الخميس، 17 يوليو 2008

ما هو الزائف ؟ و ما هو الحقيقى؟ فى"الإمبريالية"

ما هو الزائف ؟ و ما هو الحقيقى؟ فى"الإمبريالية"
سامح سعيد عبود
حتى نزيل الغموض من حول مصطلح الإمبريالية، علينا أن نترجمه إلى معناه باللغة العربية و هو "الإمبراطورية"، و من هنا يمكن أن نفهم الإمبراطورية " الإمبريالية " بأنها توسع فى هيمنة إحدى مؤسسات السلطة فى المجتمع البشرى، تلك المؤسسات التى تسيطر على إحدى أو كل مصادر السلطة المادية، وهى الثروة المادية والعنف المادى والعنف المعنوى ووسائل المعرفة، فمن يسيطر على مصادر واسعة للسلطة المادية يصبح إمبراطورية قد تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.
الإمبراطورية هى إمكانية قائمة و كامنة لدى كل مؤسسات السلطة المختلفة إلا أنها تصبح واقعا ماديا ملموسا عندما تستطيع بعض هذه المؤسسات أن توسع من سيطرتها على مصادر السلطة المادية سواء أكانت الثروة أو العنف أو المعرفة لتحقق تضخمها الذى يمنحها صفة الإمبراطورية تمييزا لها عن المؤسسات الأخرى التى فشلت فى تحقيق هذا التوسع، و عملية التحول لإمبراطورية غالبا ما تكون بالاستيلاء على ما تحوزه المؤسسات الأخرى المنافسة لها من مصادر للسلطة المادية، و التى تفترسها المؤسسات المنتصرة لتصبح جزءا من الإمبراطورية.
الإمبراطورية هى نتيجة لصراع بين متنافسين لديهم نفس الإمكانية فى التحول لإمبراطورية، و عبر الصراع فيما بينهم فأن بعضهم يحقق انتصارا ليصبح إمبراطورية، والآخر تلحق به الهزيمة، فيموت أو يتم ابتلاعه من المنتصر، و هذا يحتمل كافة أشكال الصراع من الحروب والمؤمرات والغزو ..الخ ، هكذا تحولت مؤسسة سلطة سياسية كانت مجرد دولة مدينة كروما لدولة إمبراطورية هائلة حول البحر المتوسط، وهكذا أسست جيوش المغول والعرب والترك إمبراطورياتها، وليست عملية التحول لإمبراطورية قاصرة على الدول باعتبارها مؤسسات السلطة السياسية العامة التى تحتكر العنف فى المجتمع البشرى، إلا أن المؤسسات الرأسمالية باعتبارها مؤسسات سلطة اقتصادية فيما يتعلق بالإنتاج المادى ، والمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية أيضا فى مجال ممارسة سلطتها المعرفية عبر تشكيل الوعى الاجتماعى تتحول لإمبراطوريات ، فكما لدينا إمبراطوريات الكوكا كولا والماكروسوفت كأمبراطوريات اقتصادية، فلدينا إمبراطوريات الCNN و مردوخ كأمبراطوريات معرفية.
الإمبراطورية هى ميل غريزى لدى كل مؤسسات السلطة البشرية، و من ثم فهى ميل غريزى أيضا للمشروع الرأسمالى الذى لا يهدف سوى للربح على حساب قوة العمل، وعلى حساب المشاريع الرأسمالية المنافسة له، و هذا الميل الغريزى لا يمكن فصله عن المشروع الرأسمالى الذى يتصف به، كما لا يمكن فصل الجوع كغريزة عن الكائن الحى، ومن ثم فلا يمكن فصل الميل الغريزى نحو التحول لإمبراطورية عن أى مؤسسة رأسمالية سياسية أو اقتصادية، فمن هذا الفصل تحديدا ينبع الاستخدام الزائف لمصطلح الإمبريالية، و من ثم التحدث عن الإمبريالية كما لو كانت شيئا مختلفا عن الرأسمالية كنمط إنتاج و كحضارة، فنحن لا نقول جوع الأسد أكل الغزال، ولكن نقول الأسد أكل الغزال بسبب جوعه.
الفصل ما بين الإمبراطورية والرأسمالية يخلق سلسلة من الأوهام حول إمكانية وجود رأسمالية بدون إمبريالية، أو أن الإمبريالية ظاهرة مستقلة عن الرأسمالية، أو أن الإمبريالية هى مجرد مرحلة عليا فى التطور الرأسمالى كما افترض لينين، أو أن الإمبريالية هى مجرد غزو واحتلال عسكرى بهدف الهيمنة على المستعمرات ونهبها، والحقيقة أن الميل الإمبراطورى للرأسمالية كحضارة أدى لصراعات حادة بدءا من الحروب العسكرية إلى الحروب التجارية، داخل كل مجتمع محلى، وعلى النطاق العالمى أيضا،على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بين مؤسسات السلطة الرأسمالية المختلفة والمتنافسه،سواء أكانت دول أو جيوش أو مشاريع رأسمالية ، وعبر هذا الصراع بين المتنافسين تم ابتلاع المهزومين الضعفاء و الأكثر تخلفا، و تم توسيع مجال سيطرة المنتصرين الأقوياء و الأكثر تقدما، مشكلين فى النهاية إمبراطورياتهم ، وانتهى هذا الصراع فى لحظة منه إلى تحول الرأسمالية من مجرد نمط انتاج محصور فى بعض مدن غرب أوروبا إلى حضارة واحدة عالمية عبر الكوكب بأسره، و لأول مرة فى التاريخ اندمج كل البشر فى نظام عالمى واحد يتم فيه انتزاع فائض القيمة من قوة العمل على نطاق عالمى، وهذا هو أحد أهم انجازات الرأسمالية تقدما، والذى ما كان ليحدث لولا ميلها الإمبراطورى تحديدا.
الميل الإمبراطورى للمؤسسات الرأسمالية المختلفة يخلق صراعات ثانوية فيما بين مؤسسات السلطة، فيتنافس أصحاب مصانع النسيج فى انجلترا فيما بينهم كما يتنافسون مع أصحاب مصانع النسيج فى مصر من أجل الحصول على قسم أكبر من السوق،ويستخدم أصحاب مصانع النسيج دولهم لكى تدعمهم فى تلك المنافسة،فتمارس الغزو العسكرى والحماية الجمركية وغيرها من الأساليب، وينتهى الأمر بخروج بعض أصحاب مصانع النسيج من حلبة المنافسة، وفى نفس الوقت تتضخم ثروات البعض الآخر، ولو تأملنا النتيجة سنجد أن من يستمر وتضخم ثروته هو الأكثر استخداما لقوى أكثر تقدما فى الإنتاج..إلا أن الصراع الجوهرى القائم هو بين هؤلاء الرأسماليين وبين العمال فى كلا البلدين، ذلك أن أرباح كل هؤلاء الرأسماليين بصرف النظر عن جنسياتهم و بلدانهم تأتى من انتزاع فائض القيمة من العمال بصرف النظر عن جنسياتهم، وهذا هو جوهر الاستغلال الرأسمالى.وليس على العمال فى أى بلد الانحياز لطرف ضد طرف آخر فى هذه الصراعات الثانوية، فمصلحتهم المؤكدة هى فى التخلص منهم جميعا. والصراع الذى يجب أن يعنيهم بحق هو الصراع الأساسى فيما بينهم وبين مؤسسات السلطة التى تقهرهم وتستغلهم.
الفصل الزائف ما بين الإمبراطورية والرأسمالية هو الذى أدخل سلسلة من المفاهيم البرجوازية فى الحركة العمالية العالمية مثل مفاهيم التحرر الوطنى والتنمية المستقلة و أكذوبة البرجوازيات الوطنية المعادية للإمبريالية، تلك البرجوازيات المحلية التى يفترض أصحاب تلك المفاهيم أنه يجب أن تتحالف معها الطبقة العاملة المحلية كمرحلة أولى فى طريق تحررها، والخدعة الجلية فى تلك الترسانة من المفاهيم ، هو أن تلك البرجوازيات الوطنية المحلية والموصوفة أيضا لدى البعض بالتقدمية رغم تخلفها وضعفها غالبا، تريد الاستقواء بطبقتها العاملة المحلية فى مواجهة منافسيها من الرأسماليين الأجانب لا غير على أساس عشائرى، ومن ثم خلقت هذه المفاهيم وروجت لها كى تنفرد وحدها باستغلال وقهر الطبقة العاملة المحلية، فاستطاعت أن تخدع العمال باسم الوطنية والقومية وغيرها، ليكونوا مجرد وقود فى حروبها ضد منافسيها. و بالتالى تأجيل أو طمس أو تشوية الصراع الطبقى، ومن المؤكد أن من يحمل هذه المفاهيم و يروج لها بين العمال إنما يعبر عن مصالح البورجوازيات والبيروقراطيات المحلية لا مصلحة الطبقة العاملة.
مثل هذه المفاهيم تتجاهل أن أى مطعم صغير فى أى بلدة لديه نفس الميل الغريزى الإمبراطورى الذى لسلسلة مطاعم ماكدونالدز، إلا أن المطعم الصغير عاجز فقط عن إشباع غريزته فى التوسع على حساب أصحاب المطاعم الأخرى المنافسين. و عاجز بسبب تخلفه و صغره وضعفه عن منافسة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، و هى مشكلة تخص صاحب المطعم فقط ، لا مشكلة العامل فى المطعم الذى قد يفضل العمل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز لو اتيحت له الفرصة لما قد يحصل عليه من شروط عمل أفضل لديها، فهو فى كل الأحوال يتم استغلاله وقهره، إلا أن شروط العمل تختلف من صاحب عمل لصاحب عمل آخر، وهذا هو محل تفضيلات العامل لو اتيحت له فرصة اختيار العمل الذى يرغبه، و هذا أيضا محل تفضيلات المستهلك الذى قد يفضل الأكل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز طالما كانت تبيع له بضائع أرخص وأفضل مما تبيعه المطاعم المحلية.
مثل هذه المفاهيم تتجاهل ما عانته الطبقات العاملة المحلية على يد برجوازيتها أو بيروقراطيتها المحلية فى عهد الاستقلال الوطنى ما بعد الحرب العالمية الثانية من نهب واستغلال وقهر فاق بمراحل ما عانته تلك الطبقات تحت سلطة الدول الاستعمارية المباشرة، فقد تحول ضباط الصف الوطنيين فى جيوش الاحتلال البلجيكى والأنجليزى والفرنسى على الترتيب "موبوتو وعيدى أمين وبوكاسا" إلى رموز للثراء الفاحش وسط مظاهر بؤس شعوبهم المدقع، بسبب توليهم للسلطة الوطنية المستقلة فى الكونغو وأوغندا وأفريقيا الوسطى، و قتل ونكل البعثيين بالملايين من العراقيين و السوريين أكثر بكثير مما قتل ونكل الانجليز والفرنسيين على الترتيب من العراقيين و السوريين فى العراق وسوريا فى فترة احتلالهما لتلك البلاد.
مثل هذه المفاهيم التى تبرز فحسب ما فعله الاستعماريين فقط من استرقاق للزنوج وإبادة للهنود الحمر وغيرها من الجرائم فى إطار عملية التوسع الرأسمالى ، تتجاهل أن ماعاناه هؤلاء عانته أيضا البروليتاريا البريطانية نفسها فى عهد الثورة الصناعية فى انجلترا حيث مارست الرأسمالية الانجليزية و دولتها وحتى قرب نهاية القرن التاسع عشر أبشع أشكال القهر والاستغلال فى مواجهة البروليتاريا البريطانية، ومنها إصدارها قوانين اعدام المشردين أو جمعهم وترحيلهم قسرا لبلاد العالم الجديد وحشدهم فى حروبها وتجنيدهم فى المستعمرات، ويذكر مورس دوب فى كتاب دراسات فى تطور الرأسمالية "إن هذه الفترة تعد من أسوء الفترات التى عانى منها العمال الذين كانوا لا يكادون يجدون ما يسترون به عوراتهم وكانوا يعيشون فى حالة بؤس مخيف" وهو ما وصفه أنجلز أيضا على نحو مفصل فى كتابه حالة الطبقة العاملة فى انجلترا حيث كان العمال وفقا لوصفه فى منتصف القرن التاسع عشر "لايرتدون سوى الملابس القديمة و لايأكلون سوى البطاطس ولا يعيشون سوى فى الأكواخ القذرة المزدحمة". و هو ما تحدث عنه ماركس على نحو أكثر تفصيلا فى رأس المال. ولا شك أن ما حققته الطبقة العاملة فى القرن العشرين وخصوصا فى أوروبا وأمريكا الشمالية من مكاسب و حقوق وحريات ما كان ليتم لولا النضال البطولى للطبقة العاملة هناك ضد رأسماليتها المحلية. فحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن للعمال حق الانتخاب والترشيح فى البلاد الرأسمالية، وفى القرن التاسع عشر كان يتم اعدام القادة النقابيين وقادة الاضرابات العمالية، وكان العمال و مازالوا يساقون فى الحروب بين الدول الرأسمالية المتنافسة على مناطق النفوذ، مخدوعين أحيانا إلا أنهم مضطرون غالبا. كما أن جيوش الاحتلال كانت تضم الكثير من المجندين من شعوب المستعمرات، الهنود فى الجيش الانجليزى ، المغاربة فى الجيش الفرنسي.وما حصل عليه العمال فى البلاد المتقدمة من بعض الترف فى فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية لا يساوى سوى ثمن رخيص جدا فى مقابل ما قدموه من تضحيات هائلة لصالح رأسمالى بلادهم.
تصف نظرية النظام الرأسمالى العالمى التى اوضحنا معالمها فيما سبق الواقع العالمى فى القرون الخمسة الماضية، على نحو أكثر دقة مما تصفه نظريات التبعية المتأثرة بنظرية لينين حول الإمبريالية، فهى أكثر تمسكا بحقيقة الطابع العالمى لرأسالمال، وبأن العمال لاوطن لهم سوى حيث يعملون ويحصلون على معاشهم، فهى تنظر للعالم من وجهة نظر البروليتاريا المجردة من كل مصادر السلطة المادية،لا من وجهة نظر البرجوازيين الذين يحوزون على مصادر تلك السلطة.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية