورة، هو كالفرق بين الشقة المملوكة والشقة المؤجرة، العبد يكون مملوكا لسيده بكل ما فيه من خصائص بدنية وذهنية، ولسيده كافة الحقوق عليه ..أما البروليتارى فسيده لا يملك إلا ما يشتريه منه من خصائص بدنية أو ذهنية مقابل ما يدفعه له من أجر، والبروليتارى حر فى أن يبيع ما لديه من بضاعة أو لا يبيع، إلا أن النخاس الذى يضطره لبيع ما لديه دائما هو احتياجاته لضرورات الحياة التى لا يملكها سوى البرجوازى الذى يملك ما يحتاجه البروليتارى.
تصور البرجوازية أن علاقات السوق تلك بكل ما تعنيه وتؤدى إليه من سوقية وابتذال هى العلاقات الطبيعية بين البشر، فيقبل البروليتارى بوضعيته المهينة،على أنها سنة الحياة الطبيعية التى لا مفر منها، خاضعا فى ذلك لشتى الأوهام التى تجعله يقبل باستئناسه، بل ويسعى إليه ما وسعه الجهد، مادام يضمن احتياجاته الضرورية للحياة فلاشيء يعنيه، قامعا بذلك غريزته الطبيعية بالفعل، وهى دافعه للحرية و شعوره بالكرامة والكبرياء، نزوعه لأن يكون حر الإرادة لأن يفعل أو لا يفعل، و أن يفعل ما يفعله بالطريقة التى يريدها، وفى الوقت الذى يحدده .
فقد حررت البرجوازية البشرية من العبودية الكاملة إلا أنها أبقت ورسخت العبودية المأجورة، تلك العبودية التى يتمحور النضال اليسارى الحقيقى من أجل إلغاءها، والانعتاق منها وإدانتها ورفضها، ومن ثم فاليساريين الذين تكيفوا مع تلك العبودية وقبلوها ويدافعون عنها ويرفضون الانعتاق منها ولو لبعض الوقت منها بالعمل التطوعى الحر لا يصح أن ينتسبوا لمعسكر اليسار الذى لديه مفهوما آخر للحياة الإنسانية .
ما يمنحه العمل التطوعى والمتحرر من الاضطرار والتربح المالى من جزاء هو إشباع غريزة الحرية فى الإنسان، ما يشبع كبريائه ويحقق ذاته الإنسانية بالفعل هو أن يكون سيد نفسه والمتحكم فى جسده وذهنه، وما يتحقق به كإنسان وما يجعل لحياته معنى هو أن يتجاوز ما هو حيوانى داخله إلى ما هو إنسانى يميزه، هذا العمل التطوعى المتحرر من عبودية الأجر، و برغم أنه قد يكون تضحية بلا مقابل مادى إلا أنه يمنح من يبذله أضعاف مضاعفة ما قد يمنحه له العمل المأجور من سعادة ومتعة .
يستند اليسار فى رؤيته ومفهومه للحياة التى يناضل من أجل تحققها، على أساس النشاط التطوعى الحر بين البشر المتحررون من كل عبودية و الذين يدخلون فى علاقات تعاونية وتبادلية فيما بينهم لتلبية كافة الاحتياجات الإنسانية المشتركة بينهم، ومع الاعتراف أننا مضطرين الآن للقبول بعبودية العمل المأجور إلى أن يأتى الوقت التى تنتهى فيه هذه العبودية بنهاية البرجوازية، إلا أنه وحتى يأتى ذلك الوقت فعلينا أن نحاول أن نتحرر منها،ونساعد الآخرين على الانعتاق منها قدر استطاعتنا من قلب المجتمع البرجوازى، سواء أكان هذا على نحو فردى أو نحو جماعى تعاونى، وسواء كان هذا بشكل جزئى عبر العمل التطوعى الحر وذلك بجانب العمل المأجور، أو بشكل تام يضمن احتياجات الحياة بعيدا عن الاضطرار للعمل المأجور، سواء أكان هذا العمل التطوعى عاما أم خاصا.
كان امتلاكى لجهاز كومبيوتر شخصى منذ نحو ست سنوات، فرصتى للنجاة الشخصية من الإحباط التام، فقد أصررت على تعلم استخدام الانترنت بكل إمكانياتها بمجرد امتلاكه، وذلك للهروب من حالة الحصار التى تواجه من هم مثلى من مسئولى دور النشر و الصحف والمجلات المطبوعة . ومن ثم فقد شرعت فى بناء موقع "التحررية الجماعية" ووضعت فيه أعمالى وأعمال أصدقائى المقربين، وكونت قائمة احتوت على الآلاف من العناوين البريدية، أخذت أرسل لها رسائل لفترة من الزمن، و بنيت بعض المواقع الأخرى أبرزها موقع "المركز المصرى الاجتماعى الديمقراطى"، وكان حصيلة ما كتبته خلال تلك السنوات أضعاف ما كتبته قبلها، بعد أن فتحت أمامى فرص النشر المجانى دون أن يفرض على أى تنازلات، و دون أن أكتب وفق حسابات أخرى غير ما أومن به، ودون أن يقول لى شخص ما مثلما قال لى محمود أمين العالم ذات يوم: " أنه لن ينشر لى فى مطبوعة "قضايا فكرية"ـ الذى يرأس تحريرها ـ لأنه حريص على عقول القراء "برغم أنى لم أكن معارضا صلبا لمدرسته السياسية والفكرية مثلما أنا الآن, وقد اكتشفت أن بعض المواقع والمجلات والصحف تأخذ بعض مقالاتى من المواقع المختلفة، وتنشرها دون استئذانى أو حتى إخبارى بذلك، وبدون مقابل، على سبيل المثال مجلة "آفاق" الليبية وجريدة "التجمع" المصرية، وذلك فى حدود ما وصل إلى من معلومات بعد أن كان رؤساء التحرير يرفضون النشر لى بشتى الحجج . وبالطبع فأنى لم اكسب من وراء كل ذلك النشاط مليما واحدا، فضلا عن أن ما تكلفته ماليا مقابل هذا النشاط كان جزءا مقتطعا من أجرى الشهرى المحدود الذى أتلقاه مقابل عملى فى مركز خاص للبحوث.
ما دفعنى لكتابة هذا المقال هو أنى التقيت بالعديد من المعارف من اليساريين خلال تلك السنوات، وعند السؤال المعتاد عن الأحوال الشخصية يتطرق الحديث إلى نشاطى عبر الانترنت، فإذ ببعضهم يسأل عن من هو ممول هذا النشاط أو عن ضرورة البحث عن تمويل له، وأحدهم سأل هل أضع إعلانات تجارية على الموقع، وهل أكسب نقودا من هذا العمل، ولماذا لا أستثمر هذه المهارات التى اكتسبتها فى الربح، أما إحداهن فتصر على هذه الأسئلة فى كل مرة التقى بها مصادفة، وينتهى الأمر دائما بتعبيرها عن الدهشة عندما تعلم الحقيقة كما لو كانت لا تريد أن تصدق، كما التقيت بكتاب وباحثين يخشون النشر عبر الانترنت حرصا على حقوقهم الأدبية والمالية، وخوفا من أن يسطوا أحد ما على إنتاجهم وينسبه لنفسه.
أننا لا يمكن أن نفهم الإطار العام لما اندهشت بسببه و دفعنى للكتابة ، إلا حين نعلم ما طرأ على الساحة اليسارية المصرية منذ أكثر من عشر سنوات حين أندفع العشرات من اليساريين نحو تأسيس مؤسسات لحقوق الإنسان يتم تمويلها من هيئات أجنبية، فتحول هذا النشاط الذى من المفترض أن يكون تطوعيا إلى عمل بهدف الربح والكسب المادى وغير المادى، اجتذب بالطبع بالإضافة للمناضلين المخلصين والشرفاء العديد من الانتهازيين والفاسدين، وحتى الأبرياء من هؤلاء الذين يبحثون عن فرص للعمل فى سوق تتضاءل فيه فرص العمل خصوصا المحاميين والباحثين منهم، مما حول العاملين فى هذا النشاط لمحترفين للعمل العام الذى يخفى فى جوهره هدف التربح الخاص، بكل ما يؤدى إليه هذا الاحتراف من إمكانيات للفساد والانحراف، وبالطبع تمت بقرطة تلك المؤسسات، وتكونت بناء علي ذلك جماعات للمصالح فى هذا المجال تتنافس بشراسة على الكسب والربح، وكان هذا من أبرز ما ساعد على الخلط فى أذهان الكثيرين بين العمل الخاص الذى يستهدف الربح، وبين العمل العام التطوعى الذى يجب أن لا يستهدف الربح، ويفترض التضحية بالمصالح الشخصية أساسا.
لم تشهد الأوساط اليسارية فى مصر هذه الظواهر إلا مع منتصف الستينات، وعلى نطاق محدود جدا فى البداية عندما وظف النظام الناصرى العشرات من الشيوعيين من بين الآلاف منهم فى أجهزة الدولة المختلفة بعد أن تم الإفراج عنهم من المعتقلات الناصرية، وما كان نضال هؤلاء السابق، وقبولهم لحل منظماتهم المستقلة، إلا سببان فى حصولهم على هذه الوظائف المرموقة فى مؤسسات الدولة الناصرية، وفى السبعينات توفرت فرص التربح أيضا بسبب النضال العام، والذى أدى إلى نشوب الصراعات الداخلية داخل منظمات اليسار على الأموال والنفوذ، وذلك عندما أتيحت لمنظمات اليسار فى السبعينات أشكال من الدعم الأممى من منظمات يسارية أجنبية لم تتوافر لمنظمات الأربعينات التى حققت نجاحا أكبر بكثير دون هذا الدعم الأممى، إلا أن الاستفادة الشخصية من مثل هذا الدعم كانت محدودة فى نطاق المحترفين للعمل السياسى والقيادات العليا والكوادر التى شكلت قنوات اتصال يعبر منها الدعم الأممى لمنظمات الداخل، فالغالبية الساحقة من الكوادر والعضوية كانت تناضل مجانا دون انتظار أى فائدة مادية مع إثباتهم الاستعداد المستمر لبذل المزيد من التضحيات على الجانب الشخصى سواء فى تعرضهم إلى السجون والمعتقلات والتعذيب أو الفصل من العمل ومؤسسات الدراسة.
إلا أن انتشار الاتهامات المتبادلة بين اليساريين بالفساد والتربح من العمل العام سواء للعاملين منهم بمنظمات المجتمع المدنى المختلفة، أو أعضاء المنظمات اليسارية، سرية أو علنية، وحتى النشطين فى اللجان التضامنية المختلفة، لم يشكل ظاهرة قوية إلا مع نشوء مراكز حقوق الإنسان، مع ملاحظة أنها فى بعض الحالات يكون لها أساس من الصحة، و فى بعضها لا يكون لها أساس من الصحة، هذه الشائعات تستند فضلا عن وقائع الفساد المؤكدة بالطبع على منطق أصبح سائدا للأسف، يفترض فى كل من يتصدى للعمل العام أنه لابد و أن يكون وراءه تحقيق مصلحة شخصية مالية، و ربما لا تقتصر الاستفادة على الكسب المالى فقط، وفى الحقيقة أن الكثيرين فى الأوساط اليسارية التى تعمل الآن بالعمل العام، أصبحوا لا يفصلون بين ما هو عمل عام وما هو عمل خاص سواء من حيث الأهداف والوسائل، فيخلطون بينهما خلطا يؤدى لتخريب العمل العام .
هذا المناخ من انعدام الثقة والشك فى أوساط اليساريين ساعد على نفور غالبيتهم من أى عمل عام جماعى منظم، مفضلين أن يظلوا أفرادا معزولين على أن يستخدم نضالهم أحد لتحقيق مصالحه الشخصية، وأدى بالكثير منهم إلى اعتبار ما يمارسوه من عمل عام هو وسيلة للكسب، وفى كل الأحوال فقد انتهى الأمر بغالبيتهم الساحقة على قصر حياتهم على البحث عن رزقهم فى الحياة ونجاحهم الشخصى سواء كعمالة مأجورة أو فى مشاريعهم الخاصة أو بالحياة على حساب الآخرين، دون أى عمل طوعى حر مجرد عن الربح والمنفعة الخاصة .
لاشك أن منطق هؤلاء ومفهومهم للحياة يماثل منطق شخص إخوانى من معارفى، كان يتهم الشيوعيين بأنهم لابد وأنهم يقبضون نقودا من الاتحاد السوفيتى السابق مقابل كفاحهم وتضحياتهم، مادموا لا يتوقعون جزاءا فى الآخرة عن تضحياتهم، ولم يسأل نفسه ماذا عن الشيوعيين سواء قبل قيام أو بعد سقوط الاتحاد السوفيتى؟، وفى الحقيقة لم يكن هذا الإخوانى فى ادعاءاته تلك إلا متسقا مع مفهومه الإسلامى للحياة الذى يحدد هدف المسلم من الحياة الدنيا، بأنه اقتناص أكبر قدر من المتع والمنافع والمصالح الحسية الفردية فى الحياة الآخرة الأبدية بعد الموت، مقابل ما يدفعه الآن من حسنات فى الحياة الدنيا الفانية، والدفع هنا يتم بالتضحية بالقليل جدا والتافه من هذه المتع والمنافع والمصالح الحسية الفردية، كما يتم أيضا بالالتزام بالأوامر والنواهى الربانية التى لا تمنع إشباع الغرائز فى حدود بعض القيود والضوابط. والمسلم المتدين لا ينسى بالطبع أيضا اقتناص هذه المتع والمنافع والمصالح الحسية الفردية فى الحياة الدنيا طالما لا تنتهك تلك الأوامر والنواهى الربانية حتى لا يحرم فقط من المتع الأعظم التى يتوقعها ويتمناها فى الجنة.
فالمسلمون فى غالبيتهم مثلما هم اليهود و المسيحيون فى غالبيتهم، يتعاملون مع شعائر الدين وعبادته وأوامره ونواهيه وحلاله وحرامه، على أنها فرصة للإكثار بقدر ما يستطيعون من الحسنات، وتجنب قدر ما يستطيعون من السيئات، ليضمنون بما كسبوا من الحسنات، وتجنبوا من السيئات، الموضع الذى يتمنوه فى الجنة التى بها من المتع الحسية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فضلا عن التماس الجزاء السماوى فى الدنيا من نعم دنيوية كالصحة والمال وغيرها نتيجة طاعتهم للأوامر والنواهى الربانية، وتجنب عذاب جهنم التى بها من العذاب ما لا يطاق، فضلا عن تجنب العقاب السماوى فى الدنيا من نقم دنيوية كالمرض والفقر وغيرها نتيجة عصيانهم للأوامر والنواهى الربانية .
لاحظ أيضا أن المتدين الملتزم بشكليات الدين الظاهرية فى الحياة الدنيا يكسب منافع فردية ويحقق مصالح شخصية، نتيجة التزامه الظاهرى بالتدين، فالناس غالبا ما تثق فيه وتفضل التعامل معه وتسلمه قيادها، على عكس غير المتدين أو غير الملتزم بشكليات الدين الذى غالبا ما يخسر ثقة الناس لمجرد عدم التزامه الظاهرى بشكليات الدين حتى ولو كان الأفضل خلقا وسلوكا، والأكثر كفاءة وعلما ودراية، وهذا نوع من تحقيق المنفعة الخاصة عبر التدين الشكلى يدركها ويحققها الكثير من المتدينين، فالمسألة إذن ليست مجرد انتظار الجزاء فى الآخرة فحسب، فالجزاء قائم فى الدنيا أيضا وفورى ومصدره ثقة غالبية الناس فى المتدين ظاهريا أمامهم ، ومن ثم كان هذا الربح من التدين الشكلى هو الأهم لدى الكثيرين من هؤلاء المتدينين لأنه المحقق فى أيديهم بالفعل، برغم كل ما قد يخفيه من انحطاطهم الأخلاقى والسلوكى.
هذا الفهم البدائى والنفعى للدين وللحياة يتوقف عند مخاطبة الغرائز الحيوانية الأنانية فى الإنسان بالترغيب والترهيب، بالثواب والعقاب، و هو لا يتعدى مخاطبة فرديته مع تهذيبها ببعض القيود لضمان استقرار العلاقات الاجتماعية، وهو فى هذه الحدود لا يخاطب ما هو أسمى فى الإنسان من جوانبه النفعية الأنانية، فالمطلوب عند المتدينين هو تحقيق المصلحة الفردية سواء فى الدنيا أو الآخرة، أما مصالح الآخرين فأمر لا يعني هؤلاء إلا إذا كانت سببا فى تحقيق مصالحهم الفردية.
قد يتشابه المتدين فى سلوكه مع سلوك غير المتدين، فقد يتمتعان بالصدق مثلا، إلا أن الدافع مختلف عند كلا منهما، فالأول يلتزم بالصدق لأنه يرى فى ذلك تلبية مصلحته الفردية ومنفعته الأنانية فى الدنيا والآخرة ، أما الآخر فقد تكون دوافعه لذلك أسمى مما هو فردى وأنانى، وأرقى مما هو غرائزى حيوانى، فيلتزم المؤمن بالصدق لأن الكذب حرام وقد يورده الجحيم و ليس لأنه يستنكف الكذب، أما غير المتدين فقد يلتزم الصدق ويأنف من الكذب لأنه لا يرضى لنفسه أن يقال عليه كذابا مثلا، وقد يضحى المتدين من أجل دينه بكل غال ورخيص منتظرا جزاءا فرديا يتمثل فى متع الآخرة الحسية، وقد يضحى غير المتدين من أجل قضيته معتبرا إرضاء ضميره وتحقيق ذاته الإنسانية واحترامه لنفسه، وما يشعر به من سمو نتيجة تضحيته المجانية تلك هو نعم الجزاء الذى لا يريد سواه، وهى متع إنسانية دائمة تتجاوز فى قيمتها المتع الحيوانية السريعة الزوال، والتى يتميز بإمكانية الاستمتاع بها الإنسان عن سائر الكائنات الحية.
ولاشك أيضا أن هذا المفهوم البدائى النفعى للدين يتماثل تماما مع المفهوم البرجوازى للحياة، القائم بدوره على اقتناص المنفعة الشخصية، وتحقيق المصلحة الفردية، والمتعة الحسية على حساب الآخرين وعلى حساب منفعتهم ومصالحهم، فغاية الغايات فى المجتمع البرجوازى هى استهلاك أكبر قدر من السلع والمتع الحسية المشبعة للغرائز، فى الحدود التى لا تخل باستقرار العلاقات الاجتماعية، مما يستدعى تقديس سلوك يسميه مفكرو البرجوازية أخلاقا طبيعية أو قانونا طبيعيا، فى حين أن هدفه الجوهرى هو الحفاظ على النظام الاجتماعى البرجوازى فحسب، حيث يقوم أساسا على قيمة العمل الفردى النفعى من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من كسب النقود من أجل شراء واستهلاك أكبر قدر من السلع، فى حدود احترام القوانين التى ما شرعت إلا للحفاظ على مصالح البرجوازية، ومنها تقديس واحترام الملكية الخاصة وسلطة الدولة.
البرجوازية حولت كل مظاهر الحياة الإنسانية لسوق ضخم، يتم فيه تبادل سلع مختلفة، لكل منها قيمتين،قيمة استعمالية لأنها تحقق منفعة ما لمستهلك ما، و قيمة تبادلية لأن لها ثمن فى السوق يمكن وفقه مبادلتها بسلعة أخرى، ولم تستثن البرجوازية الإنسان نفسه من التسليع، فأصبحت كل خصائصه البدنية والذهنية القابلة للاستعمال قابلة للتبادل أيضا وفق ما يدفع فيها من ثمن، شأنها شأن أى سلعة، أيا كانت هذه الخصائص، قواه البدنية أو قواه العقلية، معارفه وعمله وجهده ومهاراته وإرادته وحريته ووقته ومشاعره وضميره وأرائه ، حتى صفاته الجسمانية سواء أكانت إيجابية من جمال و جاذبية و وسامة وقوة وصحة ، أو سلبية من تشوه وإعاقة ذهنية أو بدنية وقبح ودمامة وضعف ومرض ، فكل ما هو إنسانى أصبح لمن يملك ثمنه و يمكنه شراءه، ويريد استعماله لمنفعته ومتعته الخاصة.
فى اقتصاد السوق الرأسمالى حولت الأقلية البرجوازية من حائزى وسائل الثروة والعنف والمعرفة غالبية البشر إلى بروليتاريا من المجردين من وسائل الثروة والعنف والمعرفة، هؤلاء المضطرين من أجل تلبية احتياجاتهم إلى بيع ما يملكوه بالفعل وهو قدراتهم وخصائصهم الإنسانية المختلفة ، وهم فى كل الأحوال وبصرف النظر عن قيمة ما يبيعوه، مضطرين للتنازل عن حريتهم و إرادتهم ووقتهم وجهدهم لمن يدفع الثمن أو يجبرهم أو يخدعهم من أجل ذلك، وقد ينظر العلماء منهم أو المثقفين أو أصحاب المواهب الفنية لأنفسهم على أنهم متميزين اجتماعيا، وأنهم ليسوا مثل باقى البروليتاريا من العمال العاديين متجاهلين أن البرجوازية حولت غالبية البشر، لمجرد عبيد مأجورين لمن يدفع أجرهم فى سوق نخاسة ضخم يسمونه المجتمع البشري، وما شعور بعضهم الوهمى بالحرية والتميز إلا لأنهم مجبلون على تجاهل حقيقة أنفسهم، فلا فرق فى الحقيقة على هذا المستوى الملموس من حيث درجة التمتع بالحرية، بين بروليتاري متميز كالعالم أو المثقف وبين العامل العادى الذى لم يجد سوى معرفته أو قدراته أو مواهبه البدنية ليبيعها فى ذلك السوق لمن يدفع الثمن.
تنقسم الحيوانات التى يملكها البشر إلى حيوانات مدربة لإمتاع الناس فى السيرك، وحيوانات للجر، وحيوانات للعمل فى الحقول، وحيوانات لإنتاج الطعام، وهناك حيوانات للترفيه والتسلية تلك المتميزة برفاهيتها وتدليلها حتى عن الكثير من البشر، وبرغم تفاوت حظوظ كل تلك الحيوانات من الرفاهية والشقاء، إلا أن هذا لا ينفى أنها فى النهاية مجرد حيوانات لا تملك إرادتها وحريتها، وقابلة لأن تباع وأن تشترى..والحقيقة أن الفرق بين العبودية الكاملة والعبودية المأجورة، هو كالفرق بين الشقة المملوكة والشقة المؤجرة، العبد يكون مملوكا لسيده بكل ما فيه من خصائص بدنية وذهنية، ولسيده كافة الحقوق عليه ..أما البروليتارى فسيده لا يملك إلا ما يشتريه منه من خصائص بدنية أو ذهنية مقابل ما يدفعه له من أجر، والبروليتارى حر فى أن يبيع ما لديه من بضاعة أو لا يبيع، إلا أن النخاس الذى يضطره لبيع ما لديه دائما هو احتياجاته لضرورات الحياة التى لا يملكها سوى البرجوازى الذى يملك ما يحتاجه البروليتارى.
تصور البرجوازية أن علاقات السوق تلك بكل ما تعنيه وتؤدى إليه من سوقية وابتذال هى العلاقات الطبيعية بين البشر، فيقبل البروليتارى بوضعيته المهينة،على أنها سنة الحياة الطبيعية التى لا مفر منها، خاضعا فى ذلك لشتى الأوهام التى تجعله يقبل باستئناسه، بل ويسعى إليه ما وسعه الجهد، مادام يضمن احتياجاته الضرورية للحياة فلاشيء يعنيه، قامعا بذلك غريزته الطبيعية بالفعل، وهى دافعه للحرية و شعوره بالكرامة والكبرياء، نزوعه لأن يكون حر الإرادة لأن يفعل أو لا يفعل، و أن يفعل ما يفعله بالطريقة التى يريدها، وفى الوقت الذى يحدده .
فقد حررت البرجوازية البشرية من العبودية الكاملة إلا أنها أبقت ورسخت العبودية المأجورة، تلك العبودية التى يتمحور النضال اليسارى الحقيقى من أجل إلغاءها، والانعتاق منها وإدانتها ورفضها، ومن ثم فاليساريين الذين تكيفوا مع تلك العبودية وقبلوها ويدافعون عنها ويرفضون الانعتاق منها ولو لبعض الوقت منها بالعمل التطوعى الحر لا يصح أن ينتسبوا لمعسكر اليسار الذى لديه مفهوما آخر للحياة الإنسانية .
ما يمنحه العمل التطوعى والمتحرر من الاضطرار والتربح المالى من جزاء هو إشباع غريزة الحرية فى الإنسان، ما يشبع كبريائه ويحقق ذاته الإنسانية بالفعل هو أن يكون سيد نفسه والمتحكم فى جسده وذهنه، وما يتحقق به كإنسان وما يجعل لحياته معنى هو أن يتجاوز ما هو حيوانى داخله إلى ما هو إنسانى يميزه، هذا العمل التطوعى المتحرر من عبودية الأجر، و برغم أنه قد يكون تضحية بلا مقابل مادى إلا أنه يمنح من يبذله أضعاف مضاعفة ما قد يمنحه له العمل المأجور من سعادة ومتعة .
يستند اليسار فى رؤيته ومفهومه للحياة التى يناضل من أجل تحققها، على أساس النشاط التطوعى الحر بين البشر المتحررون من كل عبودية و الذين يدخلون فى علاقات تعاونية وتبادلية فيما بينهم لتلبية كافة الاحتياجات الإنسانية المشتركة بينهم، ومع الاعتراف أننا مضطرين الآن للقبول بعبودية العمل المأجور إلى أن يأتى الوقت التى تنتهى فيه هذه العبودية بنهاية البرجوازية، إلا أنه وحتى يأتى ذلك الوقت فعلينا أن نحاول أن نتحرر منها،ونساعد الآخرين على الانعتاق منها قدر استطاعتنا من قلب المجتمع البرجوازى، سواء أكان هذا على نحو فردى أو نحو جماعى تعاونى، وسواء كان هذا بشكل جزئى عبر العمل التطوعى الحر وذلك بجانب العمل المأجور، أو بشكل تام يضمن احتياجات الحياة بعيدا عن الاضطرار للعمل المأجور، سواء أكان هذا العمل التطوعى عاما أم خاصا.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية