الخميس، 26 فبراير 2009

دارون .. ماذا فعلت الرأسمالية بالإنسان العاقل؟

دارون .. ماذا فعلت الرأسمالية بالإنسان العاقل؟
سامح سعيد عبود

يحتفل العالم هذه الأيام بالمئوية الثانية لميلاد تشارلز دارون ، أحد أهم مؤسسى علم البيولوجيا الحديثة، على أساس أن قوانين التطور ليست مجرد نظرية فى مواجهة نظرية أخرى مثل نظرية الخلق الخاص أو نظرية المصمم الذكى، كما يحاول الدجالون أن يثبتوا ذلك لدواعى إيديولوجية أو دينية، فقوانين التطور التى تبناها دارون وغيره من العلماء هى التفسير العلمى المحكم لنشوء الكائنات الحية وتطورها، و المجمع عليها فى كل الدوائر العلمية الجادة والمحترمة، والتى تعتبر حجر الزاوية المركزية فى البيولوجيا ، مثلها مثل قوانين نيوتن بالنسبة للفيزياء الحديثة،أما نظرية دارون الخاصة فى التطور فيمكن مقارنتها بنظريات وتفسيرات أخرى لعملية التطور لعلماء آخرين مثل لا مارك، ربما تكون أكثر أو أقل منها دقة أو صحة.
أبرز ما فى قوانين التطور البيولوجى أنها تقوم على أساس أن تطور الأنواع المختلفة للكائنات الحية، يجرى بسبب محدد هو التكيف مع ظروف البيئة المتغيرة، ومن ثم كان البقاء دائما لمن يتكيف مع ظروف البيئة أفضل من غيره، والانقراض كان نصيب من لم يستطع هذا التكيف ، فالبقاء إذن للأكثر تكيفا مع البيئة، والانقراض سوف يكون من نصيب الأقل تكيفا، والتكيف هنا ليست دليلا على الأفضلية على أى نحو، فالبقاء ليس للأفضل سلوكيا أو عقليا أو جماليا من وجهات نظرنا كبشر، بل البقاء للأكثر تكيفا بحكم الضرورة التى تحكم الطبيعة نفسها التى لا تعرف حقا أو خيرا أو جمالا كما نعرفهم نحن البشر كمجرد قيم مثالية فى عقولنا.
الإنسان العاقل، وبصرف النظر عن العلاقات الاجتماعية المختلفة التى يمكن أن يدخل فيها ، تؤثر عليه البيئة الطبيعية من مناخ وتضاريس وخلافه فتغيرمن سلوكيات البشر وتفكيرهم و بنيتهم الجسمانية،مثلما أن العلاقات الاجتماعية التى يدخلون فيها فيما بينهم تؤثر بنفس الدرجة على سلوكهم وأفكارهم وقيمهم، ومثلما أثرت البيئات الطبيعية المختلفة من قطبية ومدارية واستوائية فى البشر فأوجدت سلالات المغول والزنوج والقوقازيين وغيرهم، تنوعت أنماط الإنتاج من تنافسية كالرأسمالية وتعاونية كالمشاعية، فأوجدت أنواع من البشر يتفاوتون فى السلوك والأفكار والقيم. وهذا ينقض الفرضية غير الصحيحة عن الطبيعة البشرية الثابتة والمطلقة والنهائية سواء أكانت خيرة كما يفترض أقصى اليسار أو شريرة كما يفترض أقصى اليمين.
البيئة الاجتماعية أى مجمل العلاقات الاجتماعية فى مجتمع ما ، تدفع المتكيفون معها فقط للإزدهار والنجاح وفق ضرورات تلك البيئة، ومن ثم تسيد قيمهم و أفكارهم اجتماعيا بدفع الآخرين للاقتداء بهم و تقليدهم كى يحصلوا على نفس النجاح، فى حين أن غير المتكيفين سواء عن عجز أو رفض ، تدفع بهم البيئة الاجتماعية للإضمحلال والفشل وفق ضرورات تلك البيئة، و من ثم تهميش قيمهم وأفكارهم، فضلا عن ما يتعرضوا له من نبذ و استهزاء اجتماعى يدفعهم للإنزواء والعزلة وربما الانقراض، وبمرور الوقت يصبح المتكيفون هم الغالبية الساحقة، والعاجزون عن التكيف أو الرافضون له هم القلة النادرة، وهذا لا يعنى إطلاقا أن الأولون هم الأفضل من الآخرين على أى نحو، أو أن العكس صحيح.
إنطلاقا من هذا الفهم فإنه ليس علينا أن ننتظر تغيير سلوكيات البشر وقيمهم وأفكارهم قبل أن تتغير البيئة الاجتماعية التى يعيشون فيها،إلى بيئة اجتماعية جديدة تدفعهم ضرورة التكيف معها تبنى سلوكيات وأفكار و قيم أخرى تتناسب معها. فلا نشترط أن يتبنى البشر قيما وسلوكيات وأفكار لا رأسمالية حتى يمكنا تجاوز الرأسمالية، بل يجب أن يتم تجاوزها حتى تتغير قيم و سلوكيات وأفكار البشر ، و هذا أكثر اتساقا مع التفكير العلمى.
تقوم البيئات الاجتماعية التنافسية، ومنها البيئة الرأسمالية على الصراع الحر بين الأفراد والجماعات على الفوز بأكبر قدر من الثروة حتى ولو لم يكونوا فى حاجة حقيقية إليها، و حتى ولو زادت عن احتياجاتهم الفعلية، وحتى ولو كان ذلك على حساب حرمان الآخرين من تلك الثروات ، فالاستحواز على أكبر ما يمكن من تلك الثروات هو مقياس النجاح والإزدهار فى البيئة الرأسمالية، وهدف المتكيفون معها الذي يسعون إليه. وفى سبيل هذا الهدف يهون كل شىء بالنسبة لهم.
الإنسان المتكيف مع الرأسمالية كائن أنانى جشع متكلس حول ذاته ومصالحه حتى لو تم خراب العالم بسبب نهمه الذى لا يشبع للاستحواز والتباهى والتسلط على الآخرين، فالرأسمالية تدفع البشر لعبادة المال الذى هو وسيلتهم للمتع الحسية،و تخلق منهم كائنات داعرة على أتم استعداد أن يبيعوا أجسادهم وأفكارهم وعقولهم وقواهم وجهودهم وعمرهم من أجل المال ، وتدفعهم نفاقا أو خداعا للنفس، لتغطية تلك العبادة العفنة بعبادة آلهة أخرى اللة أو يهوا أو براهما .
الرأسمالية تخلق الإنسان المدمن كى يسهل لها السيطرة عليه، وهى فى سبيل ذلك تخلق له آلاف الأنواع من المخدرات التى باستهلاكها يتم رفع نسبة الدوبامين فى المخ فيشعر بالسعادة، ويصبح عاجزا عن الاستغناء عنها، وأكثر تقبلا لاستغلاله وقهره وتضليله مقابل تلك السعادة الوهمية، ويتحول بسبب هذا الإدمان لكائن سلبي لامبالي بما حوله و بالآخرين، و تتعد أشكال تلك المخدرات من المخدرات والخمور الحقيقية إلى غير الحقيقية مما تقدمه صناعة الجنس و الترفيه إلى تشجيع الفرق الرياضية و ممارسة ألعاب الفيديو ومشاهدة المسلسلات التليفزيونية و القمار وغيرها من المتع والسلع مما لا يتسع لسرده المجال.
الرأسمالية تخلق للبشر سباق لا ينقطع للفوز بأكبر قدر من السلع والمتع يكونون فيه وحوشا أو فرائس،آكلين أو مأكولين، ومن ثم تحولهم لكائنات مريضة بشتى أمراض النفس والعقل الاكتئاب والهوس والقلق، لا يعرفون راحة النفس والبدن.
لايمكن أن نتوقع نجاح وازدهار الإنسان غير المتكيف مع الرأسمالية فى ظلها، والذى يتصف بكونه غير أنانى وقنوع ومهتم بالآخرين وتلبية مصالحهم ، والذى لايشبع احتياجاته على حساب حرمان الآخرين وتعاستهم و بالتسلط عليهم، مبرءا من الإدمان والمرض النفسى، فهذا الإنسان لايتكيف إلا مع بيئة اجتماعية أخرى تقوم على التعاون بين البشر لا التنافس فيما بينهم.


http://www.ahewar.org/m.asp?i=12

1 تعليقات:

في 1 مايو 2016 في 1:28 ص , Blogger Unknown يقول...

تحية تقدير واحترام ونلتمس منك مواصلة هذا العمل النقدي الرائع شكرا

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية