ثورة وإصلاح كل يوم
ثورة و إصلاح كل يوم
سامح سعيد عبود
" تشاؤم الواقع يهزمه تفاؤل الإرادة "
أنطونيو جرامشى
ينقسم الحالمون بعالم أفضل يحقق المزيد من الحرية للبشر والمساواة والإخاء فيما بينهم ،ومن أجل المزيد من التقدم الاجتماعى والإنسانى عبر وصولهم للسلطة ، إلى معسكرين رئيسين يعاني المنتمين إليهما من بؤس الاستغراق إما فى أوهام الخيالية أو أوهام الواقعية .
أولهما معسكر ثوريو السلطة والذين باسم اليوتوبيا مازالوا يحلمون بيوم آخر كيوم 14 يوليو 1789 حين اقتحم الثوار سجن الباستيل فى باريس ، أو يوم 7 نوفمبر 1917 حين اقتحم الثوار قصر الشتاء فى بطرسبرج ، ليستولوا على السلطة السياسية ، قاصدين بواسطتها قلب العالم القديم كله رأسا على عقب فورا و لمرة واحدة ، ليبنوا بدلا منه وعبر سلطتهم الثورية مدينتهم الفاضلة ، إلا أنهم سرعان ما وجدوا دائما أن الطريق إلي جنتهم الموعودة لابد وأن يكون عبر جحيم الاستبداد والإرهاب والعنف الذى يأكلهم مثلما يأكل أعدائهم ، وعبر احتكار السلطة التى يفسد دفء مقاعدها ثوريتهم ، وتلوث متطلبات ممارستها طهارتهم ، وتحبط عقباتها تحقيق أحلامهم ، فينتهى الأمر فى النهاية إلى استمرار انقسام المجتمع لطبقة متسلطة (أيا كان اسمها البرجوازيون أو البيروقراطيون ) تحتكر مصادر السلطة المادية محل الطبقة الأخرى (أيا كان اسمها الأرستقراطيون أو البرجوازيون أو البيروقراطيون ) تلك التى أزاحوها بثورتهم ، ولطبقة متسلط عليها من المحرومين من مصادر السلطة المادية ( أيا كان اسمها الأقنان أو البروليتاريا).
بالرغم من أن هذه الوسيلة الثورية نادرة الحدوث عبر التاريخ ، وبالرغم من كونها باهظة الثمن دائما ، فأنها لم تكن الوسيلة الرئيسية و لا الوحيدة التى أدت بالفعل لمزيد من التحرر والمساواة والتقدم للبشر ، أما الذى أدى بشكل أساسى للتطور نحو المزيد من الحرية والمساواة والتقدم بالإضافة إليها، فهى سلسلة تغيرات تدريجية من قلب النظام القديم و من على هامشه حتى تحول تدريجيا و عبرها، لنظام جديد أكثر حرية ومساواة و تقدم ، وكانت هذه التغيرات مع السلطة القائمة أحيانا وضدها أحيانا أخرى ،بواسطتها فى بعض الحالات وفى مواجهتها فى بعض الحالات ، بتغيير من يحوزون السلطة من نخب حاكمة بنخب أخرى وقتا ما ، وبالمساومة معهم والضغط عليهم فى وقت آخر، وبالرغم من ذلك فمازال الحالمين بالثورة للاستيلاء على السلطة كوسيلة وحيدة للتغيير ، ينتظرون ما لا يأتى إلا ليأكلهم أو يفسدهم .
و ثانيهما معسكر إصلاحي السلطة والذين باسم الواقعية مازالوا يراهنون على الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات البرلمانية أو الضغط علي السلطة القائمة لانتزاع إصلاحات منها ، وبالرغم من أن نجاح الإصلاحية من هذا النوع خلال القرنين الماضيين فى تحسين شروط الحياة للبشر ، وتحقيق المزيد من الحرية والمساواة والتقدم وخصوصا فى غرب أوروبا هو حقيقة لا ننكرها، إلا أن الحقيقة الأخرى أنه ما كان هذا الإصلاح ليتم إلا لصالح استمرار العلاقات الاجتماعية القائمة على القهر والاستغلال فى أشكال جديدة أكثر غموضا ولطفا بدلا من الأشكال القديمة الأكثر وضوحا وقسوة ، وأنه تم من أجل حل أزمات الرأسمالية الدورية وتقويتها فى مواجهة أعدائها ، و ما كان ليتم مثل هذا الإصلاح إلا فى ظل توازنات معينة للقوى الاجتماعية محليا و توازنات محددة للقوى الدولية ، قد أرغمتا الرأسمالية على التسليم به.
أن هذا الإصلاح الذى لم يمس جوهر الاستغلال والقهر القائمين كان مرتبطا بتوافر عوامل أخذت تختفى تدريجيا منذ سبعينات القرن الماضى مما أدى بالإصلاحية للتشابه مع الليبرالية، والتماهى معها فذابت الفروق فى البرامج السياسية بين الإصلاحيين وبين الليبراليين ، ومن ثم أصبح قرار الناخب يتوقف على قدرة خبراء الدعاية والتسويق للمرشح فى جذب صوت الناخب لصالحه على أسس شخصية غالبا مادام الناخب لن يجد فروقا برنامجية على نحو جوهرى بين المرشحين ، فضلا عن ظهور عوامل أخرى جديدة أضيفت لعوامل عجز تلك الإصلاحية، أبرزها أنه مازالت السلطة المنوط بها التغيير ، والمستهدف إسقاطها واستبدالها أو الضغط عليها والمساومة معها من أجل التغيير هى سلطة الدولة القومية ، و هى ما ثبت عجزها الآن عن تحقيق أهدافها المرجوة بسبب الخضوع الاضطرارى من قبل حكومات الدول القومية لديكتاتورية أسواق المال العالمية .
مسألة عدم القدرة على الوفاء بالوعود البرنامجية لا علاقة له بأخلاق النخبة السياسية وكذبها وخداعها ، فموقعك فى المعارضة يمكنك من الاكتفاء بالكلام الغير مؤسس على حقائق الواقع والإمكانيات المتاحة لتغييره ، فتستطيع أن تعد جمهورك بما تشاء من وعود ، أما موقعك فى السلطة والمسئولية فيلزمك بالفعل المقيد بحقائق الواقع والإمكانيات المتاحة ،ويضطرك لمخالفة وعودك السابقة برغم كل نواياك الحسنة .
فالإصلاحية فى ظل الظروف الراهنة ليس لديها حلولا عملية ممكنة التحقق لمشكلات الواقع الملموس ، اللهم إلا إذا كان ما تقدمه هو من نوع الكلام العام المجرد ، كمجانية التعليم والعلاج ، والقضاء على البطالة وتوفير السكن وزيادة الأجور وخفض الأسعار ، وغيرها من الأمنيات الجميلة التى يتوقف تحققها الفعلى على ما يمكن أن يتوافر لدى السلطة من أموال ، فالمدارس والمستشفيات والمساكن لا تبنى بمجرد الأمنيات، ومن يعملون بها من مدرسين وأطباء ليسوا متطوعين بلا أجر ، ومن ثم فضمان بعض حقوق الإنسان كمجانية التعليم والعلاج وزيادة الأجور لا يمكن تحقيقها إلا بزيادة الإنفاق العام الذى لا يمكن أن يتأتى إلا بزيادة الموارد العامة ، والتى تأتى إما من زيادة الضرائب ورسوم الجمارك أو من التأميمات والمصادرة للملكيات الخاصة ، و حدوث كليهما الآن فى ظل الظروف الاقتصادية الراهنة لا يوفر مناخ جيد للاستثمار لتوفير مزيد من فرص التوظف درءا للبطالة ، والتى بتفشيها تمثل أداة ضغط على قوى العمل لسحب ما تحوزه من حقوق، وما حققته من مكتسبات ، و بالتالى عدم قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه من مطالب ،والطريقة الثالثة هى إعادة توزيع الإيرادات على المصروفات فى الموازنة العامة ، لتحقيق فوائض مالية للإنفاق على الضمانات الاجتماعية ، وهى ممكن أن تحقق قدر محدود من النجاح على حساب الإنفاق العسكرى والأمنى ومظاهر الترف البيروقراطى وامتيازات كبار رجال الدولة .
طالما لا يمكن تحقيق قدر من التراكم لزيادة الاستثمارات من أجل النمو سوى بتشجيع الاستثمار الخاص الأجنبى أو المحلى ، وطالما لا يمكن تحقيق فوائض لزيادة الإنفاق العام على الضمان الاجتماعى ، فلا مجال لحديث عن إصلاحية جدية وممكنة .
أن ما حدث فى غرب أوروبا فى القرن الماضى وخصوصا ربعه المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية ، والذى يتمسك به المتشبثون بإمكانية الإصلاح عبر الانتخابات كمثل ونموذج بديل فى مواجهة النموذج الثورى المأزوم والمهزوم والفاقد للجاذبية الآن ، كان ممكن الحدوث فقط نظرا لتوافر فوائض الأرباح الاحتكارية ونهب المستعمرات وفوائض فترة الرواج والتشغيل الكامل للعمالة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية ، التى انتهت مع عصر الركود التضخمى والبطالة الهيكلية فى السبعينات، أما ما يحدث الآن فهو سحب تلك الحقوق التى تمتعت بها الطبقات العاملة والمتوسطة طوال فترة دولة الرفاهية تدريجيا ، ومن نافل القول أن مثل هذه الفوائض لا تتوفر بالطبع لدى المجتمعات الفقيرة والمتوسطة الدخل.
إن من يراقب الإصلاحية المنتصرة حديثا و ديمقراطيا فى بلاد أمريكا اللاتينية ، فنزويلا شافيز التى تشعل النيران من تحت قدميه قوى اجتماعية عديدة اضطرته لقمعها دمويا ، لتثبت عجزه عن تحقيق وعوده للجماهير التى انتخبته مع الحفاظ فى نفس الوقت على الديمقراطية التى أوصلته للسلطة ، وهايتى أرستيد الذى رفض فى البداية خصخصة الثروات العامة كما طلب منه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والهيئات المانحة للقروض من الولايات المتحدة. حيث كان قد عاين ما فعلته هذه السياسات بالمعدمين البائسين في العالم الثالث. وفى النهاية قبلها مضطرا مما أدى إلى عدم قدرته على القيام بأي إصلاحات حتى في حدودها الدنيا فسهلت إزاحته من السلطة بواسطة أعداءه ، والبرازيل لولا دا سيلفا، العاجز حتى الآن على تنفيذ برنامج الإصلاح الزراعى الذى وعد به ناخبيه من الفلاحيين المحرومين من الأرض ، والذى طرد أحد الأجنحة الأكثر راديكالية فى حزبه بعد معارضتهم له لعدم تحقيقه لبرنامج الحزب .
فهنا وهناك أكتوي كل من راهن على الإصلاحيين بخيبة الأمل والرجاء بعد أن أخفقت كل تلك الزعامات التى التفت حولها الجماهير صاعدة بها لقمة السلطة فى تحقيق وعودها، خضوعا إما للظروف الواقعية، أو للتناقض بين قلة الموارد وبين ضخامة الوعود ، أو عدم القدرة على إعادة توزيع الثروة بسبب التوازنات الطبقية والدولية ، أو العجز عن اتخاذ قرارات جذرية فى مواجهة تلك الصعوبات مثل التأميمات والمصادرات ، وإما خضوعا لإرادة المؤسسات المالية الدولية ، والرغبة فى استمرار تدفق الاستثمارات وتشجيعها لحل مشاكل التنمية والبطالة .
يتجسد بؤس كلا المعسكرين إذن فى كون أن الأساليب التقليدية لليسار ، ثورية كانت أم إصلاحية عاجزة عن تحقيق الأهداف المنشودة بتلك الوسائل إلا فى حدود وشروط معينة يندر تكرارها ، ولا شك أن هذا العجز يعود إلى الفهم الخاطئ لكل من آليات التغيير الاجتماعى والطبائع البشرية المعقدة.
ولكن هذا لا يعنى القبول باستمرار التسلط والقهر والاستغلال التى تمارسهما البرجوازية والبيروقراطية فى العصر الحديث ،فهذا الاستسلام هو بمثابة خيبة إضافية أخرى تتقنع بالواقعية ، و التى للأسف قد أصبح لها أنصارها المتحمسون الذين يشكلون معسكر الهاربين من معسكر اليسار للمعسكرات الأخرى الليبرالية والمحافظة ،وكأنما أصبحت الرأسمالية والديمقراطية البرجوازية أخيرا غاية المراد من رب العباد ، متناسين أن الرأسمالية كنمط إنتاج مازالت هى المصدر الأساسى لكل هذا الكم من الاستغلال والقهر والاضطهاد و البؤس والحروب والمجاعات وإهدار الموارد الطبيعية والبشرية وسوء توزيع الثروة وتلوث البيئة واغتراب البشر وقهرهم وتخريبهم نفسيا وعقليا وجسديا ، و متجاهلين إن الديمقراطية على النمط البرجوازى هى مجرد لعبة لحسم التنافس بين الشرائح الرأسمالية المختلفة لا يمارسها و لا يستفيد منها و لا يتمتع بها فى الحقيقة إلا من يملك وسائل الإنتاج والثروة والمعرفة والإعلام فى حين يظل المحرومين من السيطرة الفعلية على تلك الوسائل مجرد كومبارس فى تلك المسرحية الهزلية ، وهى منظومة لا علاقة لها بالحرية الفعلية للبشر كأفراد و لا المساواة الحقيقية بينهم ،وإن كانت أفضل بالطبع من الديكتاتورية والفاشية والشمولية، وخطوة أكثر تقدما نحو المزيد من الحرية والمساواة وإن كانت شكلية فى جوهرها .
لاشك أن الهدف النهائي من تحقيق الحد الأقصى الممكن من الحرية الفردية والمساواة بين البشر والتقدم الاجتماعى ، لا يمكن تحقيقه بضربة قاضية لكل معوقات تحققه فى الواقع ، ذلك لأن هذه المعوقات لا تكمن فقط فى علاقات الإنتاج كما يروج لذلك أنصار التفسير الاقتصادى للتاريخ الذين يربطون بين القضاء الفورى على كافة أشكال القهر واللامساواة وبين القضاء على الرأسمالية بتأميم وسائل الإنتاج فحسب ، ولا فى طبيعة السلطة السياسية ، فينتهى الأمر بتغيير الطريقة التى تتولى بها النخبة السياسية السلطة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية ، فالمعوقات التى تعرقل تحقق الحرية الفعلية للبشر والمساواة بينهم أكبر و أعمق من ذلك بكثير، حيث تشمل بالإضافة لما سبق الثقافة والوعى الاجتماعى السائد ، و أخلاقيات الناس وسلوكهم وقيمهم وفهمهم وفلسفتهم للحياة وطرق تفكيرهم ، وهى معوقات تشكلت وتراكمت عبر عشرات القرون من القهر وانعدام المساواة وهيمنة الأوهام والخرافات على البشر ، و لا يمكن القضاء عليها فورا بمجرد الوعظ أو الإرغام ، و إنما تحتاج لتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المحيطة بالبشر لظروف أخرى يتحملون فيها المسئولية الفردية بقدر ما يتمتعون بحريتهم الفردية والمساواة فيما بينهم.
أن التطوّر الاجتماعى لا يأتي دفعة واحدة, ولا يأتي بقرارات سلطوية متعالية على البشر والواقع الاجتماعى , أو بناء على الدوافع المادية فى الواقع فقط . كما أن مجرد وعي "المستغَل" والمقهور لوضعه وظروف استغلاله وقهره غير كافية لاداركه للكيفية التى يتخلص بها من هذا الاستغلال والقهر نهائيا.
لاشك أن المعوقات أمام تحقق الهدف النهائى من الجسامة بحيث لا يمكن إزاحتها إلا عبر تحقيق العديد من الأهداف الأولية و الوسطى ، فأى طريق نقطعه لنصل لغايتنا هو خطوات تجتاز مسافات معينة عبر زمن محدد ، من المنطقى أن نبدأها فورا خطوة خطوة بدلا من الجلوس فى انتظار معجزة اجتيازها بخطوة واحدة ، وهو الأمر الحادث واقعيا بالفعل لو أخذنا التاريخ البشرى المكتوب فى مجمله باعتباره صراع يومى ما بين قوى الحائزين على السلطة و قوى المحرومين من السلطة ، لنعرف أن البشر بالفعل يجتازون الطريق نحو المزيد من الحرية والمساواة والتقدم حتى لو كان هذا الطريق محفوف بالمعوقات والتعرجات والانحناءات التى لا حد لها.
أن مشكلة التغيير بالاستيلاء على السلطة السياسية ، سواء عبر الثورة السياسية أو عبر صناديق الانتخاب ،إنه يظل محدودا وشكليا حيث يعيد إنتاج سلطة القلة المتعالية على غالبية البشر والمنفصلة عن إرادتهم ،ومن ثم لا يقضى مثل هذا النوع من التغيير نهائيا على الانفصال بين الحرية والسلطة ،بل و يكرس استمرار انقسام البشر لحاكمين ومحكومين ، لمسيطرين على وسائل السلطة المادية (الثروة والعنف والمعرفة) ومن ثم محتكرين للسلطة ومحرومين من مصادر السلطة المادية ومن ثم محرومين من الحرية والسلطة ،ومن ثم فكلا الطريقين ليسا الطريقان الصحيحان نحو الحرية والمساواة الفعلية بين البشر.
أن البديل المطروح هو الشروع الجدى والدؤوب فى بناء مجتمع المستقبل من قلب مجتمع الحاضر ، عبر ثورة وإصلاح كل يوم ، منذ الآن وإلى تحقيق الهدف النهائى ، ثورة كل يوم أو الإصلاح اليومى أو ما يطلق عليها بتعبير آخر التحرر الذاتى ، تتم عبر خطوات تستهدف كسب مساحات متزايدة من الحرية والمساواة والتقدم على حساب نقصان مساحات القهر واللامساواة والتخلف ، وهذه ليست عبارات إنشائية أو رؤية خيالية كما يتصورها البعض ، فهى رؤية واقعية مستندة لما يحدث أو يمكن أن يحدث فى الواقع عمليا،وليست مخطط خيالى معد سلفا.
إن من يستنكرون هذا البديل يتناسون مثلا شبيه به غاية فى الوضوح ، وهو قصة نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي من على هامش نمط الإنتاج الإقطاعي، وانتصاره التدريجى خطوة خطوة على نمط الإنتاج الإقطاعي ثم سيادته على الكوكب كله ، ويتناسون كيف أن هؤلاء المهمشون من البرجوازيين فى مدنهم الحرة التى كانت قائمة فيما بين الإقطاعيات، استطاعوا أن يقلبوا كل عالم ما قبل الرأسمالية لعالم رأسمالى عبر خمسة قرون من الزمن تخللتها الثورات السياسية و التمردات العنيفة أحيانا بالطبع، كما سادتها طول الوقت عمليات بناء الأسس المادية لمجتمع المستقبل، و قد ساعدتهم على انتصاراتهم النهائية الثورات العلمية والتكنولوجية والاكتشافات الجغرافية الكبرى، فالحقيقة أن علاقات الإنتاج الإقطاعية لم تنته فجأة فى فرنسا باقتحام سجن الباستيل حيث كانت قد بدأت قصة زوالها قبل ذلك بعهد طويل، واستأنفت ذبولها أيضا بعد تلك الأحداث إلى أن انتهت نهائيا أواسط القرن التاسع عشر ،ولم يمكن للبرجوازيين استلام السلطة من الأرستقراطيين إلا بعد أن أثبتوا أنهم الأكثر جدارة بها لأنهم أصبحوا يملكون المصدر الأهم من مصادرها .
يبدو الحديث السابق شديد الشبه بحديث الاشتراكية التطورية ، ولكن هناك خلاف جوهرى بين الإصلاحية السلطوية التى تتم عبر الوصول لسلطة الدولة بالانتخابات البرلمانية ، التى ثبت فشلها فى القضاء على القهر والاستغلال الرأسماليين نهائيا رغم وصول الإصلاحيين للسلطة السياسية لعشرات السنين فى غرب أوروبا ، وبين إصلاحية وثورية كل يوم التى تقصدها الحركة اللاسلطوية الحديثة والتى تتم فى مواجهة كل من الدولة و رأسالمال فى نفس الوقت بهدف بناء مجتمع المستقبل ، والاختلاف قائم و جوهرى بين الاتجاهين سواء فى الأهداف أو الممارسات، فى الاستراتيجية أو التكتيك ،وهذا ما يمكن توضيحه فيما يلى:
إذا كان اليسار التقليدى سواء أكان إصلاحيا أم ثوريا يستهدف تقوية دور الدولة ، فيوسع ويدعم القطاع العام المملوك للدولة ويدافع عنه ضد الخصخصة الجارية الآن فى كل بلاد العالم ، و يقلص دور المجتمع المدنى و يسيطر عليه و يبقرطه ، فإن اليسار اللاسلطوى على العكس من ذلك تماما يسعى لإضعاف دور الدولة وتقليص سلطاتها ومركزيتها تدريجيا حتى تصل لأقل حد ممكن من المهام السيادية التقليدية قبل أن تذوى نهائيا .
و يناضل فى المقابل من أجل توسيع دور منظمات المجتمع المدنى البروليتارية لأقصى حد ممكن و النضال من أجل استقلالها الفعلى عن كل من الدولة و رأسالمال، ويناضل من أجل ديمقراطية إدارتها وتخليصها مما يعلق بها من شوائب سلطوية كالبيروقراطية أو رأسمالية كاستخدام العمل المأجور ، وفى القلب من ذلك التنظيمات التعاونية المختلفة و كل نشاط إنسانى جماعى منظم بشكل مستقل تماما عن كل من الدولة و رأسالمال بين أفراد متساويين و متعاونين على نحو طوعى قد يكون لبعضها الطابع غير المعلن و الرسمى و المقنن ، و قد يكون بعضها غير معلن و لا رسمى و لا مقنن . ومن ثم دعم المبادرات الجماعية فى إطار أنشطة المجتمع المدنى ، سواء بتأسيسها أو دعم ما هو قائم منها وتطويره أو باقتراحها على المعنيين لتحسين شروط وظروف حياة المحرومين من السلطة على نحو مستقل عن كل من الدولة و رأسالمال ، ودفعهم لتنظيم أنفسهم فى شتى المنظمات المقامة على أسس تعاونية و لا سلطوية لتلبية احتياجاتهم المختلفة فى الإنتاج والخدمات والائتمان والدفاع عن مصالحهم وتحقيق مطالبهم فى مواجهة كل من الرأسمالية والدولة .
فاليسار اللاسلطوى فى أوروبا والأمريكتين خصوصا يؤسس العديد من الكوميونات والتعاونيات على الأسس اللاسلطوية على هامش المجتمع، وبالاستقلال عن كل من الدولة ورأسالمال، كأنوية ونماذج لمجتمع المستقبل كلما كان ذلك متاحا، و يناضل ليثبت للجميع أن هذه هى أفضل الطرق وأكثرها تقدما لممارسة العلاقات الاجتماعية.
ما سبق ذكره هو الخطوة الأساسية فى بناء الأساس المادى لنظام المستقبل إلا أن هذا البناء لا يترسخ و لا يحقق انتصاره إلا بنضال سياسى يستهدف إضعاف النظام الحالى ، بتقليص ما يحوزه من سلطات وقدرات و أدوار ومهام تدريجيا، وذلك عبر تحقيق اقصى درجات الديمقراطية لتقترب من الديمقراطية المباشرة وشبة المباشرة ، ومن أجل الحد الأقصى من اللامركزية الإدارية والفيدرالية والحكم الذاتى فى البلاد الذى يستدعى فيها الأمر ذلك ، وتقليص مهام الدولة للحدود الدنيا الممكنة فى إطار المهام السيادية ، و تقليص وتحجيم البيروقراطية سواء أكانت فى جهاز الدولة أو منظمات المجتمع المدنى لأقصى حد ممكن.
النضال من أجل إدارة أنشطة المجتمع المدنى البروليتارية على أسس لاسلطوية قائمة على الديمقراطية المباشرة ومبادىء التفويض الإدارى ،وزيادة قدرات المنضمين إلى تلك المنظمات على ممارسة النقاش واتخاذ القرارات والتفويض ورقابة المفوضين ومحاسبتهم وذلك من أجل التخلص من تراث امتد لعشرات القرون انفصلت فيها الحرية الفردية عن السلطة فى العلاقات الاجتماعية مما أثر سلبا على قدرة غالبية البشر على الممارسة الصحيحة للديمقراطية والحرية .
النضال لفضح آليات التسلط والهيمنة فى شتى مظاهر الحياة الاجتماعية والإنسانية ومقاومتها ، لنقد الوعى الاجتماعى السلطوى وتفنيد منطقه وفلسفته وفضح وسائله وكشف غاياته ، لخلق وعى اجتماعى بديل ونشره بين الغالبية.
لا شك أنه ستتخلل هذه العملية الطويلة والممتدة تمردات وثورات ،إلا أنه لا يفضل إطلاقا أن تأتى إلا وقد تحولت قلاع البورجوازية والبيروقراطية الصلبة لقلاع من قش محاصرة بحشود قوية من منظمات المجتمع المدنى البروليتارية والكوميونات والتعاونيات المؤسسة على الأسس اللاسلطوية ليكون ذلك هو الفاصل الختامى فى هذا الطريق الطويل من النضال ،فلو فهمنا الثورة ليس كمجرد حدث بل كل تغيير فى المجتمع، فالثورة قائمة بالفعل تحتاج لمزيد من النضال لاستمرارها ،أنها ثورة و إصلاح كل يوم الممكن والمتاح بالفعل.
" تشاؤم الواقع يهزمه تفاؤل الإرادة "
أنطونيو جرامشى
ينقسم الحالمون بعالم أفضل يحقق المزيد من الحرية للبشر والمساواة والإخاء فيما بينهم ،ومن أجل المزيد من التقدم الاجتماعى والإنسانى عبر وصولهم للسلطة ، إلى معسكرين رئيسين يعاني المنتمين إليهما من بؤس الاستغراق إما فى أوهام الخيالية أو أوهام الواقعية .
أولهما معسكر ثوريو السلطة والذين باسم اليوتوبيا مازالوا يحلمون بيوم آخر كيوم 14 يوليو 1789 حين اقتحم الثوار سجن الباستيل فى باريس ، أو يوم 7 نوفمبر 1917 حين اقتحم الثوار قصر الشتاء فى بطرسبرج ، ليستولوا على السلطة السياسية ، قاصدين بواسطتها قلب العالم القديم كله رأسا على عقب فورا و لمرة واحدة ، ليبنوا بدلا منه وعبر سلطتهم الثورية مدينتهم الفاضلة ، إلا أنهم سرعان ما وجدوا دائما أن الطريق إلي جنتهم الموعودة لابد وأن يكون عبر جحيم الاستبداد والإرهاب والعنف الذى يأكلهم مثلما يأكل أعدائهم ، وعبر احتكار السلطة التى يفسد دفء مقاعدها ثوريتهم ، وتلوث متطلبات ممارستها طهارتهم ، وتحبط عقباتها تحقيق أحلامهم ، فينتهى الأمر فى النهاية إلى استمرار انقسام المجتمع لطبقة متسلطة (أيا كان اسمها البرجوازيون أو البيروقراطيون ) تحتكر مصادر السلطة المادية محل الطبقة الأخرى (أيا كان اسمها الأرستقراطيون أو البرجوازيون أو البيروقراطيون ) تلك التى أزاحوها بثورتهم ، ولطبقة متسلط عليها من المحرومين من مصادر السلطة المادية ( أيا كان اسمها الأقنان أو البروليتاريا).
بالرغم من أن هذه الوسيلة الثورية نادرة الحدوث عبر التاريخ ، وبالرغم من كونها باهظة الثمن دائما ، فأنها لم تكن الوسيلة الرئيسية و لا الوحيدة التى أدت بالفعل لمزيد من التحرر والمساواة والتقدم للبشر ، أما الذى أدى بشكل أساسى للتطور نحو المزيد من الحرية والمساواة والتقدم بالإضافة إليها، فهى سلسلة تغيرات تدريجية من قلب النظام القديم و من على هامشه حتى تحول تدريجيا و عبرها، لنظام جديد أكثر حرية ومساواة و تقدم ، وكانت هذه التغيرات مع السلطة القائمة أحيانا وضدها أحيانا أخرى ،بواسطتها فى بعض الحالات وفى مواجهتها فى بعض الحالات ، بتغيير من يحوزون السلطة من نخب حاكمة بنخب أخرى وقتا ما ، وبالمساومة معهم والضغط عليهم فى وقت آخر، وبالرغم من ذلك فمازال الحالمين بالثورة للاستيلاء على السلطة كوسيلة وحيدة للتغيير ، ينتظرون ما لا يأتى إلا ليأكلهم أو يفسدهم .
و ثانيهما معسكر إصلاحي السلطة والذين باسم الواقعية مازالوا يراهنون على الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات البرلمانية أو الضغط علي السلطة القائمة لانتزاع إصلاحات منها ، وبالرغم من أن نجاح الإصلاحية من هذا النوع خلال القرنين الماضيين فى تحسين شروط الحياة للبشر ، وتحقيق المزيد من الحرية والمساواة والتقدم وخصوصا فى غرب أوروبا هو حقيقة لا ننكرها، إلا أن الحقيقة الأخرى أنه ما كان هذا الإصلاح ليتم إلا لصالح استمرار العلاقات الاجتماعية القائمة على القهر والاستغلال فى أشكال جديدة أكثر غموضا ولطفا بدلا من الأشكال القديمة الأكثر وضوحا وقسوة ، وأنه تم من أجل حل أزمات الرأسمالية الدورية وتقويتها فى مواجهة أعدائها ، و ما كان ليتم مثل هذا الإصلاح إلا فى ظل توازنات معينة للقوى الاجتماعية محليا و توازنات محددة للقوى الدولية ، قد أرغمتا الرأسمالية على التسليم به.
أن هذا الإصلاح الذى لم يمس جوهر الاستغلال والقهر القائمين كان مرتبطا بتوافر عوامل أخذت تختفى تدريجيا منذ سبعينات القرن الماضى مما أدى بالإصلاحية للتشابه مع الليبرالية، والتماهى معها فذابت الفروق فى البرامج السياسية بين الإصلاحيين وبين الليبراليين ، ومن ثم أصبح قرار الناخب يتوقف على قدرة خبراء الدعاية والتسويق للمرشح فى جذب صوت الناخب لصالحه على أسس شخصية غالبا مادام الناخب لن يجد فروقا برنامجية على نحو جوهرى بين المرشحين ، فضلا عن ظهور عوامل أخرى جديدة أضيفت لعوامل عجز تلك الإصلاحية، أبرزها أنه مازالت السلطة المنوط بها التغيير ، والمستهدف إسقاطها واستبدالها أو الضغط عليها والمساومة معها من أجل التغيير هى سلطة الدولة القومية ، و هى ما ثبت عجزها الآن عن تحقيق أهدافها المرجوة بسبب الخضوع الاضطرارى من قبل حكومات الدول القومية لديكتاتورية أسواق المال العالمية .
مسألة عدم القدرة على الوفاء بالوعود البرنامجية لا علاقة له بأخلاق النخبة السياسية وكذبها وخداعها ، فموقعك فى المعارضة يمكنك من الاكتفاء بالكلام الغير مؤسس على حقائق الواقع والإمكانيات المتاحة لتغييره ، فتستطيع أن تعد جمهورك بما تشاء من وعود ، أما موقعك فى السلطة والمسئولية فيلزمك بالفعل المقيد بحقائق الواقع والإمكانيات المتاحة ،ويضطرك لمخالفة وعودك السابقة برغم كل نواياك الحسنة .
فالإصلاحية فى ظل الظروف الراهنة ليس لديها حلولا عملية ممكنة التحقق لمشكلات الواقع الملموس ، اللهم إلا إذا كان ما تقدمه هو من نوع الكلام العام المجرد ، كمجانية التعليم والعلاج ، والقضاء على البطالة وتوفير السكن وزيادة الأجور وخفض الأسعار ، وغيرها من الأمنيات الجميلة التى يتوقف تحققها الفعلى على ما يمكن أن يتوافر لدى السلطة من أموال ، فالمدارس والمستشفيات والمساكن لا تبنى بمجرد الأمنيات، ومن يعملون بها من مدرسين وأطباء ليسوا متطوعين بلا أجر ، ومن ثم فضمان بعض حقوق الإنسان كمجانية التعليم والعلاج وزيادة الأجور لا يمكن تحقيقها إلا بزيادة الإنفاق العام الذى لا يمكن أن يتأتى إلا بزيادة الموارد العامة ، والتى تأتى إما من زيادة الضرائب ورسوم الجمارك أو من التأميمات والمصادرة للملكيات الخاصة ، و حدوث كليهما الآن فى ظل الظروف الاقتصادية الراهنة لا يوفر مناخ جيد للاستثمار لتوفير مزيد من فرص التوظف درءا للبطالة ، والتى بتفشيها تمثل أداة ضغط على قوى العمل لسحب ما تحوزه من حقوق، وما حققته من مكتسبات ، و بالتالى عدم قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه من مطالب ،والطريقة الثالثة هى إعادة توزيع الإيرادات على المصروفات فى الموازنة العامة ، لتحقيق فوائض مالية للإنفاق على الضمانات الاجتماعية ، وهى ممكن أن تحقق قدر محدود من النجاح على حساب الإنفاق العسكرى والأمنى ومظاهر الترف البيروقراطى وامتيازات كبار رجال الدولة .
طالما لا يمكن تحقيق قدر من التراكم لزيادة الاستثمارات من أجل النمو سوى بتشجيع الاستثمار الخاص الأجنبى أو المحلى ، وطالما لا يمكن تحقيق فوائض لزيادة الإنفاق العام على الضمان الاجتماعى ، فلا مجال لحديث عن إصلاحية جدية وممكنة .
أن ما حدث فى غرب أوروبا فى القرن الماضى وخصوصا ربعه المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية ، والذى يتمسك به المتشبثون بإمكانية الإصلاح عبر الانتخابات كمثل ونموذج بديل فى مواجهة النموذج الثورى المأزوم والمهزوم والفاقد للجاذبية الآن ، كان ممكن الحدوث فقط نظرا لتوافر فوائض الأرباح الاحتكارية ونهب المستعمرات وفوائض فترة الرواج والتشغيل الكامل للعمالة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية ، التى انتهت مع عصر الركود التضخمى والبطالة الهيكلية فى السبعينات، أما ما يحدث الآن فهو سحب تلك الحقوق التى تمتعت بها الطبقات العاملة والمتوسطة طوال فترة دولة الرفاهية تدريجيا ، ومن نافل القول أن مثل هذه الفوائض لا تتوفر بالطبع لدى المجتمعات الفقيرة والمتوسطة الدخل.
إن من يراقب الإصلاحية المنتصرة حديثا و ديمقراطيا فى بلاد أمريكا اللاتينية ، فنزويلا شافيز التى تشعل النيران من تحت قدميه قوى اجتماعية عديدة اضطرته لقمعها دمويا ، لتثبت عجزه عن تحقيق وعوده للجماهير التى انتخبته مع الحفاظ فى نفس الوقت على الديمقراطية التى أوصلته للسلطة ، وهايتى أرستيد الذى رفض فى البداية خصخصة الثروات العامة كما طلب منه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والهيئات المانحة للقروض من الولايات المتحدة. حيث كان قد عاين ما فعلته هذه السياسات بالمعدمين البائسين في العالم الثالث. وفى النهاية قبلها مضطرا مما أدى إلى عدم قدرته على القيام بأي إصلاحات حتى في حدودها الدنيا فسهلت إزاحته من السلطة بواسطة أعداءه ، والبرازيل لولا دا سيلفا، العاجز حتى الآن على تنفيذ برنامج الإصلاح الزراعى الذى وعد به ناخبيه من الفلاحيين المحرومين من الأرض ، والذى طرد أحد الأجنحة الأكثر راديكالية فى حزبه بعد معارضتهم له لعدم تحقيقه لبرنامج الحزب .
فهنا وهناك أكتوي كل من راهن على الإصلاحيين بخيبة الأمل والرجاء بعد أن أخفقت كل تلك الزعامات التى التفت حولها الجماهير صاعدة بها لقمة السلطة فى تحقيق وعودها، خضوعا إما للظروف الواقعية، أو للتناقض بين قلة الموارد وبين ضخامة الوعود ، أو عدم القدرة على إعادة توزيع الثروة بسبب التوازنات الطبقية والدولية ، أو العجز عن اتخاذ قرارات جذرية فى مواجهة تلك الصعوبات مثل التأميمات والمصادرات ، وإما خضوعا لإرادة المؤسسات المالية الدولية ، والرغبة فى استمرار تدفق الاستثمارات وتشجيعها لحل مشاكل التنمية والبطالة .
يتجسد بؤس كلا المعسكرين إذن فى كون أن الأساليب التقليدية لليسار ، ثورية كانت أم إصلاحية عاجزة عن تحقيق الأهداف المنشودة بتلك الوسائل إلا فى حدود وشروط معينة يندر تكرارها ، ولا شك أن هذا العجز يعود إلى الفهم الخاطئ لكل من آليات التغيير الاجتماعى والطبائع البشرية المعقدة.
ولكن هذا لا يعنى القبول باستمرار التسلط والقهر والاستغلال التى تمارسهما البرجوازية والبيروقراطية فى العصر الحديث ،فهذا الاستسلام هو بمثابة خيبة إضافية أخرى تتقنع بالواقعية ، و التى للأسف قد أصبح لها أنصارها المتحمسون الذين يشكلون معسكر الهاربين من معسكر اليسار للمعسكرات الأخرى الليبرالية والمحافظة ،وكأنما أصبحت الرأسمالية والديمقراطية البرجوازية أخيرا غاية المراد من رب العباد ، متناسين أن الرأسمالية كنمط إنتاج مازالت هى المصدر الأساسى لكل هذا الكم من الاستغلال والقهر والاضطهاد و البؤس والحروب والمجاعات وإهدار الموارد الطبيعية والبشرية وسوء توزيع الثروة وتلوث البيئة واغتراب البشر وقهرهم وتخريبهم نفسيا وعقليا وجسديا ، و متجاهلين إن الديمقراطية على النمط البرجوازى هى مجرد لعبة لحسم التنافس بين الشرائح الرأسمالية المختلفة لا يمارسها و لا يستفيد منها و لا يتمتع بها فى الحقيقة إلا من يملك وسائل الإنتاج والثروة والمعرفة والإعلام فى حين يظل المحرومين من السيطرة الفعلية على تلك الوسائل مجرد كومبارس فى تلك المسرحية الهزلية ، وهى منظومة لا علاقة لها بالحرية الفعلية للبشر كأفراد و لا المساواة الحقيقية بينهم ،وإن كانت أفضل بالطبع من الديكتاتورية والفاشية والشمولية، وخطوة أكثر تقدما نحو المزيد من الحرية والمساواة وإن كانت شكلية فى جوهرها .
لاشك أن الهدف النهائي من تحقيق الحد الأقصى الممكن من الحرية الفردية والمساواة بين البشر والتقدم الاجتماعى ، لا يمكن تحقيقه بضربة قاضية لكل معوقات تحققه فى الواقع ، ذلك لأن هذه المعوقات لا تكمن فقط فى علاقات الإنتاج كما يروج لذلك أنصار التفسير الاقتصادى للتاريخ الذين يربطون بين القضاء الفورى على كافة أشكال القهر واللامساواة وبين القضاء على الرأسمالية بتأميم وسائل الإنتاج فحسب ، ولا فى طبيعة السلطة السياسية ، فينتهى الأمر بتغيير الطريقة التى تتولى بها النخبة السياسية السلطة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية ، فالمعوقات التى تعرقل تحقق الحرية الفعلية للبشر والمساواة بينهم أكبر و أعمق من ذلك بكثير، حيث تشمل بالإضافة لما سبق الثقافة والوعى الاجتماعى السائد ، و أخلاقيات الناس وسلوكهم وقيمهم وفهمهم وفلسفتهم للحياة وطرق تفكيرهم ، وهى معوقات تشكلت وتراكمت عبر عشرات القرون من القهر وانعدام المساواة وهيمنة الأوهام والخرافات على البشر ، و لا يمكن القضاء عليها فورا بمجرد الوعظ أو الإرغام ، و إنما تحتاج لتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المحيطة بالبشر لظروف أخرى يتحملون فيها المسئولية الفردية بقدر ما يتمتعون بحريتهم الفردية والمساواة فيما بينهم.
أن التطوّر الاجتماعى لا يأتي دفعة واحدة, ولا يأتي بقرارات سلطوية متعالية على البشر والواقع الاجتماعى , أو بناء على الدوافع المادية فى الواقع فقط . كما أن مجرد وعي "المستغَل" والمقهور لوضعه وظروف استغلاله وقهره غير كافية لاداركه للكيفية التى يتخلص بها من هذا الاستغلال والقهر نهائيا.
لاشك أن المعوقات أمام تحقق الهدف النهائى من الجسامة بحيث لا يمكن إزاحتها إلا عبر تحقيق العديد من الأهداف الأولية و الوسطى ، فأى طريق نقطعه لنصل لغايتنا هو خطوات تجتاز مسافات معينة عبر زمن محدد ، من المنطقى أن نبدأها فورا خطوة خطوة بدلا من الجلوس فى انتظار معجزة اجتيازها بخطوة واحدة ، وهو الأمر الحادث واقعيا بالفعل لو أخذنا التاريخ البشرى المكتوب فى مجمله باعتباره صراع يومى ما بين قوى الحائزين على السلطة و قوى المحرومين من السلطة ، لنعرف أن البشر بالفعل يجتازون الطريق نحو المزيد من الحرية والمساواة والتقدم حتى لو كان هذا الطريق محفوف بالمعوقات والتعرجات والانحناءات التى لا حد لها.
أن مشكلة التغيير بالاستيلاء على السلطة السياسية ، سواء عبر الثورة السياسية أو عبر صناديق الانتخاب ،إنه يظل محدودا وشكليا حيث يعيد إنتاج سلطة القلة المتعالية على غالبية البشر والمنفصلة عن إرادتهم ،ومن ثم لا يقضى مثل هذا النوع من التغيير نهائيا على الانفصال بين الحرية والسلطة ،بل و يكرس استمرار انقسام البشر لحاكمين ومحكومين ، لمسيطرين على وسائل السلطة المادية (الثروة والعنف والمعرفة) ومن ثم محتكرين للسلطة ومحرومين من مصادر السلطة المادية ومن ثم محرومين من الحرية والسلطة ،ومن ثم فكلا الطريقين ليسا الطريقان الصحيحان نحو الحرية والمساواة الفعلية بين البشر.
أن البديل المطروح هو الشروع الجدى والدؤوب فى بناء مجتمع المستقبل من قلب مجتمع الحاضر ، عبر ثورة وإصلاح كل يوم ، منذ الآن وإلى تحقيق الهدف النهائى ، ثورة كل يوم أو الإصلاح اليومى أو ما يطلق عليها بتعبير آخر التحرر الذاتى ، تتم عبر خطوات تستهدف كسب مساحات متزايدة من الحرية والمساواة والتقدم على حساب نقصان مساحات القهر واللامساواة والتخلف ، وهذه ليست عبارات إنشائية أو رؤية خيالية كما يتصورها البعض ، فهى رؤية واقعية مستندة لما يحدث أو يمكن أن يحدث فى الواقع عمليا،وليست مخطط خيالى معد سلفا.
إن من يستنكرون هذا البديل يتناسون مثلا شبيه به غاية فى الوضوح ، وهو قصة نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي من على هامش نمط الإنتاج الإقطاعي، وانتصاره التدريجى خطوة خطوة على نمط الإنتاج الإقطاعي ثم سيادته على الكوكب كله ، ويتناسون كيف أن هؤلاء المهمشون من البرجوازيين فى مدنهم الحرة التى كانت قائمة فيما بين الإقطاعيات، استطاعوا أن يقلبوا كل عالم ما قبل الرأسمالية لعالم رأسمالى عبر خمسة قرون من الزمن تخللتها الثورات السياسية و التمردات العنيفة أحيانا بالطبع، كما سادتها طول الوقت عمليات بناء الأسس المادية لمجتمع المستقبل، و قد ساعدتهم على انتصاراتهم النهائية الثورات العلمية والتكنولوجية والاكتشافات الجغرافية الكبرى، فالحقيقة أن علاقات الإنتاج الإقطاعية لم تنته فجأة فى فرنسا باقتحام سجن الباستيل حيث كانت قد بدأت قصة زوالها قبل ذلك بعهد طويل، واستأنفت ذبولها أيضا بعد تلك الأحداث إلى أن انتهت نهائيا أواسط القرن التاسع عشر ،ولم يمكن للبرجوازيين استلام السلطة من الأرستقراطيين إلا بعد أن أثبتوا أنهم الأكثر جدارة بها لأنهم أصبحوا يملكون المصدر الأهم من مصادرها .
يبدو الحديث السابق شديد الشبه بحديث الاشتراكية التطورية ، ولكن هناك خلاف جوهرى بين الإصلاحية السلطوية التى تتم عبر الوصول لسلطة الدولة بالانتخابات البرلمانية ، التى ثبت فشلها فى القضاء على القهر والاستغلال الرأسماليين نهائيا رغم وصول الإصلاحيين للسلطة السياسية لعشرات السنين فى غرب أوروبا ، وبين إصلاحية وثورية كل يوم التى تقصدها الحركة اللاسلطوية الحديثة والتى تتم فى مواجهة كل من الدولة و رأسالمال فى نفس الوقت بهدف بناء مجتمع المستقبل ، والاختلاف قائم و جوهرى بين الاتجاهين سواء فى الأهداف أو الممارسات، فى الاستراتيجية أو التكتيك ،وهذا ما يمكن توضيحه فيما يلى:
إذا كان اليسار التقليدى سواء أكان إصلاحيا أم ثوريا يستهدف تقوية دور الدولة ، فيوسع ويدعم القطاع العام المملوك للدولة ويدافع عنه ضد الخصخصة الجارية الآن فى كل بلاد العالم ، و يقلص دور المجتمع المدنى و يسيطر عليه و يبقرطه ، فإن اليسار اللاسلطوى على العكس من ذلك تماما يسعى لإضعاف دور الدولة وتقليص سلطاتها ومركزيتها تدريجيا حتى تصل لأقل حد ممكن من المهام السيادية التقليدية قبل أن تذوى نهائيا .
و يناضل فى المقابل من أجل توسيع دور منظمات المجتمع المدنى البروليتارية لأقصى حد ممكن و النضال من أجل استقلالها الفعلى عن كل من الدولة و رأسالمال، ويناضل من أجل ديمقراطية إدارتها وتخليصها مما يعلق بها من شوائب سلطوية كالبيروقراطية أو رأسمالية كاستخدام العمل المأجور ، وفى القلب من ذلك التنظيمات التعاونية المختلفة و كل نشاط إنسانى جماعى منظم بشكل مستقل تماما عن كل من الدولة و رأسالمال بين أفراد متساويين و متعاونين على نحو طوعى قد يكون لبعضها الطابع غير المعلن و الرسمى و المقنن ، و قد يكون بعضها غير معلن و لا رسمى و لا مقنن . ومن ثم دعم المبادرات الجماعية فى إطار أنشطة المجتمع المدنى ، سواء بتأسيسها أو دعم ما هو قائم منها وتطويره أو باقتراحها على المعنيين لتحسين شروط وظروف حياة المحرومين من السلطة على نحو مستقل عن كل من الدولة و رأسالمال ، ودفعهم لتنظيم أنفسهم فى شتى المنظمات المقامة على أسس تعاونية و لا سلطوية لتلبية احتياجاتهم المختلفة فى الإنتاج والخدمات والائتمان والدفاع عن مصالحهم وتحقيق مطالبهم فى مواجهة كل من الرأسمالية والدولة .
فاليسار اللاسلطوى فى أوروبا والأمريكتين خصوصا يؤسس العديد من الكوميونات والتعاونيات على الأسس اللاسلطوية على هامش المجتمع، وبالاستقلال عن كل من الدولة ورأسالمال، كأنوية ونماذج لمجتمع المستقبل كلما كان ذلك متاحا، و يناضل ليثبت للجميع أن هذه هى أفضل الطرق وأكثرها تقدما لممارسة العلاقات الاجتماعية.
ما سبق ذكره هو الخطوة الأساسية فى بناء الأساس المادى لنظام المستقبل إلا أن هذا البناء لا يترسخ و لا يحقق انتصاره إلا بنضال سياسى يستهدف إضعاف النظام الحالى ، بتقليص ما يحوزه من سلطات وقدرات و أدوار ومهام تدريجيا، وذلك عبر تحقيق اقصى درجات الديمقراطية لتقترب من الديمقراطية المباشرة وشبة المباشرة ، ومن أجل الحد الأقصى من اللامركزية الإدارية والفيدرالية والحكم الذاتى فى البلاد الذى يستدعى فيها الأمر ذلك ، وتقليص مهام الدولة للحدود الدنيا الممكنة فى إطار المهام السيادية ، و تقليص وتحجيم البيروقراطية سواء أكانت فى جهاز الدولة أو منظمات المجتمع المدنى لأقصى حد ممكن.
النضال من أجل إدارة أنشطة المجتمع المدنى البروليتارية على أسس لاسلطوية قائمة على الديمقراطية المباشرة ومبادىء التفويض الإدارى ،وزيادة قدرات المنضمين إلى تلك المنظمات على ممارسة النقاش واتخاذ القرارات والتفويض ورقابة المفوضين ومحاسبتهم وذلك من أجل التخلص من تراث امتد لعشرات القرون انفصلت فيها الحرية الفردية عن السلطة فى العلاقات الاجتماعية مما أثر سلبا على قدرة غالبية البشر على الممارسة الصحيحة للديمقراطية والحرية .
النضال لفضح آليات التسلط والهيمنة فى شتى مظاهر الحياة الاجتماعية والإنسانية ومقاومتها ، لنقد الوعى الاجتماعى السلطوى وتفنيد منطقه وفلسفته وفضح وسائله وكشف غاياته ، لخلق وعى اجتماعى بديل ونشره بين الغالبية.
لا شك أنه ستتخلل هذه العملية الطويلة والممتدة تمردات وثورات ،إلا أنه لا يفضل إطلاقا أن تأتى إلا وقد تحولت قلاع البورجوازية والبيروقراطية الصلبة لقلاع من قش محاصرة بحشود قوية من منظمات المجتمع المدنى البروليتارية والكوميونات والتعاونيات المؤسسة على الأسس اللاسلطوية ليكون ذلك هو الفاصل الختامى فى هذا الطريق الطويل من النضال ،فلو فهمنا الثورة ليس كمجرد حدث بل كل تغيير فى المجتمع، فالثورة قائمة بالفعل تحتاج لمزيد من النضال لاستمرارها ،أنها ثورة و إصلاح كل يوم الممكن والمتاح بالفعل.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية