الجمعة، 29 أغسطس 2008

التاريخ وهم نضيع فيه حاضرنا ومستقبلنا


التاريخ وهم نضيع فيه حاضرنا ومستقبلنا
سامح سعيد عبود
تلك هى قصة البشر مع تاريخهم ، فنحن لا نعرف الكثير عن ما حدث فعلا فى الماضى كما يؤمن البعض، فالكثير من الحقائق التاريخية ضاعت لعدم تسجيلها أصلا وخصوصا ما حدث للبشر قبل اكتشاف الإنسان للكتابة قبل سبع آلاف عام، كما ضاعت معظم السجلات والوثائق والأثار التى تتحدث عن وقوع بعض الوقائع بسبب الحوادث الطبيعية المختلفة، أو بسبب تعمد تدميرها ومحوها وتحريفها بواسطة البشر أو تبددها بعوامل الزمن أو اهمال حفظها، وخاصة تلك النصوص التى كتبت قبل اكتشاف الطباعة منذ خمسمائة عام وتطور وسائل حفظ الوثائق والكتابات.
لا شك أن الكثير مما نظنه حقائق تاريخية هى مجرد أساطير وحكايات خرافية لا يوجد أى مبرر للتيقن من حدوثها أو عدمه، إلا إذا كنا من السذاجة لكى نصدق كل ما جاء فى تلك النصوص والسجلات والأثار باعتبارها حقائق مؤكدة، وكأن البشر الذين كتبوها أو تركوها لنا، مبرأون ومعصومون من الكذب والنسيان والمبالغة والغرض والوهم والتحريف والخطأ والنقل بلا نقد ولا تمحيص ، وخصوصا أن كثير مما سجلوه كان يعتمد على النقل الشفاهى من ذاكرة بشر مثلهم لا يتميزون عنهم بالبراءة و المعصومية.
بالطبع فإن بعض تلك الأساطير و الحكايات التى ترويها لنا تلك السجلات والنصوص والأثار لها أصل من وقائع و أحداث واقعية، وربما يكون بعضها محض خيال ، أو مجرد أكاذيب لمن سجلوها كتابة فوصلت إلينا فى صورة رسومات ونصوص على الأحجار أو الجلود وأوراق البردى وفى المخطوطات اليدوية ، إلا أنه لا يمكن أن نميز فيها ما بين هو حقيقى أو مزيف ، فكتابها و شخوص أحداثها قد ماتوا، و لا يمكن لنا استدعاءهم للشهادة.
هذا الشك العميق فى تلك الأخبار والنصوص والأثار له ما يبرره للعديد من الأسباب أولها أن التاريخ يكتبه المنتصرون دائما و من وجهة نظرهم، و بما يؤكد عظمتهم وحقارة المهزومين.
ثانيهما أن معظم وقائع ما قبل العصر الحديث سجلها مؤرخوا الحكام والسلطة، و هؤلاء لم يفصلوا عندما كتبوا بين ما سمعوه أو قرأوه من أساطير وحكايات وبين الوقائع الحقيقية، وكيف يمكنهم هذا الفصل وهم كانوا يفتقرون للوسائل والمناهج العلمية التى تساعدهم على التمييز بين الحقيقة التاريخية والأسطورة، و كيف لهم أن يكونوا أمناء للحقيقة، وكانت سيوف الحكام وذهبهم دافعهم للكتابة فى الغالب الأعم.
ثالثهما أن هؤلاء المؤرخين نظرا لدوافعهم الإيمانية أحيانا، والمصلحية أحيانا أخرى، كانوا يفتقدون لأى حيادية فيما يسطرون من نصوص، و لم يتمسكوا بأخلاقيات ومناهج البحث العلمى بما يعنيه ذلك من موضوعية وتحرى للدقة ، ومن هنا فأننا كلما اقتربنا من العصر الحديث ازدادت نسبة الحقيقة فيما نعرفه من حكايات التاريخ، وقلت الأساطير، وإننا كلما توغلنا فى الماضى زادات نسبة الأساطير وقلت الحقائق التاريخية.
رابعهما أن هؤلاء المؤرخين كانوا يروون أحداث التاريخ باعتباره حياة و انجازات الحكام والقادة واخفاقاتهم، بعيدا عن تناول حياة المحكومين من عبيد وأقنان وحرفيين ومزراعيين ورعاه، وهذا يضفى على الماضى صورة الفردوس المفقود الذى كان يعيشه فقط الحكام والسادة والقادة مغفلا الجحيم الذى كان يكتوى به المحكومين والعبيد، و هذه الرؤية للتاريخ تصيب كثير من الناس بمرض الحنين للماضى ، متغافلين على أن الماضى بالنسبة للسواد الأعظم من البشر العاديين كان تراكما بلا حدود من البؤس والشقاء والاضطهاد والاستعباد .
خامسهما أن التأريخ فى معظم الأحوال لم يكن بهدف معرفة الحقيقة، بقدر ما كان بهدف تأسيس السلطة وتبريرها، فإن التنافس والصراع بين الحكام والقادة المنتصرين والمهزومين على السلطة ظل يدفع هؤلاء المؤرخين لتزييف الوقائع والحقائق خدمة لهؤلاء الحكام والقادة.
وبرغم كل هذا فإن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية فى الشرق الأوسط أسيرة غالبا لتلك الأساطير والحكايات، فالصهاينة يعتمدون على ما يرويه العهد القديم من حكايات هو مصدرها الوحيد، وبرغم أن علماء الأثار الإسرائيليين أخذوا ينقبون أرض فلسطين من النهر إلى البحر، ومن الجليل إلى العقبة، منذ أكثر من مئة عام، فإنهم لم يجدوا أى شىء يثبت تلك الحكايات، أو يشير إلى صدقها حتى من بعيد، كما لم تسجل الأثار فى المنطقة المحيطة بفلسطين سواء مصر أو فى الهلال الخصيب أو شبه الجزيرة العربية تلك الحكايات، ، ولم يتناولها المؤرخون المعاصرون لتلك الأحداث فى كتاباتهم، ولم يرد لها ذكر فى الكتابات الأحدث لمؤرخى الحضارات الرومانية والفارسية واليونانية، وإن كان من المؤكد أن بعض هذه الحكايات منقولة بقدر من التحريف من الأثار والنصوص لحضارات تلك المنطقة الأقدم إلى العهد القديم.
لم تكن أخطر جرائم الصهاينة فقط فى اعتقادى هى سرقتهم فلسطين وتشريد سكانها، وإنما أيضا أنهم منذ أن شرعوا فى بناء مشروعهم الاستعمارى كانوا وراء هوس شعوب تلك المنطقة بالماضى لا ببناء المستقبل، مما كان سببا رئيسيا لتخلفها وهزائمها ، فعلى عادة أن المهزوم يقلد المنتصر، أخذت نخب شعوب تلك المنطقة السياسية والثقافية، فى تقليد الصهاينة مدعين أنهم يريدوا تجاوز هذا التخلف على أساس حضارات وثقافات الماضى، و لكنهم تفرقوا وتصارعوا فقط حول أى من تلك الحضارات و الثقافات هى المرشحة كى نبنى المستقبل على أساسها ، فهناك الحركات الإسلامية المسيحية المختلفة ، وهناك الحركات العروبية والفرعونية والأمازيغية والفينيقية المتنوعة.
ما لا يستطيع أن يفهمه هؤلاء أن الماضى مع افتراضنا لصحة ما نظنه حوله، قد خسرناه فعلا لأنه لا يمكن استعادته بأى حال ، وإننا لا نملك فعليا إلا الحاضر الذى يمكن أن نغيره لا بالتباكى على فردوس نظن إننا فقدناه، فمن يديم النظر للخلف لا يمكن أن يخطو إلى الأمام، ولكننا لا يمكن أن نتقدم إلا بالعمل على أن يكون حاضرنا أفضل من الماضى، وعندها سيكون المستقبل لنا.




http://www.ahewar.org/m.asp?i=12

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية