أزمة الواقع وأزمة الخطابات السياسية
أزمة الواقع وأزمة الخطابات السياسية
سامح سعيد عبود
كان السقوط المدوى للأنظمة البيروقراطية التى عرفت بالاشتراكية فى الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا والتحول الفعلى من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية التقليدية فى الصين الشعبية، وسقوط كل أشكال رأسمالية الدولة الوطنية فى العالم الثالث، هى اللحظة التى بدأت فيها عملية التحول الكبرى لغالبية الشيوعيين لمعسكر الوسط سياسيا، منقسمين إما على يساره نحو الاشتراكية الديمقراطية و إما على يمينه تجاه الليبرالية، كما أن الكثيرين أيضا انتقلوا لصفوف الحركات القومية والدينية الفاشية و الشعبوية، كما أن الكثيرين منهم ظلوا فى معسكر اليسار التقليدى يرددون نفس الخطاب القديم حول إمكانية بناء الاشتراكية فى بلد واحد مع بعض التعديلات الديمقراطية اللازمة على نموذج اشتراكية الدولة الستالينى.
فى هذا المقال سأحاول إثبات أن كل هذه الخطابات لا تستند على برهنة علمية، بل أنها ناتجة عن الاستسهال فى تحديد المواقف السياسية، وكمثال على السطحية يقول أحدهم ببساطة أنه مادامت الاشتراكية قد سقطت فالرأسمالية هى النظام الأفضل، و مادمنا فشلنا فى تحقيق الاشتراكية فلابد وأنها مجرد حلم خيالى مستبعد تحقيقه، تماما كسطحية تفسير سقوط نفس تلك الاشتراكية بنظرية المؤامرة أو الأخطاء التى لحقت بالتطبيق.
الأمانة تقتضى أن نقر بوجود معضلة بالغة الصعوبة ناتجة عن أزمة عميقة فى الواقع الاجتماعى سواء محليا أو إقليميا أو عالميا، يصاحبها فى نفس الوقت عجز كل القوى السياسية على تقديم حلول عملية لتجاوز تلك الأزمة، فالبشرية عموما تواجه خطر ماثل هو الانحطاط للبربرية بسبب استمرار الرأسمالية، و فشل مناهضيها فى هزيمتها حتى الآن، وهذا ما تمت البرهنة العلمية عليه بشتى الطرق على مدى القرن الماضي، إلا أن الانحطاط فى بلدان الأطراف المتخلفة كمصر أشد منه فى بلاد المركز المتقدم كفرنسا، أما فى بلاد الشرق الأوسط فإن الانحطاط قد بلغ الحضيض.
أن العجز عن تقديم الحل العملى و العاجل للأزمة مصريا و هو ما سيتم التركيز عليه فى هذا المقال، ناتج بالأساس عن أن كل هذه النخب السياسية فى بلادنا التى تطرح كل هذه الخطابات تفتقد إلى الارتباط بأى قوى اجتماعية فى الواقع، ولذلك فهى أضعف من أن تقود الجماهير لتحقيق أبسط الإصلاحات السياسية حتى ولو كانت إلغاء حالة الطوارىء، بل و أعجز من أن تمنع توريث الحكم، فما بالكم بالإصلاح الجذرى للأوضاع، ومادامت المسألة لا تتجاوز إعلان المواقف إرضاءا للضمير و إثباتا للوجود لا غير ، فليظل الجميع يسبحون فى الكلام الذى لا يحاسبهم عليه أحد، والاكتفاء بممارسات سياسية نخبوية واستعراضية أشبه بالاستنماء، ولأن هذه النخب تصر على عدم رؤية الواقع و لا رؤية نفسها على حقيقتها، فأنها تمارس السياسة كما لو كانت قوى سياسية حقيقية قادرة على مناطحة النظام، ومن ثم فأنها تصر على إنتاج برامج سياسية تحاول تسويقها لجمهور من المستهلكين، أصبح عازفا عن أن يستهلكها،وأن يحتشد خلفها.
فى الحقيقة إن ما سوف أشير إليه من براهين فى هذا المقال قد تم تكراره لملايين المرات، بقلمى وبأقلام غيرى من الكتاب و بكل اللغات، إلا أنى لم أقرأ ردود قوية عليها حتى الآن، برغم إصرار الكثير من الكتاب عندنا على الاجترار الممل لنفس الأفكار القديمة المتعالية عن الدفاع عن نفسها أمام تلك البراهين.
أولا أنصار الليبرالية الرأسمالية
يستند دعاة الليبرالية الرأسمالية على الصورة التى تقدم عن بلاد الليبرالية فى صورتها النقية، وهى تحديدا بلاد المهجر الرأسمالية المتقدمة الولايات المتحدة وكندا واستراليا، ففى هذه البلاد استطاعت الرأسمالية أن تسود وتحكم فى ظل الليبرالية السياسية والاقتصادية بشكلهما الكامل دون تقديم تنازلات كبيرة للطبقتين العاملة و الوسطى، فى نفس الوقت التى تمتعت فيه الغالبية العظمى من السكان بمستوى مرتفع من الدخل طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا ناتج عن ظرف تاريخى محدد هو عدم امتداد الحرب لحدود هذه البلاد التى شاركت فيها كمورد للمؤن والسلاح للحلفاء، وفى ظل ظروف التشغيل شبه الكامل للعمالة بالتخلص من فائضهم كمحاربين خارج حدودها، فى نفس الوقت التى احتفظت فيه بكل بنيتها التحتية والإنتاجية سليمة تماما مما أعفاها من جهود التعمير الداخلى ما بعد الحرب، وليتدفق الاستثمار الأمريكى فى غرب أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية بتلك الأموال التى تم ربحها من تمويل باقى الحلفاء، مما ضخ المزيد من الأموال للاقتصاد الأمريكي الرابح الأعظم و الأوحد من تلك الحرب، مع ملاحظة أن هذا هو ما تكرر أيضا فى الحرب العالمية الأولى إلى حد كبير، وبالطبع يتم التغاضى عن هذه الحقيقة التاريخية لتصبح الليبرالية السياسية الاقتصادية المطلقة فى تلك البلاد هى السبب فى كل هذا الثراء والرفاهية التى تمتعت بها شعوب تلك البلاد، وليس ذلك فحسب بل يتم التغاضى عن أن دول المهجر تلك و الغنية بالموارد البكر ظلت تجتذب المهاجرين من أفضل العناصر البشرية يدويا وذهنيا مما يحسن دوما من نوعية قوى العمل، ويرفع دائما من مستوى الإنتاجية، وهم غالبا من الطموحين لتحقيق حلم الثراء الفردى، ومن المشبعين بالحلم الأمريكى، مما أضعف مبررات الصراع الطبقى لديهم أحيانا، إلا أن هذا الوضع الغريب للقوى العاملة فى بلاد المهجر لم يكن موجودا عبر كل تاريخ تلك الدول، فقد عرفت الولايات المتحدة على سبيل المثال طوال النصف الأول من القرن العشرين حركات عمالية سياسية و نقابية قوية عبرت عن حدة الصراع الطبقى حينما تضاءلت فرص الثراء الفردى أمام هؤلاء المهاجرين، بل أن تاريخ اليسار الأمريكى عرف أوائل القرن العشرين أكبر المنظمات اليسارية الجذرية على مستوى العالم تاريخيا، وهى منظمة عمال العالم الصناعيين إلا أنه تم تدمير وتخريب المنظمات السياسية والنقابية للطبقة العاملة بأشكال من الاضطهاد يتجاهل الحديث عنها الليبراليين دائما، واختراق المافيا و المخابرات لقيادات النقابات والمنظمات السياسية، فضلا عن السياسة العنصرية لأصحاب المصانع التى قسمت العمال لبيض وسود ولاتينيين فيما يتعلق بالأجور مما اضعف من فرص توحدهم فى مواجهة أصحاب العمل ( إجابة المستشرق الأمريكى اليسارى "جول بنين" عن سر ضعف الطبقة العاملة الأمريكية خلال حوار معه فى القاهرة خريف 2003)، ومن ثم أصبحت الحياة السياسية فى الولايات المتحدة محصورة فى حزبين رأسماليين كبيرين، كما ينبغى أن لا ننسى أن الرأسمالية فى تلك البلاد شهدت أسوء مظاهر أزمة الكساد الكبرى التى واجهتها الرأسمالية الأمريكية بالسياسات المتمثلة فى الصفقة الجديدة.
أما فى بلد كمصر فيعتمد اقتصادها أساسا على مصادر دخل ريعية ترتبط صعودا وهبوطا بصعود وهبوط الاقتصاد الرأسمالى المتقدم الذى يستهلك تلك الخدمات والسلع كالبترول والمعادن وقناة السويس والسياحة، كما يعتمد على إيرادات العاملين بالخارج و على المعونات الغربية ، فمما لاشك فيه أن هذا الضعف الهيكلى فى الاقتصاد وفقر الموارد الذاتية فى مصر يؤسس موضوعيا لهذا الانحطاط، و لا يتيح فرصة النمو إلا لنوع من الرأسمالية الرثة التى لا يمكن أن تحكم إلا فى ظل الاستبداد السياسى.
فحتى تستطيع الرأسمالية أن تحكم فى ظل الليبرالية الاقتصادية والسياسية، فلابد وأن يكون لديها فوائض تنفقها لامتصاص سخط الطبقتين العاملة و الوسطى ،و موارد تتيح فرص الثراء الفردى للغالبية، التى لن تحتشد خلف برنامج ليبرالى فى الحدود السياسية الاقتصادية دون إعطاءها مكتسبات تحسن من ظروف حياتها، و فى الحد الأدنى حلم الثراء الفردى، إلا أن الماركسيين السابقين والليبراليين حاليا، تناسوا أنك لن تستطيع أن تفكر قبل أن تملأ المعدة بالطعام، فالحريات السياسية مطلب الشبعى من الناس، أما الجوعى منهم فعلى أتم استعداد للتنازل عن حرياتهم السياسية لمن يوفر لهم الخبز أو يوهمهم بتوفيره، و فى حالة توفر الخبز سيفكرون بالطبع فى الحرية، ويطالبون بها، يمكنك فقط أن تحرمهم من كل من الخبز والحرية فى ظل الاستبداد السياسى و البوليسى كما هو حادث الآن، إلا أن هذا لا يمكن فى ظل الليبرالية السياسية والاقتصادية التى يبشر بها المفتونون بالنموذج الأمريكى معزولا عن الظروف الواقعية التى أفرزته.
فلو طبقنا البرنامج الليبرالى كاملا فى مصر الآن بالاستغناء عن ملايين الموظفين والعمال الزائدين عن الحاجة فى الحكومة، وألغينا الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، وتمت خصخصة باقى المؤسسات والمرافق الحكومية، وحررنا السوق من كل القيود، فلن يؤدى هذا إلا للمزيد من الإفقار والبطالة و التهميش للغالبية الساحقة من السكان التى لن تنتظر كثيرا بركات الليبرالية فى النمو، وأما الشق السياسى فى البرنامج الليبرالى فسيصبح بلا معنى لكل هؤلاء الجوعى، أما القلة التى ستستفيد من هذا البرنامج فلن تستطيع أن تصمد أمام غضب هؤلاء الجوعى.
ثانيا أنصار الاشتراكية الديمقراطية
يعترف دعاة الاشتراكية الديمقراطية بأهمية الربط بين الخبز والحرية، و أعينهم بالطبع على نموذج دولة الرفاهية فى غرب أوروبا، مثبتين نظرهم على فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية، وأثاره المتبقية حتى الآن، متغاضين بإصرار عجيب عن فحص أسباب صعود هذا النموذج و حقيقة هبوطه وأزمته الراهنة، متجاهلين أن هناك واقع عالمى جديد أصبح من مستلزماته تدمير دولة الرفاهية التى صنعتها الاشتراكية الديمقراطية فى غرب أوروبا، والتى يتوهمون بإمكانية تكرارها فى بلد مفلس كمصر، ومتجاهلين أن كل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى غرب أوروبا سواء فى الحكم أو فى المعارضة سقطت تماما فى معسكر الليبرالية، و ذلك بسبب حقيقة يتم تجاهلها عمدا من كل دعاة الاشتراكية الديمقراطية، وهى خضوع كل دول العالم وحكوماته بلا استثناء من أقواها وحتى أضعفها لديكتاتورية أسواق الأموال العالمية التى أفقدت الديمقراطية البرجوازية أى مصداقية كما أفقدت الدولة القومية الكثير من استقلاليتها وسيادتها.
فنجاح ذلك اللون من الاشتراكية مرتبط واقعيا بظروف تاريخية معينة فى دول غرب أوروبا، أولها درجة متطورة من الديمقراطية التمثيلية والليبرالية السياسية سمحت للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بالوصول للسلطة، و درجة معينة من الاستقلال الاقتصادى للدولة سمحت لها بتطبيق برامجها الإصلاحية، و ثانيها رواج رأسمالى سببته أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية التى أتاحت فرص التشغيل الكامل للعمالة، و توافر فوائض مالية من الأرباح الاحتكارية، تم توجيهها لتحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقتين العاملة و الوسطى، ومن ثم التخفيف من حدة الصراع الطبقى، و ثالثها الرعب من امتداد الثورة البروليتارية من شرق أوروبا لغربها، كان لابد للرأسمالية الحاكمة أن تقدم كبديل عنه نموذج أكثر جاذبية للحياة مما هو فى شرق أوروبا، و رابعها ظروف الحرب الباردة التى دفعت الرأسمالية الأمريكية لضخ الأموال الفائضة لديها للتعمير والاستثمار فى غرب أوروبا و بعض بلاد شرق آسيا الحليفة لها ككوريا الجنوبية وتايوان وخاصة اليابان، و خامسها توافر إمكانية تطبيق حل أزمات الكساد الدورية بزيادة الإنفاق العام المشروط طبعا بتوافر الفائض لهذا الإنفاق، إلا أنه حل أصبح غير ممكن فى ضوء أزمة الركود التضخمى السائدة فى العالم منذ السبعينات وحتى الآن.
والاشتراكيون الديمقراطيون لدينا يتجاهلون بجانب كل هذه الظروف الموضوعية، أن معظم المكاسب التى تم تحقيقها فى فترة دولة الرفاهية يتم سحبها الآن، على سبيل المثال ألمانيا فى ظل الحكومة الاشتراكية الديمقراطية نفسها التى خلقت أكبر دولة رفاهية فى غرب أوروبا، وهى بلد لم يصبه البؤس والفقر كمصر حتى الآن.
العوامل السابقة لا تتوافر لدينا لنجاح مثل هذا النموذج بداية رغم تمسك الكثير من اليساريين السابقين به الآن بعد أن فقد النموذج الثورى جاذبيته بالنسبة لقطاع واسع منهم، أو لعدم توافر الظروف الذاتية والموضوعية لتحققه عمليا بالنسبة لآخرين.فمن أين سيأتون بالفوائض المالية التى توفرت لدى بلدان غرب أوروبا لتوفير الحقوق الاجتماعية للبروليتاريا، وما الذى سيدفع الرأسمالية المحلية والعالمية للتنازل عن أجزاء من أرباحها فى ظل ضعف الطبقة العاملة سياسيا ونقابيا، وكيف ستفرض الدولة حقوق العمل على الرأسماليين المصريين والأجانب، وكيف ستجتذب أموال المستثمرين فى نفس وقت الحاجة الماسة إليها للنمو، وهم الذين ينتقلون عبر العالم بحثا عن العمالة الأرخص والأقل حقوقا ووعيا. فإما أن ترضخ لرغباتهم ليأتوا إليك بأموالهم أو سيهربون، وبلد كمصر ليست كبلاد البترول قليلة السكان كبلاد الخليج التى تتوافر لديها بعض الفوائض المالية للاستثمار، والإنفاق العام، أن ما تملكه من ميزة هو قوة عمل رخيصة تهرب لفرص العمل الأفضل فى الخارج إن لم تجد فرص عمل بالداخل.
ثالثا أنصار التحرر الوطنى
يعتمد أنصار التحرر الوطنى وحلم التنمية المستقلة على وهم أن العالم ينقسم لبلاد استعمارية متقدمة وبلاد متخلفة تابعة لها، وأن هناك إمكانية أن تستقل الدول المتخلفة وتتقدم بمعزل عن الارتباط بالدول الاستعمارية المتقدمة بل وفى مواجهتها، سواء فى كل بلد على حدة أو باتحاد هذه البلدان فيما بينها، و لأن هذه البلاد المتقدمة تحتكر وسائل الإنتاج المتقدمة فإن على هذه الدول المتخلفة أن تحقق تنمية مستقلة، وأن تتخلى عن هدف اللحاق بالعالم المتقدم، وتقدم هى نموذج آخر للتقدم مستقل عن المركز المتقدم، و المعضلة فى الحقيقة أنى من القلة القليلة للغاية التى تحتقر بعمق ثقافة الاستهلاك البرجوازية، إلا على أن أقر بأن الغالبية الساحقة من البشر يتبنونها بحماس، كما أن هذه القلة التى انتمى إليها تود لو عاشت نمط مختلف من الحياة المتقشفة لأنها تراه الأقرب للحكمة، إلا أن الغالبية الساحقة تود لو عاشت فى جنة الاستهلاك السلعى فى العالم المتقدم لأنها تراه الأقرب للعقل. فهل يمكن للقلة من أمثالى أن تفرض ما تراه على الأغلبية إلا فى ظل التسلط عليها، أو انتظار أن تقتنع بما نرى.
الحقيقة الأخرى التى سبق الإشارة إليها هى أن عالمنا بكل دوله وحكوماته و بأقسامه المتخلفة و المتقدمة على حد سواء، أصبح خاضعا لديكتاتورية رأسمالية عالمية لا تعرف حدودا، و لا تحمل أى جنسية، ولا تنتمى إلى أى قومية أو دين، ولا لون لها، ولا تتحدث بلغة بعينها، و أن بعض شركاتها أقوى وأغنى و أعظم نفوذا من بلاد قارة كاملة كأفريقيا، هدفها الوحيد هو الربح ولا يهمها من أين وكيف يأتى، وعضوية مؤسساتها لمن يملك المال الذى يمكنه من شراء أسهمها بصرف النظر عن محل إقامته أو وطنه أو دينه، ولها من الأجهزة السياسية الدولية كالبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية ما يمكنها من فرض إرادتها على جميع الحكومات، بل وشراء جيوش المرتزقة لحماية مصالحها، ،وفرض إرادتها وتوجيهاتها على أقوى الحكومات، و التى شاءت أم أبت،إن عاجلا أو آجلا، لا تملك إلا أن تكسب ودها مادام لديها وحدها مفاتيح الاستثمار والنمو وفرص تشغيل العمالة.
والحقيقة الثالثة هى أنه كان يمكن لبلد كمصر شأنها فى ذلك شأن كل دول الأطراف المتخلفة، فى ظل ظروف الحرب الباردة أن تلعب على انقسام العالم المتقدم لمعسكرين متنافسين لتجتذب الأموال والتكنولوجيا من أحدى المعسكرين إليها لتحقيق بعض النمو الذى بدا للبعض مستقلا على عكس حقيقته، وأن تحقق بعض المكاسب الضئيلة للطبقتين الوسطى والعاملة من خلال رأسمالية الدولة الوطنية، إلا أن الظروف تغيرت وأصبح العالم فيما عدا دول قليلة للغاية مجرد سوق واحدة تتحرك فيها الأموال والسلع بحرية، و قد توحدت الرأسمالية فى العالم من خلاله كطبقة، فى حين أن نقيضتها الطبقة العاملة مازالت مفتتة باسم الوطنية والقومية والدين والجنس واللون والعرق واللغة، فى حين أنها الوحيدة المؤهلة لهزيمة تلك الرأسمالية لو توحدت هى الأخرى عبر العالم، والأمر الذى قد لا يدركه أنصار التحرر الوطنى هؤلاء أنه وبرغم كل ادعاءاتهم عن أنفسهم بأنهم تقدميون ويساريون وتحرريون، فأنهم يساعدون على تفتيت الوحدة العمالية العالمية كشرط جوهرى لهزيمة الرأسمالية، بدعمهم أساطير الهويات القومية والوطنية والدينية والثقافية والعرقية التى تطمس وتشوه الصراع الطبقى، و بترويجهم أساطير التحرر الوطنى و التنمية المستقلة..والحديث عن الإمبريالية و كأنها شىء مختلف عن الرأسمالية، و تقسيم الرأسمالية لعالمية و قومية، طفيلية ومنتجة..الخ، أنهم فى الحقيقة الطابور الخامس الذى يعمل لصالح استمرار تلك الرأسمالية، فهم يبيعون لنا أوهاما مستحيلة التحقق برغم كل ما بذل من أجلها من تضحيات.
فلم يستطيع الاتحاد السوفيتى الذى كان ينتج وحده 20 % من الإنتاج العالمى، و مع كل الدول التى كانت تدور فى فلكه بما كان فيها من دول صناعية متقدمة فى الأصل كألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا أن يصمدوا أمام حصار الرأسمالية العالمية لهم، وفى النهاية انهاروا أمامها، ولم تستطع الصين الصمود فى محاولتها عدم اللحاق بالغرب بعد طول ممانعة، فسعت بنفسها للاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى محققة أعلى مستوى استغلال وقهر فى العالم للعمل المأجور، و أعلى معدلات نمو رأسمالى فى العالم فى نفس الوقت ، يرشحها لتصبح المركز الرأسمالى الأهم فى العالم بعد عقود قليلة، برغم اللافتة الشيوعية المرفوعة، فهل تستطيع إذن بلاد فقيرة كمصر أو حتى المنطقة العربية موحدة أن تستقل حقا عن الرأسمالية العالمية دون استبداد سياسى يفرض تقشفا يصل إلى حد المجاعة على السكان كالحادث فى كوريا الشمالية.
رابعا أنصار الاشتراكية فورا
لا شك أن نمط الإنتاج البرجوازى من أجل التبادل والربح أصبح يشكل خطرا لا حد له على وجود البشرية وسلامة البيئة وصلاحيتها للحياة البشرية على الأرض،مما يعنى أن تحطيم هذا النمط أصبح ضرورة حيوية ليس للبروليتاريا فقط بل و للرأسماليين أنفسهم باعتبارهم بشر فى النهاية، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فالاشتراكية الحقيقية وفقا للفرضية الماركسية لا يمكن أن تبنى على بنية اجتماعية متخلفة فى بلد كمصر، إلا أن فرضية لينين بإمكانية تحقق الثورة الاشتراكية العالمية بدءا من أضعف الحلقات الرأسمالية المتقدمة فى روسيا بشرط أن تمتد شرارة الثورة للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة لتعوض تخلف البنية الروسية، تحققت فى شقها الأول فحسب، إلا أن التمادى فى البعد عن الفرضية الماركسية الأصلية وصل بماو إلى أن يفترض أننا يمكن أن نحقق الثورة الاشتراكية بالاعتماد على فقراء الفلاحين فى ظل غياب البروليتاريا الصناعية فى أكثر البلاد تخلفا، والنتيجة معروفة للجميع، ففى كل هذه البلاد التى عرفت وصول الشيوعيين للسلطة انتهت التجربة بنمط إنتاجي يقوم على استغلال وقهر العمل المأجور لا يمكن أن ننسبه للاشتراكية الحقيقية التى لابد و أن تتحقق فيها الحرية والمساواة، و التى ينبغى أن تكون الأكثر تقدما من الرأسمالية،و أن يتحرر فيها العمال من عبودية العمل المأجور، هذا النمط الذى تحقق فى الواقع فى البلاد المتخلفة أطلق عليه العديد من الأسماء أشهرها البيروقراطى ورأسمالية الدولة واشتراكية الدولة و الستالينى..الخ. أما النمط اللاسلطوى من الاشتراكية فلم يتحقق واقعيا، وهو النمط الذى يحقق المثل العليا الاشتراكية فى الحرية والمساواة والتقدم .
يمكن أن يدفع أنصار اشتراكية الدولة بأن نمط مختلف نسبيا من اشتراكية الدولة فى كوبا أقل بقرطة و أكثر ديمقراطية مازال مستمرا فى صموده رغم ضراوة الحصار الرأسمالى، هذا لو صرفنا النظر عن المهاجرين أو الحالمين بالهجرة من الجنة الكوبية إلى جحيم الولايات المتحدة.
إذا لم تكن الفرضية الماركسية الأصلية بأن الاشتراكية لا يمكن أن تتحقق إلا فى أكثر البلاد الرأسمالية تقدما حتمية وصحيحة، بل مجرد احتمال وتنبؤ غير مؤكد، وأننا على العكس يمكن أن نحقق الاشتراكية فى بلد متخلف كمصر الآن كما يزعم من يريدون الاشتراكية فورا، فكيف سنواجه حصار الرأسمالية العالمية للثورة، و كيف سنتغلب على عقبات تخلف الواقع المصرى وانحطاطه المروع على كافة الأصعدة و فقره، وما سيكون عليه الوضع عندما تنضب ينابيع المعونات الغربية و إيرادات المصريين العاملين بالخارج وتنخفض إيرادات السياحة والبترول فى ظل غياب مساعدة بلد غنى ومتقدم كالاتحاد السوفيتى السابق فى نفس الوقت .ألن نجد أنفسنا فى نفس الوضع الذى وجد البلاشفة فيه أنفسهم، فترتد الثورة لنفس النمط البيروقراطى السلطوى من الاشتراكية، و إن لم يكن هذا قدرا محتوما على كل ثورة اشتراكية فى بلد واحد متخلف كما يفترض هؤلاء فكيف يمكن تلافيه.
كما يمكنهم الدفع بأن الفكاك من هذا المصير يعتمد على نجاحنا فى تقديم نموذج للنمو والتقدم مختلف عن النموذج البرجوازى، بأن ننتج لتلبية الاحتياجات الاستعمالية للمواطنين دون الانزلاق لخطأ الإنتاج من أجل التبادل، و أن لا نتورط فى سباق التسلح والتنافس مع المركز الرأسمالى،ونتخلى عن منطق اللحاق به، وعن منطق الربح فى الإنتاج، ودون تكرار الأخطاء التى وقعت فيها الدول الاشتراكية من مركزية التخطيط والإدارة البيروقراطية للإنتاج وبوليسية الدولة و استبداديتها..الخ الخ.
كما يمكنهم الدفع بأن البنية الاجتماعية الأكثر تقدما تدفع بالفرد للرقى كما تدفعه بنية اجتماعية أخرى للانحطاط، وأن علاقة إنتاج أكثر تقدما ستؤدى تلقائيا لزيادة الإنتاجية، كما أن علاقة إنتاج أقل تقدما ستؤدى تلقائيا لخفض الإنتاجية، ومن ثم فعلاقات الإنتاج الاشتراكية الحقيقية القائمة على الإدارة الذاتية والديمقراطية من العاملين لوحدات الإنتاج والخدمات المختلفة، و التى تضمن التحرر من عبودية العمل المأجور،والتخطيط والتنسيق الديمقراطى بين هذه الوحدات ستحقق تلقائيا تجاوز التخلف والانحطاط فى الواقع الاجتماعى.
كما يمكنهم الدفع بأن للوعى البشرى والإرادة البشرية دورا هاما فى التغيير الاجتماعى و هذا قد يفسر الثورة الروسية رغم تخلف الواقع فيها، إلا أننا مع قبولنا حتى بهذه الدفوع، فعلينا أن نقرر حقيقة أن الاشتراكيون فى مصر ليسوا كالاشتراكيين فى روسيا ، فالاشتراكيون لدينا عموما يفتقدون لأهم ما كانت تملكه القطاعات الواسعة من المثقفين الروس وفهمهم لدورهم ما قبل الثورة، وهو الإيمان بقدرات العمال والفلاحيين الروس باعتبارهم حاملوا التغيير للحداثة والحرية والتقدم فى روسيا بدءا من الشعبيين إلى الماركسيين، و هم لا يملكون هذا الاندفاع الحماسى الدؤوب الذى ميز المثقفون الروس للارتباط بهم وبقضاياهم، وتعليمهم وتنظيمهم، واستعدادهم لدفع ثمن هذا النضال فى المنافى والسجون، لاحظ أنه لم توجد منظمة شيوعية مصرية ذات عضوية كبيرة من العمال ولا نقول غالبية العضوية فيها من العمال اللهم إلا الحزب الشيوعى القديم والطليعة الشعبية للتحرر، و ذلك بسبب ممارسات الماركسيين المصريين وأفكارهم وممارستهم السياسية جنبا إلى قمع الدولة للعمال ورشوتهم والثقافة السائدة وتصفية المجتمع المدنى. و لا أذكر أن هناك محاولات جدية قدمها اليسار بدءا من السبعينات إلى الآن ليغرز نفسه بعمق فى الواقع الاجتماعى الذى يدعى التعبير عنه وهو البروليتاريا سواء بمفهومها الواسع أو بمفهومها الضيق، ومن ثم سيصبح هؤلاء الاشتراكيون معلقين فى الفراغ رغم كل التضحيات العديدة من كوادرهم التى ضاعت بسبب انشغالهم المرضى بقضايا التحرر الوطنى والقومى وليس التحرر الطبقى والإنساني،و لميولهم الشعبوية وارتباطهم بتقديس الدولة. ولكل هذا فحتى الطرح الاشتراكى سواء فى أسوء أشكاله "اشتراكية الدولة" أو أفضل أشكاله الاشتراكية اللاسلطوية لا يمكن طرحه الآن على جدول الأعمال العاجل، ذلك أنه شأن كل الأطروحات السياسية التى تحملها القوى السياسية المختلفة معزول عن أى قواعد اجتماعية.
فى الحقيقة أن تبنى اليساريين لأفكارهم اليسارية ليس وليد البرهنة العلمية فقط كما يتوهم الماركسيون فى أنفسهم، وإنما هناك جذور أخلاقية لهذا التبنى ،وهذا لا يعيبهم على الإطلاق ،فمادامت احتمالات التطور البشرى متعددة فما الذى يمنع أن تكافح من أجل الاحتمال الأفضل.
إن تغيرات اشتراكية حقيقية غير ممكنة على بنية تخلف وفقر وانحطاط فى بلد كمصر دون مساعدة من بنيات اجتماعية أكثر تقدما وثراءا ورقيا، ولن يتم هذا إلا فى إطار ثورة بروليتارية عالمية أصبحت أكثر واقعية وإلحاحا الآن منها بالأمس، ذلك أن سر أزمة كل الحركات السياسية السابق الإشارة إليها، أنها مازلت موجهة ضد الدولة القومية، فى حين أن مركز السلطة السياسى تحرك من الدولة القومية ليصبح مركزا عالميا ممثلا فى العديد من السلطات الدولية ، وهو يمارس استبداده على الدولة القومية نفسها، وهو ما لمسته الحركة العالمية المناهضة للعولمة الرأسمالية التى تناهض تلك المؤسسات والسلطات العالمية.
ومن ثم فأنا أرى أنه لا أمل فى تغيرات جذرية فى بلاد الأطراف المتخلفة تقوم بمبادرة من داخلها وبقواها الذاتية معزولة عن تغيرات فى بلاد المركز المتقدم، فالأمل أن تحدث تحولات اشتراكية ثورية فى بلدان المركز المتقدم كألمانيا و روسيا أو بلاد طرفية قريبة من المركز كالبرازيل وجنوب أفريقيا والصين، تؤثر لدينا على نحو مباشر أو غير مباشر فى إطار ثورة عالمية تناضل من أجل تحقيقها الآن الأجنحة الثورية فى الحركة العالمية المناهضة للعولمة، و الأمميات الثورية التى توحد الجذرين فى العالم سواء من الماركسيين أو اللاسلطويين.
ولاشك أنه مما يساعد على توحد هؤلاء و نشاطهم المشترك،هو ثورة الاتصالات الحديثة ومنها الانترنت، و المنتديات الاجتماعية العالمية والإقليمية والمحلية وغيرها، بل وكثير من المواقع على الانترنت تساعد على هذا التوحد والحوار والارتباط بين القوى اليسارية الثورية إقليميا ومحليا، إلا أنه يبقى علي هذه الأجنحة أن تغرس نفسها بعمق فى الواقع الاجتماعى فى بلادها وهذا متحقق بدرجات متفاوتة فى الكثير من البلاد، إلا أن اليسار فى مصر أبعد ما يكون عن هذا المجال من النضال، ولا يعنى هذا أن على الاشتراكيين فى المجتمعات المتخلفة أن يكفوا عن النضال، وأن ينتظروا بسلبية انطلاق الشرارة الثورية فى بلاد المركز أو الأطراف المتقدمة، بل عليهم الانخراط بدورهم فى خلق القاعدة الاجتماعية لهذا التغيير الثورى فى بلادهم عبر عمل دؤوب ومركز قد يستغرق سنوات، يتلخص فى نشر الوعى الثورى بين القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فى هذا التغيير، والارتباط والتضامن مع احتجاجتها ومنظماتها المدنية، وتبنى قضاياها المختلفة، والابتعاد فى نفس الوقت عما اعتادت عليه القوى السياسية المصرية عن كل ما هو نخبوى و استعراضى فى الممارسة السياسية التى تستهلك الوقت والجهد والطاقة بلا طائل. فعندما ننغرز فى الواقع الاجتماعى يمكنا فقط أن نطرح الاشتراكية فورا ولكن ليس قبل ذلك.
ربما قد يشهد العالم هذه التغيرات الثورية قريبا فى ضوء الأزمة الرأسمالية الحالية وتصاعد الحركة العالمية المناهضة للرأسمالية فى معظم بلاد المركز والعديد من بلاد الأطراف خصوصا فى أمريكا اللاتينية، و قد لا يشهدها أيضا فقد ينزلق العالم لفترة من الحروب العنصرية والفاشيات المختلفة والتفكك على النمط الصومالى ، ففى فلسفة العلم أصبح اليقين والقطع لا يحكم الطبيعة، فما بالك بالمجتمعات البشرية ،ومن ثم فالكفاح من أجل ترجيح أحد الاحتمالات هو خيار ليس من الضرورى أن تتم البرهنة على يقينيته وحتميته، بل البرهنة على أفضليته.
المهمة العاجلة التى يجب أن تتركز فيها الجهود هى توحيد الطبقة العاملة العالمية فى مواجهة الرأسمالية العالمية،من أسفل لأعلى من وحدة الإنتاج أو الخدمات إلى العالم بأسره،من أجل ترجيح الاحتمال الأفضل.
كان السقوط المدوى للأنظمة البيروقراطية التى عرفت بالاشتراكية فى الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا والتحول الفعلى من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية التقليدية فى الصين الشعبية، وسقوط كل أشكال رأسمالية الدولة الوطنية فى العالم الثالث، هى اللحظة التى بدأت فيها عملية التحول الكبرى لغالبية الشيوعيين لمعسكر الوسط سياسيا، منقسمين إما على يساره نحو الاشتراكية الديمقراطية و إما على يمينه تجاه الليبرالية، كما أن الكثيرين أيضا انتقلوا لصفوف الحركات القومية والدينية الفاشية و الشعبوية، كما أن الكثيرين منهم ظلوا فى معسكر اليسار التقليدى يرددون نفس الخطاب القديم حول إمكانية بناء الاشتراكية فى بلد واحد مع بعض التعديلات الديمقراطية اللازمة على نموذج اشتراكية الدولة الستالينى.
فى هذا المقال سأحاول إثبات أن كل هذه الخطابات لا تستند على برهنة علمية، بل أنها ناتجة عن الاستسهال فى تحديد المواقف السياسية، وكمثال على السطحية يقول أحدهم ببساطة أنه مادامت الاشتراكية قد سقطت فالرأسمالية هى النظام الأفضل، و مادمنا فشلنا فى تحقيق الاشتراكية فلابد وأنها مجرد حلم خيالى مستبعد تحقيقه، تماما كسطحية تفسير سقوط نفس تلك الاشتراكية بنظرية المؤامرة أو الأخطاء التى لحقت بالتطبيق.
الأمانة تقتضى أن نقر بوجود معضلة بالغة الصعوبة ناتجة عن أزمة عميقة فى الواقع الاجتماعى سواء محليا أو إقليميا أو عالميا، يصاحبها فى نفس الوقت عجز كل القوى السياسية على تقديم حلول عملية لتجاوز تلك الأزمة، فالبشرية عموما تواجه خطر ماثل هو الانحطاط للبربرية بسبب استمرار الرأسمالية، و فشل مناهضيها فى هزيمتها حتى الآن، وهذا ما تمت البرهنة العلمية عليه بشتى الطرق على مدى القرن الماضي، إلا أن الانحطاط فى بلدان الأطراف المتخلفة كمصر أشد منه فى بلاد المركز المتقدم كفرنسا، أما فى بلاد الشرق الأوسط فإن الانحطاط قد بلغ الحضيض.
أن العجز عن تقديم الحل العملى و العاجل للأزمة مصريا و هو ما سيتم التركيز عليه فى هذا المقال، ناتج بالأساس عن أن كل هذه النخب السياسية فى بلادنا التى تطرح كل هذه الخطابات تفتقد إلى الارتباط بأى قوى اجتماعية فى الواقع، ولذلك فهى أضعف من أن تقود الجماهير لتحقيق أبسط الإصلاحات السياسية حتى ولو كانت إلغاء حالة الطوارىء، بل و أعجز من أن تمنع توريث الحكم، فما بالكم بالإصلاح الجذرى للأوضاع، ومادامت المسألة لا تتجاوز إعلان المواقف إرضاءا للضمير و إثباتا للوجود لا غير ، فليظل الجميع يسبحون فى الكلام الذى لا يحاسبهم عليه أحد، والاكتفاء بممارسات سياسية نخبوية واستعراضية أشبه بالاستنماء، ولأن هذه النخب تصر على عدم رؤية الواقع و لا رؤية نفسها على حقيقتها، فأنها تمارس السياسة كما لو كانت قوى سياسية حقيقية قادرة على مناطحة النظام، ومن ثم فأنها تصر على إنتاج برامج سياسية تحاول تسويقها لجمهور من المستهلكين، أصبح عازفا عن أن يستهلكها،وأن يحتشد خلفها.
فى الحقيقة إن ما سوف أشير إليه من براهين فى هذا المقال قد تم تكراره لملايين المرات، بقلمى وبأقلام غيرى من الكتاب و بكل اللغات، إلا أنى لم أقرأ ردود قوية عليها حتى الآن، برغم إصرار الكثير من الكتاب عندنا على الاجترار الممل لنفس الأفكار القديمة المتعالية عن الدفاع عن نفسها أمام تلك البراهين.
أولا أنصار الليبرالية الرأسمالية
يستند دعاة الليبرالية الرأسمالية على الصورة التى تقدم عن بلاد الليبرالية فى صورتها النقية، وهى تحديدا بلاد المهجر الرأسمالية المتقدمة الولايات المتحدة وكندا واستراليا، ففى هذه البلاد استطاعت الرأسمالية أن تسود وتحكم فى ظل الليبرالية السياسية والاقتصادية بشكلهما الكامل دون تقديم تنازلات كبيرة للطبقتين العاملة و الوسطى، فى نفس الوقت التى تمتعت فيه الغالبية العظمى من السكان بمستوى مرتفع من الدخل طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا ناتج عن ظرف تاريخى محدد هو عدم امتداد الحرب لحدود هذه البلاد التى شاركت فيها كمورد للمؤن والسلاح للحلفاء، وفى ظل ظروف التشغيل شبه الكامل للعمالة بالتخلص من فائضهم كمحاربين خارج حدودها، فى نفس الوقت التى احتفظت فيه بكل بنيتها التحتية والإنتاجية سليمة تماما مما أعفاها من جهود التعمير الداخلى ما بعد الحرب، وليتدفق الاستثمار الأمريكى فى غرب أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية بتلك الأموال التى تم ربحها من تمويل باقى الحلفاء، مما ضخ المزيد من الأموال للاقتصاد الأمريكي الرابح الأعظم و الأوحد من تلك الحرب، مع ملاحظة أن هذا هو ما تكرر أيضا فى الحرب العالمية الأولى إلى حد كبير، وبالطبع يتم التغاضى عن هذه الحقيقة التاريخية لتصبح الليبرالية السياسية الاقتصادية المطلقة فى تلك البلاد هى السبب فى كل هذا الثراء والرفاهية التى تمتعت بها شعوب تلك البلاد، وليس ذلك فحسب بل يتم التغاضى عن أن دول المهجر تلك و الغنية بالموارد البكر ظلت تجتذب المهاجرين من أفضل العناصر البشرية يدويا وذهنيا مما يحسن دوما من نوعية قوى العمل، ويرفع دائما من مستوى الإنتاجية، وهم غالبا من الطموحين لتحقيق حلم الثراء الفردى، ومن المشبعين بالحلم الأمريكى، مما أضعف مبررات الصراع الطبقى لديهم أحيانا، إلا أن هذا الوضع الغريب للقوى العاملة فى بلاد المهجر لم يكن موجودا عبر كل تاريخ تلك الدول، فقد عرفت الولايات المتحدة على سبيل المثال طوال النصف الأول من القرن العشرين حركات عمالية سياسية و نقابية قوية عبرت عن حدة الصراع الطبقى حينما تضاءلت فرص الثراء الفردى أمام هؤلاء المهاجرين، بل أن تاريخ اليسار الأمريكى عرف أوائل القرن العشرين أكبر المنظمات اليسارية الجذرية على مستوى العالم تاريخيا، وهى منظمة عمال العالم الصناعيين إلا أنه تم تدمير وتخريب المنظمات السياسية والنقابية للطبقة العاملة بأشكال من الاضطهاد يتجاهل الحديث عنها الليبراليين دائما، واختراق المافيا و المخابرات لقيادات النقابات والمنظمات السياسية، فضلا عن السياسة العنصرية لأصحاب المصانع التى قسمت العمال لبيض وسود ولاتينيين فيما يتعلق بالأجور مما اضعف من فرص توحدهم فى مواجهة أصحاب العمل ( إجابة المستشرق الأمريكى اليسارى "جول بنين" عن سر ضعف الطبقة العاملة الأمريكية خلال حوار معه فى القاهرة خريف 2003)، ومن ثم أصبحت الحياة السياسية فى الولايات المتحدة محصورة فى حزبين رأسماليين كبيرين، كما ينبغى أن لا ننسى أن الرأسمالية فى تلك البلاد شهدت أسوء مظاهر أزمة الكساد الكبرى التى واجهتها الرأسمالية الأمريكية بالسياسات المتمثلة فى الصفقة الجديدة.
أما فى بلد كمصر فيعتمد اقتصادها أساسا على مصادر دخل ريعية ترتبط صعودا وهبوطا بصعود وهبوط الاقتصاد الرأسمالى المتقدم الذى يستهلك تلك الخدمات والسلع كالبترول والمعادن وقناة السويس والسياحة، كما يعتمد على إيرادات العاملين بالخارج و على المعونات الغربية ، فمما لاشك فيه أن هذا الضعف الهيكلى فى الاقتصاد وفقر الموارد الذاتية فى مصر يؤسس موضوعيا لهذا الانحطاط، و لا يتيح فرصة النمو إلا لنوع من الرأسمالية الرثة التى لا يمكن أن تحكم إلا فى ظل الاستبداد السياسى.
فحتى تستطيع الرأسمالية أن تحكم فى ظل الليبرالية الاقتصادية والسياسية، فلابد وأن يكون لديها فوائض تنفقها لامتصاص سخط الطبقتين العاملة و الوسطى ،و موارد تتيح فرص الثراء الفردى للغالبية، التى لن تحتشد خلف برنامج ليبرالى فى الحدود السياسية الاقتصادية دون إعطاءها مكتسبات تحسن من ظروف حياتها، و فى الحد الأدنى حلم الثراء الفردى، إلا أن الماركسيين السابقين والليبراليين حاليا، تناسوا أنك لن تستطيع أن تفكر قبل أن تملأ المعدة بالطعام، فالحريات السياسية مطلب الشبعى من الناس، أما الجوعى منهم فعلى أتم استعداد للتنازل عن حرياتهم السياسية لمن يوفر لهم الخبز أو يوهمهم بتوفيره، و فى حالة توفر الخبز سيفكرون بالطبع فى الحرية، ويطالبون بها، يمكنك فقط أن تحرمهم من كل من الخبز والحرية فى ظل الاستبداد السياسى و البوليسى كما هو حادث الآن، إلا أن هذا لا يمكن فى ظل الليبرالية السياسية والاقتصادية التى يبشر بها المفتونون بالنموذج الأمريكى معزولا عن الظروف الواقعية التى أفرزته.
فلو طبقنا البرنامج الليبرالى كاملا فى مصر الآن بالاستغناء عن ملايين الموظفين والعمال الزائدين عن الحاجة فى الحكومة، وألغينا الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، وتمت خصخصة باقى المؤسسات والمرافق الحكومية، وحررنا السوق من كل القيود، فلن يؤدى هذا إلا للمزيد من الإفقار والبطالة و التهميش للغالبية الساحقة من السكان التى لن تنتظر كثيرا بركات الليبرالية فى النمو، وأما الشق السياسى فى البرنامج الليبرالى فسيصبح بلا معنى لكل هؤلاء الجوعى، أما القلة التى ستستفيد من هذا البرنامج فلن تستطيع أن تصمد أمام غضب هؤلاء الجوعى.
ثانيا أنصار الاشتراكية الديمقراطية
يعترف دعاة الاشتراكية الديمقراطية بأهمية الربط بين الخبز والحرية، و أعينهم بالطبع على نموذج دولة الرفاهية فى غرب أوروبا، مثبتين نظرهم على فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية، وأثاره المتبقية حتى الآن، متغاضين بإصرار عجيب عن فحص أسباب صعود هذا النموذج و حقيقة هبوطه وأزمته الراهنة، متجاهلين أن هناك واقع عالمى جديد أصبح من مستلزماته تدمير دولة الرفاهية التى صنعتها الاشتراكية الديمقراطية فى غرب أوروبا، والتى يتوهمون بإمكانية تكرارها فى بلد مفلس كمصر، ومتجاهلين أن كل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى غرب أوروبا سواء فى الحكم أو فى المعارضة سقطت تماما فى معسكر الليبرالية، و ذلك بسبب حقيقة يتم تجاهلها عمدا من كل دعاة الاشتراكية الديمقراطية، وهى خضوع كل دول العالم وحكوماته بلا استثناء من أقواها وحتى أضعفها لديكتاتورية أسواق الأموال العالمية التى أفقدت الديمقراطية البرجوازية أى مصداقية كما أفقدت الدولة القومية الكثير من استقلاليتها وسيادتها.
فنجاح ذلك اللون من الاشتراكية مرتبط واقعيا بظروف تاريخية معينة فى دول غرب أوروبا، أولها درجة متطورة من الديمقراطية التمثيلية والليبرالية السياسية سمحت للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بالوصول للسلطة، و درجة معينة من الاستقلال الاقتصادى للدولة سمحت لها بتطبيق برامجها الإصلاحية، و ثانيها رواج رأسمالى سببته أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية التى أتاحت فرص التشغيل الكامل للعمالة، و توافر فوائض مالية من الأرباح الاحتكارية، تم توجيهها لتحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقتين العاملة و الوسطى، ومن ثم التخفيف من حدة الصراع الطبقى، و ثالثها الرعب من امتداد الثورة البروليتارية من شرق أوروبا لغربها، كان لابد للرأسمالية الحاكمة أن تقدم كبديل عنه نموذج أكثر جاذبية للحياة مما هو فى شرق أوروبا، و رابعها ظروف الحرب الباردة التى دفعت الرأسمالية الأمريكية لضخ الأموال الفائضة لديها للتعمير والاستثمار فى غرب أوروبا و بعض بلاد شرق آسيا الحليفة لها ككوريا الجنوبية وتايوان وخاصة اليابان، و خامسها توافر إمكانية تطبيق حل أزمات الكساد الدورية بزيادة الإنفاق العام المشروط طبعا بتوافر الفائض لهذا الإنفاق، إلا أنه حل أصبح غير ممكن فى ضوء أزمة الركود التضخمى السائدة فى العالم منذ السبعينات وحتى الآن.
والاشتراكيون الديمقراطيون لدينا يتجاهلون بجانب كل هذه الظروف الموضوعية، أن معظم المكاسب التى تم تحقيقها فى فترة دولة الرفاهية يتم سحبها الآن، على سبيل المثال ألمانيا فى ظل الحكومة الاشتراكية الديمقراطية نفسها التى خلقت أكبر دولة رفاهية فى غرب أوروبا، وهى بلد لم يصبه البؤس والفقر كمصر حتى الآن.
العوامل السابقة لا تتوافر لدينا لنجاح مثل هذا النموذج بداية رغم تمسك الكثير من اليساريين السابقين به الآن بعد أن فقد النموذج الثورى جاذبيته بالنسبة لقطاع واسع منهم، أو لعدم توافر الظروف الذاتية والموضوعية لتحققه عمليا بالنسبة لآخرين.فمن أين سيأتون بالفوائض المالية التى توفرت لدى بلدان غرب أوروبا لتوفير الحقوق الاجتماعية للبروليتاريا، وما الذى سيدفع الرأسمالية المحلية والعالمية للتنازل عن أجزاء من أرباحها فى ظل ضعف الطبقة العاملة سياسيا ونقابيا، وكيف ستفرض الدولة حقوق العمل على الرأسماليين المصريين والأجانب، وكيف ستجتذب أموال المستثمرين فى نفس وقت الحاجة الماسة إليها للنمو، وهم الذين ينتقلون عبر العالم بحثا عن العمالة الأرخص والأقل حقوقا ووعيا. فإما أن ترضخ لرغباتهم ليأتوا إليك بأموالهم أو سيهربون، وبلد كمصر ليست كبلاد البترول قليلة السكان كبلاد الخليج التى تتوافر لديها بعض الفوائض المالية للاستثمار، والإنفاق العام، أن ما تملكه من ميزة هو قوة عمل رخيصة تهرب لفرص العمل الأفضل فى الخارج إن لم تجد فرص عمل بالداخل.
ثالثا أنصار التحرر الوطنى
يعتمد أنصار التحرر الوطنى وحلم التنمية المستقلة على وهم أن العالم ينقسم لبلاد استعمارية متقدمة وبلاد متخلفة تابعة لها، وأن هناك إمكانية أن تستقل الدول المتخلفة وتتقدم بمعزل عن الارتباط بالدول الاستعمارية المتقدمة بل وفى مواجهتها، سواء فى كل بلد على حدة أو باتحاد هذه البلدان فيما بينها، و لأن هذه البلاد المتقدمة تحتكر وسائل الإنتاج المتقدمة فإن على هذه الدول المتخلفة أن تحقق تنمية مستقلة، وأن تتخلى عن هدف اللحاق بالعالم المتقدم، وتقدم هى نموذج آخر للتقدم مستقل عن المركز المتقدم، و المعضلة فى الحقيقة أنى من القلة القليلة للغاية التى تحتقر بعمق ثقافة الاستهلاك البرجوازية، إلا على أن أقر بأن الغالبية الساحقة من البشر يتبنونها بحماس، كما أن هذه القلة التى انتمى إليها تود لو عاشت نمط مختلف من الحياة المتقشفة لأنها تراه الأقرب للحكمة، إلا أن الغالبية الساحقة تود لو عاشت فى جنة الاستهلاك السلعى فى العالم المتقدم لأنها تراه الأقرب للعقل. فهل يمكن للقلة من أمثالى أن تفرض ما تراه على الأغلبية إلا فى ظل التسلط عليها، أو انتظار أن تقتنع بما نرى.
الحقيقة الأخرى التى سبق الإشارة إليها هى أن عالمنا بكل دوله وحكوماته و بأقسامه المتخلفة و المتقدمة على حد سواء، أصبح خاضعا لديكتاتورية رأسمالية عالمية لا تعرف حدودا، و لا تحمل أى جنسية، ولا تنتمى إلى أى قومية أو دين، ولا لون لها، ولا تتحدث بلغة بعينها، و أن بعض شركاتها أقوى وأغنى و أعظم نفوذا من بلاد قارة كاملة كأفريقيا، هدفها الوحيد هو الربح ولا يهمها من أين وكيف يأتى، وعضوية مؤسساتها لمن يملك المال الذى يمكنه من شراء أسهمها بصرف النظر عن محل إقامته أو وطنه أو دينه، ولها من الأجهزة السياسية الدولية كالبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية ما يمكنها من فرض إرادتها على جميع الحكومات، بل وشراء جيوش المرتزقة لحماية مصالحها، ،وفرض إرادتها وتوجيهاتها على أقوى الحكومات، و التى شاءت أم أبت،إن عاجلا أو آجلا، لا تملك إلا أن تكسب ودها مادام لديها وحدها مفاتيح الاستثمار والنمو وفرص تشغيل العمالة.
والحقيقة الثالثة هى أنه كان يمكن لبلد كمصر شأنها فى ذلك شأن كل دول الأطراف المتخلفة، فى ظل ظروف الحرب الباردة أن تلعب على انقسام العالم المتقدم لمعسكرين متنافسين لتجتذب الأموال والتكنولوجيا من أحدى المعسكرين إليها لتحقيق بعض النمو الذى بدا للبعض مستقلا على عكس حقيقته، وأن تحقق بعض المكاسب الضئيلة للطبقتين الوسطى والعاملة من خلال رأسمالية الدولة الوطنية، إلا أن الظروف تغيرت وأصبح العالم فيما عدا دول قليلة للغاية مجرد سوق واحدة تتحرك فيها الأموال والسلع بحرية، و قد توحدت الرأسمالية فى العالم من خلاله كطبقة، فى حين أن نقيضتها الطبقة العاملة مازالت مفتتة باسم الوطنية والقومية والدين والجنس واللون والعرق واللغة، فى حين أنها الوحيدة المؤهلة لهزيمة تلك الرأسمالية لو توحدت هى الأخرى عبر العالم، والأمر الذى قد لا يدركه أنصار التحرر الوطنى هؤلاء أنه وبرغم كل ادعاءاتهم عن أنفسهم بأنهم تقدميون ويساريون وتحرريون، فأنهم يساعدون على تفتيت الوحدة العمالية العالمية كشرط جوهرى لهزيمة الرأسمالية، بدعمهم أساطير الهويات القومية والوطنية والدينية والثقافية والعرقية التى تطمس وتشوه الصراع الطبقى، و بترويجهم أساطير التحرر الوطنى و التنمية المستقلة..والحديث عن الإمبريالية و كأنها شىء مختلف عن الرأسمالية، و تقسيم الرأسمالية لعالمية و قومية، طفيلية ومنتجة..الخ، أنهم فى الحقيقة الطابور الخامس الذى يعمل لصالح استمرار تلك الرأسمالية، فهم يبيعون لنا أوهاما مستحيلة التحقق برغم كل ما بذل من أجلها من تضحيات.
فلم يستطيع الاتحاد السوفيتى الذى كان ينتج وحده 20 % من الإنتاج العالمى، و مع كل الدول التى كانت تدور فى فلكه بما كان فيها من دول صناعية متقدمة فى الأصل كألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا أن يصمدوا أمام حصار الرأسمالية العالمية لهم، وفى النهاية انهاروا أمامها، ولم تستطع الصين الصمود فى محاولتها عدم اللحاق بالغرب بعد طول ممانعة، فسعت بنفسها للاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى محققة أعلى مستوى استغلال وقهر فى العالم للعمل المأجور، و أعلى معدلات نمو رأسمالى فى العالم فى نفس الوقت ، يرشحها لتصبح المركز الرأسمالى الأهم فى العالم بعد عقود قليلة، برغم اللافتة الشيوعية المرفوعة، فهل تستطيع إذن بلاد فقيرة كمصر أو حتى المنطقة العربية موحدة أن تستقل حقا عن الرأسمالية العالمية دون استبداد سياسى يفرض تقشفا يصل إلى حد المجاعة على السكان كالحادث فى كوريا الشمالية.
رابعا أنصار الاشتراكية فورا
لا شك أن نمط الإنتاج البرجوازى من أجل التبادل والربح أصبح يشكل خطرا لا حد له على وجود البشرية وسلامة البيئة وصلاحيتها للحياة البشرية على الأرض،مما يعنى أن تحطيم هذا النمط أصبح ضرورة حيوية ليس للبروليتاريا فقط بل و للرأسماليين أنفسهم باعتبارهم بشر فى النهاية، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فالاشتراكية الحقيقية وفقا للفرضية الماركسية لا يمكن أن تبنى على بنية اجتماعية متخلفة فى بلد كمصر، إلا أن فرضية لينين بإمكانية تحقق الثورة الاشتراكية العالمية بدءا من أضعف الحلقات الرأسمالية المتقدمة فى روسيا بشرط أن تمتد شرارة الثورة للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة لتعوض تخلف البنية الروسية، تحققت فى شقها الأول فحسب، إلا أن التمادى فى البعد عن الفرضية الماركسية الأصلية وصل بماو إلى أن يفترض أننا يمكن أن نحقق الثورة الاشتراكية بالاعتماد على فقراء الفلاحين فى ظل غياب البروليتاريا الصناعية فى أكثر البلاد تخلفا، والنتيجة معروفة للجميع، ففى كل هذه البلاد التى عرفت وصول الشيوعيين للسلطة انتهت التجربة بنمط إنتاجي يقوم على استغلال وقهر العمل المأجور لا يمكن أن ننسبه للاشتراكية الحقيقية التى لابد و أن تتحقق فيها الحرية والمساواة، و التى ينبغى أن تكون الأكثر تقدما من الرأسمالية،و أن يتحرر فيها العمال من عبودية العمل المأجور، هذا النمط الذى تحقق فى الواقع فى البلاد المتخلفة أطلق عليه العديد من الأسماء أشهرها البيروقراطى ورأسمالية الدولة واشتراكية الدولة و الستالينى..الخ. أما النمط اللاسلطوى من الاشتراكية فلم يتحقق واقعيا، وهو النمط الذى يحقق المثل العليا الاشتراكية فى الحرية والمساواة والتقدم .
يمكن أن يدفع أنصار اشتراكية الدولة بأن نمط مختلف نسبيا من اشتراكية الدولة فى كوبا أقل بقرطة و أكثر ديمقراطية مازال مستمرا فى صموده رغم ضراوة الحصار الرأسمالى، هذا لو صرفنا النظر عن المهاجرين أو الحالمين بالهجرة من الجنة الكوبية إلى جحيم الولايات المتحدة.
إذا لم تكن الفرضية الماركسية الأصلية بأن الاشتراكية لا يمكن أن تتحقق إلا فى أكثر البلاد الرأسمالية تقدما حتمية وصحيحة، بل مجرد احتمال وتنبؤ غير مؤكد، وأننا على العكس يمكن أن نحقق الاشتراكية فى بلد متخلف كمصر الآن كما يزعم من يريدون الاشتراكية فورا، فكيف سنواجه حصار الرأسمالية العالمية للثورة، و كيف سنتغلب على عقبات تخلف الواقع المصرى وانحطاطه المروع على كافة الأصعدة و فقره، وما سيكون عليه الوضع عندما تنضب ينابيع المعونات الغربية و إيرادات المصريين العاملين بالخارج وتنخفض إيرادات السياحة والبترول فى ظل غياب مساعدة بلد غنى ومتقدم كالاتحاد السوفيتى السابق فى نفس الوقت .ألن نجد أنفسنا فى نفس الوضع الذى وجد البلاشفة فيه أنفسهم، فترتد الثورة لنفس النمط البيروقراطى السلطوى من الاشتراكية، و إن لم يكن هذا قدرا محتوما على كل ثورة اشتراكية فى بلد واحد متخلف كما يفترض هؤلاء فكيف يمكن تلافيه.
كما يمكنهم الدفع بأن الفكاك من هذا المصير يعتمد على نجاحنا فى تقديم نموذج للنمو والتقدم مختلف عن النموذج البرجوازى، بأن ننتج لتلبية الاحتياجات الاستعمالية للمواطنين دون الانزلاق لخطأ الإنتاج من أجل التبادل، و أن لا نتورط فى سباق التسلح والتنافس مع المركز الرأسمالى،ونتخلى عن منطق اللحاق به، وعن منطق الربح فى الإنتاج، ودون تكرار الأخطاء التى وقعت فيها الدول الاشتراكية من مركزية التخطيط والإدارة البيروقراطية للإنتاج وبوليسية الدولة و استبداديتها..الخ الخ.
كما يمكنهم الدفع بأن البنية الاجتماعية الأكثر تقدما تدفع بالفرد للرقى كما تدفعه بنية اجتماعية أخرى للانحطاط، وأن علاقة إنتاج أكثر تقدما ستؤدى تلقائيا لزيادة الإنتاجية، كما أن علاقة إنتاج أقل تقدما ستؤدى تلقائيا لخفض الإنتاجية، ومن ثم فعلاقات الإنتاج الاشتراكية الحقيقية القائمة على الإدارة الذاتية والديمقراطية من العاملين لوحدات الإنتاج والخدمات المختلفة، و التى تضمن التحرر من عبودية العمل المأجور،والتخطيط والتنسيق الديمقراطى بين هذه الوحدات ستحقق تلقائيا تجاوز التخلف والانحطاط فى الواقع الاجتماعى.
كما يمكنهم الدفع بأن للوعى البشرى والإرادة البشرية دورا هاما فى التغيير الاجتماعى و هذا قد يفسر الثورة الروسية رغم تخلف الواقع فيها، إلا أننا مع قبولنا حتى بهذه الدفوع، فعلينا أن نقرر حقيقة أن الاشتراكيون فى مصر ليسوا كالاشتراكيين فى روسيا ، فالاشتراكيون لدينا عموما يفتقدون لأهم ما كانت تملكه القطاعات الواسعة من المثقفين الروس وفهمهم لدورهم ما قبل الثورة، وهو الإيمان بقدرات العمال والفلاحيين الروس باعتبارهم حاملوا التغيير للحداثة والحرية والتقدم فى روسيا بدءا من الشعبيين إلى الماركسيين، و هم لا يملكون هذا الاندفاع الحماسى الدؤوب الذى ميز المثقفون الروس للارتباط بهم وبقضاياهم، وتعليمهم وتنظيمهم، واستعدادهم لدفع ثمن هذا النضال فى المنافى والسجون، لاحظ أنه لم توجد منظمة شيوعية مصرية ذات عضوية كبيرة من العمال ولا نقول غالبية العضوية فيها من العمال اللهم إلا الحزب الشيوعى القديم والطليعة الشعبية للتحرر، و ذلك بسبب ممارسات الماركسيين المصريين وأفكارهم وممارستهم السياسية جنبا إلى قمع الدولة للعمال ورشوتهم والثقافة السائدة وتصفية المجتمع المدنى. و لا أذكر أن هناك محاولات جدية قدمها اليسار بدءا من السبعينات إلى الآن ليغرز نفسه بعمق فى الواقع الاجتماعى الذى يدعى التعبير عنه وهو البروليتاريا سواء بمفهومها الواسع أو بمفهومها الضيق، ومن ثم سيصبح هؤلاء الاشتراكيون معلقين فى الفراغ رغم كل التضحيات العديدة من كوادرهم التى ضاعت بسبب انشغالهم المرضى بقضايا التحرر الوطنى والقومى وليس التحرر الطبقى والإنساني،و لميولهم الشعبوية وارتباطهم بتقديس الدولة. ولكل هذا فحتى الطرح الاشتراكى سواء فى أسوء أشكاله "اشتراكية الدولة" أو أفضل أشكاله الاشتراكية اللاسلطوية لا يمكن طرحه الآن على جدول الأعمال العاجل، ذلك أنه شأن كل الأطروحات السياسية التى تحملها القوى السياسية المختلفة معزول عن أى قواعد اجتماعية.
فى الحقيقة أن تبنى اليساريين لأفكارهم اليسارية ليس وليد البرهنة العلمية فقط كما يتوهم الماركسيون فى أنفسهم، وإنما هناك جذور أخلاقية لهذا التبنى ،وهذا لا يعيبهم على الإطلاق ،فمادامت احتمالات التطور البشرى متعددة فما الذى يمنع أن تكافح من أجل الاحتمال الأفضل.
إن تغيرات اشتراكية حقيقية غير ممكنة على بنية تخلف وفقر وانحطاط فى بلد كمصر دون مساعدة من بنيات اجتماعية أكثر تقدما وثراءا ورقيا، ولن يتم هذا إلا فى إطار ثورة بروليتارية عالمية أصبحت أكثر واقعية وإلحاحا الآن منها بالأمس، ذلك أن سر أزمة كل الحركات السياسية السابق الإشارة إليها، أنها مازلت موجهة ضد الدولة القومية، فى حين أن مركز السلطة السياسى تحرك من الدولة القومية ليصبح مركزا عالميا ممثلا فى العديد من السلطات الدولية ، وهو يمارس استبداده على الدولة القومية نفسها، وهو ما لمسته الحركة العالمية المناهضة للعولمة الرأسمالية التى تناهض تلك المؤسسات والسلطات العالمية.
ومن ثم فأنا أرى أنه لا أمل فى تغيرات جذرية فى بلاد الأطراف المتخلفة تقوم بمبادرة من داخلها وبقواها الذاتية معزولة عن تغيرات فى بلاد المركز المتقدم، فالأمل أن تحدث تحولات اشتراكية ثورية فى بلدان المركز المتقدم كألمانيا و روسيا أو بلاد طرفية قريبة من المركز كالبرازيل وجنوب أفريقيا والصين، تؤثر لدينا على نحو مباشر أو غير مباشر فى إطار ثورة عالمية تناضل من أجل تحقيقها الآن الأجنحة الثورية فى الحركة العالمية المناهضة للعولمة، و الأمميات الثورية التى توحد الجذرين فى العالم سواء من الماركسيين أو اللاسلطويين.
ولاشك أنه مما يساعد على توحد هؤلاء و نشاطهم المشترك،هو ثورة الاتصالات الحديثة ومنها الانترنت، و المنتديات الاجتماعية العالمية والإقليمية والمحلية وغيرها، بل وكثير من المواقع على الانترنت تساعد على هذا التوحد والحوار والارتباط بين القوى اليسارية الثورية إقليميا ومحليا، إلا أنه يبقى علي هذه الأجنحة أن تغرس نفسها بعمق فى الواقع الاجتماعى فى بلادها وهذا متحقق بدرجات متفاوتة فى الكثير من البلاد، إلا أن اليسار فى مصر أبعد ما يكون عن هذا المجال من النضال، ولا يعنى هذا أن على الاشتراكيين فى المجتمعات المتخلفة أن يكفوا عن النضال، وأن ينتظروا بسلبية انطلاق الشرارة الثورية فى بلاد المركز أو الأطراف المتقدمة، بل عليهم الانخراط بدورهم فى خلق القاعدة الاجتماعية لهذا التغيير الثورى فى بلادهم عبر عمل دؤوب ومركز قد يستغرق سنوات، يتلخص فى نشر الوعى الثورى بين القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فى هذا التغيير، والارتباط والتضامن مع احتجاجتها ومنظماتها المدنية، وتبنى قضاياها المختلفة، والابتعاد فى نفس الوقت عما اعتادت عليه القوى السياسية المصرية عن كل ما هو نخبوى و استعراضى فى الممارسة السياسية التى تستهلك الوقت والجهد والطاقة بلا طائل. فعندما ننغرز فى الواقع الاجتماعى يمكنا فقط أن نطرح الاشتراكية فورا ولكن ليس قبل ذلك.
ربما قد يشهد العالم هذه التغيرات الثورية قريبا فى ضوء الأزمة الرأسمالية الحالية وتصاعد الحركة العالمية المناهضة للرأسمالية فى معظم بلاد المركز والعديد من بلاد الأطراف خصوصا فى أمريكا اللاتينية، و قد لا يشهدها أيضا فقد ينزلق العالم لفترة من الحروب العنصرية والفاشيات المختلفة والتفكك على النمط الصومالى ، ففى فلسفة العلم أصبح اليقين والقطع لا يحكم الطبيعة، فما بالك بالمجتمعات البشرية ،ومن ثم فالكفاح من أجل ترجيح أحد الاحتمالات هو خيار ليس من الضرورى أن تتم البرهنة على يقينيته وحتميته، بل البرهنة على أفضليته.
المهمة العاجلة التى يجب أن تتركز فيها الجهود هى توحيد الطبقة العاملة العالمية فى مواجهة الرأسمالية العالمية،من أسفل لأعلى من وحدة الإنتاج أو الخدمات إلى العالم بأسره،من أجل ترجيح الاحتمال الأفضل.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية