السبت، 19 يونيو 2010

الأناركية والدارونية

الأناركية والدارونية
سامح سعيد عبود
رغم كل ما كتب عن الأناركية، فإن الكثيرين مازالوا يصفونها بالخيالية، رغم أنها تعتمد فى ممارستها لتغيير العالم على ما يسمى بالفعل المباشر، وهو بناء علاقات لا سلطوية وتعاونية فى قلب المجتمع القديم، وعلى هامشه،أو الحفاظ عليها والإكثار منها إذا كانت موجودة، آملين أن يصبح لذلك النوع من العلاقات السيادة الاجتماعية يوما ما، بعيدا عن أى شكل من أشكال الهندسة الاجتماعية، أو انتظار ليوم القيامة الثورية، وهم فى هذا يجسدون أفكارهم، الآن فى عالم الواقع، وليس فى عالم الخيال والشعارات والمهاترات النظرية،بالانخراط فيما هو عملى وفعال وممكن بدلا من الانغماس فى الاستعراض السياسى الذى يساعد على تثبيت الواقع لا تغييره، وإعادة إنتاج العلاقات القائمة لا تغييرها।

الأناركيون يتمسكون بالنظرة المادية للعالم التى هى نفسها نظرة العلم الطبيعى للعالم، فكما فى الطبيعة الحية، تحدث تغيرات مختلفة فى الجينات الوراثية، تؤدى لتغير فى صفات الكائنات الحية، مما يؤدى لتنوعها بمرور الوقت، وفى النهاية تبقى الكائنات الصالحة للبقاء، وتنقرض الكائنات غير الصالحة للبقاء. مما يؤدى لتطور الكائنات الحية، وهى العملية المسماة بالانتخاب الطبيعى، التى يقلدها الإنسان فيما يسمى بالانتخاب الصناعى، والتى تؤدى لوجود سلالات نباتية وحيوانية جديدة، لها صفات مرغوب فيها استهدفها البشر مسبقا، و لم تكن موجودة من قبل.
توجد علاقات تنافسية وصراعية بين الكائنات الحية من أجل البقاء، سواء بين أفراد الجنس الواحد أو بين الأجناس المختلفة، إلا أنها ليست العلاقات الوحيدة فى الطبيعة الحية، كما يستند فى ذلك أنصار الدارونية الاجتماعية، فالطبيعة الحية تمتلئ بجانب أشكال الصراع والتنافس بنماذج للعلاقات التعاونية والتكافلية سواء بين أفراد النوع الواحد، أو بين أفراد من نوعين مختلفين، وسواء كانت هذه أو تلك، فإن الدافع وراءها هو تحقيق مصلحة حيوية مشتركة لكلا الطرفين، هى البقاء، لا أى قيم أو مثل أو صور أو خيال مثل تلك التى يخلقها البشر، و لا توجد خارج عقولهم.
فى العلاقات ما بين أفراد من نوع واحد أو بين أفراد من نوعين، يوجد تنوع أيضا فى العلاقات ما بين علاقات سلطوية وعلاقات لا سلطوية، فإذ كانت بنية قطيع قرود الشمبانزى تقوم على أسس سلطوية وهرمية بين أفراده، فإن أشقائهم من أفراد قرود البونوبولو تقوم العلاقات فيما بينهم على أسس لا سلطوية ومساواتية.
فى أى مجتمع بشرى أيضا، يدخل البشر فى علاقات اجتماعية مختلفة، بعضها تعاونى وبعضها تنافسى، بعضها سلطوى وبعضها لاسلطوى، وما يحكم بقاء علاقات اجتماعية فى مجتمع ما، وانقراض علاقات اجتماعية أخرى، هو مدى صلاحيتها للبقاء، و هو مدى كفاءتها فى تلبية احتياجات البشر المادية وغير المادية، وهى عملية خاضعة فى جانب منها للانتخاب الطبيعى عبر التاريخ البشرى كله، فهكذا تسيدت العلاقات الرأسمالية منحية جانبا العلاقات ما قبلها، وفى جانب آخر هناك الانتخاب صناعى الذى يؤدى لتسيد نوع من العلاقات، وتهميش علاقات أخرى، ونموذجه التعاونيات اللاسلطوية القائمة بالفعل، والتى يناضل الأناركيون لتوسعها.
وفقا لهذا الفهم المادى للواقع الاجتماعى، وانطلاقا منه، يمارس الأناركيون ما يمكن أن نسميه بالانتخاب الصناعى للعلاقات الاجتماعية، بهدف زيادة العلاقات التعاونية واللاسلطوية فى المجتمعات البشرية، وتقليص العلاقات التنافسية والسلطوية، وهى عملية نضالية يومية طويلة الأمد، هدفها النهائى على المستوى الجماعى لكل البشر ولكل العلاقات فيما بينهم قد يتحقق فى المستقبل البعيد، أما أهدافها المرحلية، فتم تحققها لبعض الأفراد والجماعات، وعلى مستوى بعض العلاقات، عندما يسعون هم إليها فى حياتهم القصيرة، وهى عملية تحدث فعلا فى الواقع دون أى ضجيج استعراضى أو أحلام خيالية.
السر وراء تفضيل الأناركيين للعلاقات التعاونية واللاسلطوية التى يسعون لسيادتها اجتماعيا هو أنها أكثر كفاءة فى تحقيق احتياجات البشر المادية و غير المادية، و هى الأكثر تحقيقا لسعادتهم، وذلك على عكس العلاقات التنافسية والسلطوية فيما بين البشر الأقل كفاءة فى تحقيق احتياجات البشر المادية و غير المادية، والمسببة لمعظم آلامهم.
النظرة المادية للعالم لا تأخذ بخرافة الطبيعة الثابتة و النهائية للبشر، فالبشر ككل كائنات الطبيعة الحية وغير الحية، متغيرون ومتطورون، وأن الهدف من وراء تغيرهم وتطورهم هو البقاء الذى لا يكون سوى للأصلح منهم، وهم ككل الكائنات الحية لا يبقى منهم إلا المتكيفون مع ظروفهم الخارجية المختلفة، فمن الطبيعى أن لا يتكيف مع العلاقات التنافسية والسلطوية إلا المهيئون لذلك، ومن ثم تصبح فرصهم فى البقاء أكثر، إلا أنهم بالانخراط فى علاقات تعاونية و لا سلطوية فأنهم لابد من أن يتكيفوا معها، و إلا سوف يكون مصيرهم الانقراض.