الحرية والضعف البشرى
الحرية والضعف البشرى
سامح سعيد عبود
أتاحت لى ظروف العمل والحياة وقتا طويلا للقراءة والتأمل فى أحوال البشر، مما أوصلنى لنتيجة هامة جدا هى أنه لا يوجد من بين البشر من هو جدير بالوصاية عليهم أو حكمهم ، وذلك كامن فى الطبيعة المركبة لمخ الإنسان الذى يتحكم فى سلوكه وتفكيره ،و التى لا حيلة لنا فى تغييرها .. فهذا المخ مركب فى حقيقته من ثلاث أمخاخ، تنتمى لثلاث مراحل مختلفة من تطور الحياة على الأرض.. الأقدم وهو مخ الزواحف ذلك المسئول عن دوافعنا وغرائزنا الحيوانية وأنانيتنا وسلوكياتنا المتوحشة ، والأوسط وهو مخ الثدييات هذا المسئول عن عواطفنا وانصياعنا للقطيع الذى ننتمى إليه طائفة أو قومية، والأحدث وهو مخ الإنسان وهو المسئول عن تفكيرنا المجرد و المنطقى و حسنا الأخلاقى و احساسنا بالضمير وتوقنا للحرية والكمال، والحقيقة أننا نسلك ونفكر وفق كل تلك الأجزاء معا، ومن هنا تجد فى الحياة من قد يحصلون على أعلى التقديرات وفق مقاييس الذكاء بسبب النشاط المرتفع للجزء الأرقى من المخ، لكنهم فى نفس الوقت لديهم قابلية غريبة لتصديق الخرافات تصل بهم لحد السذاجة، نظرا لنشاط المنطقة الصدغية من المخ المسئولة عن توليد المشاعر الروحية لدى الإنسان. بل إن هؤلاء العباقرة أحيانا لا يدركون مدى محدودية و وقتية المتع الغريزية التى يدفعهم لها لا إراديا المخ الأقدم، فيضحون من أجل تلبية شهوة ما، بحريتهم واحترامهم لذواتهم و احترام الآخرين لهم، تلك التى يدفعهم لها المخ الأرقى.
بسبب هذه الطبيعة المعقدة للمخ، وبسبب تعدد وتعقد الدوافع وتفاعلها، يتسم البشر بالنقص والضعف مهما اتصف بعضهم بالتفوق فى الذكاء والقوة والعلم و حسن الخلق والسلوك ، مما يجعل هذا التفوق لا يعطي لأى منهم الحق فى التحكم فى العاديين من الناس الذين حرموا بدرجات متفاوتة من الذكاء والقوة والعلم وحسن الخلق والسلوك.
السلطويون لا يثقون فى البشر، و ربما يكون لديهم الحق فى ذلك، و لا يتعاطفون مع ضعفهم ونقصهم،لأنهم يعبدون القوة ويحتقرون الضعف، وهو ما لا حق لهم فيه لأنه لا ذنب لأحد فى ضعفه و نقصه ، و لذلك يقترحون الوصاية والتسلط على غالبية البشر من قبل قلة من البشر متفوقة فى صفة ما لا يملكها الباقين، قد تكون التدين، أو الثروة، أو العلم، أو الخبرة وغيرها، وقد يقتصر حق الوصاية والتسلط فى فرد ما، يضفون عليه القداسة والكمال الذى لا يعرفه البشر بحكم طبيعتهم نفسها..إلا أن هذا تفنده الخبرة التاريخية نفسها التى تؤكد أن هؤلاء المستبدون أفرادا وجماعات ما كانوا يعملون إلا لمصلحتهم الخاصة مضحين بمصلحة الغالبية من البشر العاديين على مذبحها. فعلى مدى التاريخ البشرى المكتوب ما تحكم فى البشر سوى رجال الدين والأغنياء والخبراء والعسكريون، أو حكام مستبدون أتوا للسلطة بالقوة أو الخداع أو عبر صناديق الانتخاب، فما كانت النتيجة سوى تاريخ من الحروب والمذابح والاضطهاد والاستعباد والاستغلال، يندى له الضمير من الخزى والعار.
يثير السلطويون دائما أسطورة المستبد العادل سواء بحكايات غير مؤكدة من تاريخ نصفه ضائع والنصف الآخر مزيف، أو على مستوى الانتظار الغبى للفارس المنتظر القادم فى المستقبل ليركب على رقاب الجميع محققا لهم أمانيهم ... وفى كلتا الحالتين يتم رهن حياة الناس وحريتهم وسعادتهم بإرادة شخص ما يتم تقديسه فى حين أنه لا يوجد من بين البشر و بحكم كونهم بشر من يستحق تلك القداسة.
هناك انتقاد جوهرى للديمقراطية بأنها أداة فاشلة فى تنظيم الناس لشئونهم المشتركة، باعتبارها الانصياع لحكم الغالبية، ذلك لأن الغالبية تفتقد الحكمة والخبرة والعلم، كما أنه يسهل خداعها وشراءها ورشوتها ، و من هنا فإن من مصلحة الجميع الاستسلام لإرادة القلة المتسمة بالحكمة والخبرة والعلم، كما يردد المنتقدون إن هذه الديمقراطية تساوى بين بشر غير متساوين فى الذكاء والعلم والقدرات والخبرات، وتلك قولة حق يراد بها باطل، فالناس مهما تدنت مستويات ذكاءهم وعلمهم وخبراتهم، لابد وأنهم يعرفون مصالحهم جيدا، ولابد لهم من الدفاع عنها، و محاولة تحقيقها، أما الحالات التى يفشل فيها الناس فى إدراك مصالحهم والدفاع عنها، فإن هذا لا يكون بسبب غبائهم وجهلهم فقط، بل بسبب تلك النخب التى تستغفلهم وتقمعهم وتضللهم لتستبد بهم، وتدفعهم بعيدا عن تحقيق مصالحهم. فإذا ازلنا أثر تلك النخب على البشر ما تبقى لهم سوى مصالحهم التى لا يحتاجون لمن يرشدهم إليها
نقر بالنقص والضعف البشرى وعدم جدارة البشر بالثقة، كما يقر السلطويون تماما، إلا الخلاف أنهم يفترضون حل خيالى للمسألة، بأن هناك من البشر من هم أجدر بالوصاية والتسلط على الآخرين، وهذا ما اثبتنا تهافته بل وكوارثه، أما الحل الآخر فهو أن يكون البشر أحرارا من التسلط والوصاية المتعالية عليهم والمنفصلة عن إرادتهم، وأن يتحملوا هم مسئولية أنفسهم بأنفسهم، ومن هنا سيجدوا ضرورة أن يتعلموا كيف يديرون شئونهم المختلفة فرديا وجماعيا، وأهمية أن يتعلموا كيفية تحقيق مصالحهم الفردية والجماعية المشتركة. إلا أن الشرط المقابل لتلك الحرية هو أن يتحملوا على الفور تبعات اختياراتهم و سلوكياتهم أفرادا وجماعات. وهذا كافى جدا لكى يحسنوا اتخاذ قراراتهم الفردية والجماعية، وأن يتحكموا فى سلوكياتهم ، بتشغيلهم للمخ الأحدث المعطل لديهم غالبا، بسبب الانصياع للنخب الحاكمة والمتسلطة التى تركوا لها مسئولية التفكير واتخاذ القرار بالنيابة عن العاديين من البشر.
بالطبع هناك ضرورة لكى يخضع البشر لقواعد ونظم باعتبارهم كائنات اجتماعية،إلا أن الشىء الوحيد الذى يعطى تلك القواعد والنظم شرعيتها وجدارتها هى أن تكون محل اتفاق الخاضعين لها، وناتجة عن اختيارهم الحر، وإرادتهم المستقلة.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية