الأحد، 9 ديسمبر 2012

مقدمة حول معايير الفقه الدستورى للديمقراطية كنظام حكم



سامح سعيد عبود
الهدف من هذه المقدمة أن يطلع القارىء على معايير الفقه الدستورى للديمقراطية كنظام حكم، والتى يمكن أن تقيس المدى الذى وصل إليه نظام حكم ما من ديمقراطية، وذلك كى يستطيع القارىء من خلال هذه المعايير أن يدرك مدى ديمقراطية نظم الحكم العربية المختلفة، وتطور هذه النظم عبر الفترة الممتدة من نهايات القرن العشرين وتنتهى فى بدايات القرن الواحد والعشرين.
الديمقراطية بالتعريف هى حكم الشعب، ولكن الفقه الدستورى يفرق بين الشعب الحاكم صاحب السيادة فى النظام الديمقراطى للحكم، وبين الدولة برغم أنها نابعة من تلك السيادة على وجه الحصر فى ذلك النظام، ومن الجدير بالذكر أن نشير أن تحديد من يتمتعون بحق المشاركة فى السيادة والحكم من بين أفراد الشعب قد تغير وتطور بمرور الزمن، فحق المشاركة فى الديمقراطيات القديمة التى كانت قائمة فى أثينا وروما كان مقصورا على المواطنين الذكور البالغين الأحرار دون بقية السكان من العبيد والنساء وغير البالغين، وفى بدايات الديمقراطيات الحديثة حتى نهايات القرن التاسع عشر، كان حق المشاركة فى السيادة والحكم مقصورا على المواطنين من الذكور البالغين المالكين لحد معين من الثروة والحائزين على قدر من السلطة والنفوذ بسبب وظائفهم، دون بقية السكان من الطبقات غير المالكة للثروة وغير الحائزة على السلطة والنفوذ فضلا عن النساء وغير البالغين، إلى أن أصبح حق المشاركة يعنى وفق المفاهيم المعاصرة التى استقرت بعد الحرب العالمية الثانية حق كل الأفراد البالغين الذين يحملون جنسية الدولة المعنية فى المشاركة فى الحكم والسيادة..أما الدولة الديمقراطية فهى السلطة العامة التى يمكن أن نحلل عناصرها إلى أولا مواطنين يمارسون السلطة العامة عمليا نيابة عن الشعب كالوزراء والقضاة وونواب الشعب وغيرهم، وثانيا هيئات تنظم هؤلاء المواطنين كالوزارات والمحاكم والبرلمانات، تلك الهيئات التى تؤدى وظائف السلطة العامة مثل التنفيذ والقضاء والتشريع.
أشكال الممارسة الديمقراطية :
حقوق مشاركة المواطن فى السلطة العامة التى تميز النظام الديمقراطى عن غيره من النظم السياسية للحكم التى لا تكفل له هذه الحقوق، هى أن لكل مواطن الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة، وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا. على أن يكون لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد وظائف السلطة العامة في البلاد. وأن تكون إرادة الشعب هي مصدر أى سلطة وأى شرعية تكتسبها السلطات العامة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري المباشر، وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.

يمارس المواطن حقوق المشاركة عبر ثلاثة أشكال من الديمقراطية :
الديمقراطية المباشرة :
هى المثل الأعلى للديمقراطية ذلك لأنها الوحيدة التى تتيح لكل المواطنين حقوق المشاركة فى السلطات العامة بشكل مباشر بعيدا عن أن يمثلهم أحد ما فى ممارسة السلطة العامة، الذى فى حقيقته انتقاص من حرية المواطنين وسيادتهم، إلا أن الديمقراطية المباشرة يعيبها أنها لا تتناسب إلا مع المجتمعات قليلة السكان عمليا برغم تميزها نظريا، إلا أننا نلاحظ أنه مع التطور التكنولوجى الهائل فى ثورة الاتصالات أصبحت ممارسة الديمقراطية المباشرة على نطاق أوسع فى المجتمعات كثيرة السكان أكثر يسرا وسهولة، ولكن هذه الممارسة مشروطة بإتاحة استخدام هذه الإمكانيات لجميع المواطنين فضلا عن ضرورة وضع ضوابط لعدم إساءة استخدامها.

الديمقراطية شبه المباشرة :
• تتيح لكل المواطنين حقوق المشاركة المباشرة فى السلطات العامة بأحد أو بعض أو كل الطرق التالية :
 الاستفتاء الشعبى على مشاريع القوانين والقرارات. 
 الاقتراح الشعبى بمشاريع لقوانين أو لقرارات والذى تقدمه نسبة معينة من مجموع المواطنين وفى هذه الحالة يعرض الاقتراح على الاستفتاء الشعبى.
 التحقيق الشعبى مع النواب والمسئولين التنفيذيين المنتخبين عبر لجان شعبية مستقلة.
 تكليف نائب الدائرة ومحاسبته ومراقبته وإقالته قبل انتهاء مدة عضويته بالمجلس النيابى من قبل المواطنين الذين انتخبوه وينوب عنهم.
 محاسبة ومراقبة المسئولين التنفيذيين وإقالتهم قبل انتهاء فترة توليهم المسئولية التنفيذية. من قبل المواطنين الذين انتخبوهم وينوبون عنهم.
 وجوب موافقة غالبية المواطنين على ما يتلقاه المسئولين التنفيذيين وأعضاء المجالس النيابية والقضاة من أجور نقدية وعينية وامتيازات مقابل تفرغهم لأداء أعمالهم. 
 علنية كل المحاكمات واتباع نظام المحلفين فى المحاكم بما يضمن الرقابة الشعبية على القضاء.
إلا أننا نلاحظ فى معظم نظم الحكم السائدة فى العالم ومنها نظم الحكم فى العالم العربى، أنه يتم اهمال ممارسة أحد أو بعض أو كل حقوق المشاركة الشعبية سواء المباشرة أو شبه المباشرة فى السلطة العامة، والتى بدونها تصبح الديمقراطية مجرد أعطاء الناس الحق الدورى فى اختيار من يحكمونهم كل عدة سنوات من ممثلى النخب السياسية الحاكمة، وفى هذا إهدار للسيادة الشعبية واغتصاب لحق الناس الأصيل فى إدارة شئونهم بأنفسهم، ومن ثم تصبح ممارسة حقوق المشاركة الشعبية سواء بالديمقراطية المباشرة أو شبه المباشرة هى ما يعطى للديمقراطية معناها الأصيل، فبغير المشاركة الشعبية المباشرة أو شبه المباشرة تصبح الديمقراطية بلا معنى، ومجرد ثرثرة برلمانية فارغة، ولعبة انتخابات يمارسها محترفو الانتخابات والدعاية والسياسة، ويسيطر علي نتائجها القلة من الساسة وملاك الثروة والبيروقراطيين ورجال الإعلام، دون الغالبية من المجردين من وسائل الثروة والعنف والمعرفة.

الديمقراطية التمثيلية :
الشكل الثالث والسائد من الممارسة الديمقراطية فى العالم ومن ثم فى البلاد العربية، وتعنى أن الشعب هو صاحب الحق الوحيد فى اختيار من ينوبون عنه ويمثلونه فى ممارسة وظائف السلطات العامة بانتخابهم انتخابا حرا مباشرا. فهو من يمنحهم شرعية ممارسة السيادة بالنيابة عنه، وهو من يسلبهم هذه الشرعية، وتنقسم الديمقراطية التمثيلية إلى نوعين رئيسين هما
الديمقراطية البرلمانية يقتصر حق المشاركة فيها على الانتخاب المباشر لأعضاء الهيئات التشريعية والترشيح لعضويتها.
الديمقراطية الرئاسية وتعنى حق المشاركة فيها انتخاب كل من أعضاء الهيئات التشريعية وأعضاء الهيئات التنفيذية كرؤساء الدول وحكام الأقاليم والولايات والمحافظين وعمد المدن والقرى، والترشيح لعضوية المجالس التشريعية ومناصب السلطة التنفيذية. 
مع ملاحظة أن هناك القليل جدا من النظم تتوسع فى استخدام الحق فى انتخاب المواطنين لممثليهم فى السلطات العامة ليشمل الانتخاب المباشر أو غير المباشر لكل أعضاء هيئات السلطات العامة بما فيها القضاء. والحالة الأخيرة معناها ممارسة كاملة لهذا الحق بعكس الحالتين السائدتين البرلمانية والرئاسية التى تنتقص من ممارسته.

الفصل بين السلطات العامة :
تفترض الديمقراطية كنظام حكم الفصل بين السلطات العامة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) كى لا تجور سلطة عامة على اختصاصات سلطة عامة أخرى، وكلما كان الفصل بين السلطات أكثر اكتمالا كلما ضمنا توازنا بين السلطات، ومنعا أكثر للطغيان، ودرجة أعلى من الديمقراطية.
تتفاوت الديمقراطيات فيما بينها فى درجة الفصل بين السلطات، فبعضها يفصل فصلا جزئيا يسمح باشتراك هيئة من هيئات السلطة العامة فى ممارسة وظائف سلطة عامة أخرى، فيشارك بعض رؤساء الدول ورؤساء الحكومات والوزراء فى تشريع القوانين، وبعض هذه النظم يفصل فصلا كاملا بين تلك الهيئات فى أداءها لوظائفها فلا يسمح بأن تمارس السلطة التنفيذية سوى تنفيذ تشريعات السلطة التشريعية.
مكانة السلطات العامة بالنسبة لبعضها :
برغم جوهرية مبدأ الفصل بين السلطات بالنسبة للديمقراطية كنظام حكم، فإن السلطات العامة الثلاث لا تقف على قدم المساواة، إذ تتفاوت فى مكانتها بالنسبة لبعضها البعض، فبعض الأنظمة تضع السلطة التشريعية فى مكانة أعلى من السلطة التنفيذية باعتبارها الأكثر تعبيرا عن السيادة الشعبية لكونها الوحيدة المنتخبة من الشعب، كما فى الديمقراطية البرلمانية، وبعض النظم تساوى فى المكانة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما فى الديمقراطية الرئاسية لكون كلتا السلطتين التشريعية والتنفيذية منتخبتين شعبيا، وبعض النظم توحد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية فى مؤسسة منتخبة واحدة هى البرلمان كما فى الديمقراطية المجلسية التى ينتخب فيها المجلس التشريعى من يتولون مهام السلطة التنفيذية من بين أعضائه، على أن يظلوا تحت هيمنته الكاملة.
تنقسم نظم الحكم فيما يتعلق بشكل السلطة التنفيذية إلى شكلين رئيسيين :

النظم الجمهورية :
تنقسم بدورها إلى جمهوريات رئاسية تكون السلطة التنفيذية فيها بيد رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا، وجمهوريات برلمانية تكون السلطة التنفيذية فيها بيد مجلس الوزراء، أما رئيس الجمهورية الذى يجرى انتخابه عادة بواسطة البرلمان، فهو مجرد رمز للدولة يعطيه الدستور مهام شرفية، مع ملاحظة أن هناك جمهوريات شبه رئاسية تجمع بين الخصائص الرئاسية والبرلمانية فى نفس الوقت، فيتقاسم رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا ومجلس الوزراء السلطة التنفيذية، كما يتقاسم رئيس الجمهورية مع البرلمان السلطة التشريعية. 

النظم الملكية :
تنقسم بدورها إلى ملكيات مطلقة يملك ويحكم فيها رأس الدولة أيا كان لقبه الوراثى حيث تتركز فى يديه كل السلطات، وملكيات مقيدة وفيها رأس الدولة أيا كان لقبه الوراثى يملك السيادة نظريا ولكنه لا يحكم فعليا بل يكون مجرد رمز للدولة يعطيه الدستور بعض المهام الشرفية، أما السلطة التنفيذية فتكون بيد مجلس الوزراء، مع ملاحظة أن هناك ملكيات شبه مطلقة تجمع بين خصائص الملكيتين المطلقة والمقيدة فى نفس الوقت فيتقاسم صاحب اللقب الوراثى ومجلس الوزراء السلطة التنفيذية.كما يتقاسم صاحب اللقب الوراثى مع البرلمان السلطة التشريعية.

توزيع السلطات بين مكونات الدولة :
تنقسم نظم الحكم إلى نظم أحادية تتركز فيها كل السلطات العامة فى مركز الدولة، ونظم اتحادية تتوزع فيها السلطات بين الاتحاد والأقاليم الداخلة فى الاتحاد حيث تحتكر سلطات الاتحاد غالبا المجالات السيادية وهى الأمن الداخلى والدفاع والتمثيل الخارجى والعدل والمالية العامة، تاركا للأقاليم الاتحادية الداخلة فيها السلطة العامة فى المجالات غير السيادية، أو تتقاسم كل منهما السلطات العامة فى المجالات السيادية والمجالات غير السيادية.
كما تنقسم نظم الحكم الأحادية والاتحادية أيضا لنظم مركزية الإدارة حيث تتركز كل السلطات العامة فى الدولة أو الأقليم الاتحادى، تاركة بعض المهام الإدارية التنفيذية للمحليات التابعة لها، ونظم لامركزية الإدارة تتوزع فيها السلطات العامة ما بين الدولة أو الإقليم الاتحادى من جهة، وبين المحليات بمستوياتها المختلفة من جهة أخرى، والنظم الاتحادية والنظم اللامركزية الإدارة، تضمن عدم تركز السلطات العامة فى يد قلة من الأشخاص فى مركز الدولة وانفرادهم بها كما فى النظم المركزية والأحادية، بل يتم توزيع السلطات العامة بين الاتحاد ومكوناته، وبين الدولة أو الإقليم الاتحادى والمحليات، لتصبح ممارسة السلطات العامة فى يد عدد أوسع من أفراد الشعب، ومن ثم تضمن كل من الاتحادية واللامركزية الإدارية المشاركة الشعبية فى السلطة العامة على نحو أكثر اتساعا، ومن هنا فاللامركزية الإدارية والاتحادية أكثر تحقيقا للديمقراطية وتجسيدا للسيادة الأصلية للشعب عن الأنظمة الأحادية ومركزية الإدارة.

ملاحظات فيما يتعلق بمسودة دستور الاستبداد المطروح للاستفتاء


ملاحظات فيما يتعلق بمسودة دستور الاستبداد المطروح للاستفتاء
سامح سعيد عبود
بعد إطلاعى على مسودة الدستور أستطيع أن أحدد بعض عيوبه الشكلية والموضوعية على النحو التالى:
*الديباجة إنشائية تتضمن كلام خطابى عام، و عبارات عنصرية، و عبارات لا لزوم لها، و لا تعبر عن أعداد كبيرة  من المصريين، بل و تستبعدهم سواء فى الوقت الحالى، أو مستقبلا بما سوف يطرأ على المجتمع من تغيرات فى عقائد أفراده و أفكارهم، فضلا عن انهم الآن بالفعل ينتمون لشتى العقائد والأفكار، وعليهم أن يعيشوا كمواطنين متساويين فى الحقوق والواجبات،و هو ما لم تؤكده الديباجة،  و من ثم يشوبها عدم الاحكام والوضوح، فالنص القانونى لابد وأن يكون محكم بطبيعته لا يحتمل تفسيرات مختلفة أو تأويلات متناقضة و إلا صعب تطبيقه، و يصبح بذلك نصا معيبا لا يسهل على المخاطبين به، ولا الموكول لهم تنفيذه تطبيقه، فلو كان متعدد المعانى بلا تحديد فإنه يصبح قاصرا عن تحقيق العدالة، فالقانون أساسا لاعلاقه له بالإنشاء والبلاغة و لا يطيق الاستعارات والتشبيهات وسائر المحسنات اللغوية والعبارات الفضفاضة والغامضة،  ومن هذه العبارات التى وردت فى الديباجة مثلا" وتستمر ثورة هذا الشعب التى بعثت فيه روحا جديدة طاهرة جمعت المصريين والمصريات على كلمة سواء، لبناء دولة ديمقراطية حديثة؛ مستمسكة بقيمها ومقوماتها الروحية والاجتماعية، بتفردها وثرائها، استناداً إلى ثوابت متكاملة، يعبر عنها شعبنا الأصيل فى مجموعة" وهو كلام يعنى انحصار التطور فى حدود قيم فى حقيقتها غير محددة و لا مشتركة بين كافة المواطنين، وتحتمل تفسيرات مختلفة فهل هى القيم القبلية العشائرية أو القيم الطائفية السائدة فى بعض المناطق الريفية والبدوية، و بعض الأوساط الاجتماعية،أم قيم المواطنة الحديثة السائدة فى المدن، فضلا عن أن إعلان التمسك بتلك القيم غير المشتركة و لا المحددة يقيد التطور الاجتماعى فقد تكون بعض تلك القيم متخلفة أو رجعية أو متناقضة مع مقتضيات الحداثة والنهضة ومفاهيم الديمقراطية الحديثة" فكيف لنا التمسك بها.
*الحقيقة  أن فلسفة هذا الدستور هى نفسها  فلسفة الدساتير السابقة التى صدرت فى مصر منذ يوليو 52، وهى قيامها على أفتراض هوية جماعية واحدة  يتمتع بها كل المصريين، و يجب أن ينصهر فيها كل المصريين قسرا وجبرا برغم هوياتهم المختلفة سواء الفردية أو الجماعية فليس كل المصريون عربا و لا مسلمون، و لكنهم ينتمون لهويات مختلفة، و كنتيجة لهذا الافتراض يقوم النظام على أن تقوم الدولة برعاية هذا الانصهار، ومقاومة أو انكار عدم التجانس الفعلى بين المواطنين، وهذا لامعنى له إلا سوى استمرار الطابع الاستبدادى للسلطة، وكنتيجة منطقية أيضا لذلك تقوم الدولة بدور أبوى لأبناءها فيكون أحد أدوارها تربية هؤلاء الأبناء بما يتوافق و رؤية الأباء، و أن تقوم بدور رعوى  لرعية ما عليهم سوى السمع والطاعة لأولى أمرهم، لا مجرد جهاز وظيفى لدى مواطنين أحرار و متساويين يؤدى وظائف محددة لصالحهم كأفراد،  وهذا ما سوف يتضح  من نصوص المسودة كما سوف يأتى ايضاحه، وبناء على ما سبق  فإن مسودة الدستور  لم تأتى معبرة عن قيم ثورة 25 يناير كما تدعى الديباجة،  و لم تقطع تماما مع الطابع  السلطوى للدساتير السابقة، و إن كانت أفضل نسبيا من دستور 71 الساقط فى وجوه متعددة فيما يخص تنظيم السلطات العامة، و لكنها جاءت أسوء ما يكون من زاوية الحقوق والحريات العامة بالمقارنة بكل الدساتير السابقة، أى ان المسودة  أكثر ديمقراطية، و أقل تحررية.
* بناء على ما سبقت الإشارة إليه فقد أتى مشروع الدستور  ليكون طائفيا  بامتياز، و لا يقوم على مبدأ المواطنة كما يزعمون، و  هذا المبدأ لا  يعنى سوى أن تكون كل السلطات العامة سواء كأفراد أو كهيئات أو كوظائف، منفصلة ومستقلة تماما عن كل ما يفرق بين المواطنين مثل الدين أو الطائفة أو القومية أو العنصر أو الثقافة أو اللون أو الجنس أو العرق أو النوع  أو اللغة الأم أو الأصل الاجتماعى. بل أتت مسودة الدستور  لتعزز و تكرس مبدأ الطائفية نقيض مبدأ المواطنة،  و تعزز من سلطة الكنيسة على المسيحيين، و من سلطة الأزهر على المسلمين، بأن تكون هناك شريعة تحكم كل طائفة على حدة لا شريعة واحدة لكل المواطنين، و ليس ذلك فقط بل  لم تعترف المسودة بحقوق و حريات  المواطنين أتباع العقائد الأخرى مثل اللادينيين والشيعة والبهائيين والبوذيين و غيرهم، و هى لا تساوى بينهم وبين المنتمين لطوائف الغالبية و هم أهل السنة و الجماعة،  وكنقيض لفكرة المواطنة  أصبح للدولة دورا دينيا لا يجب أن تؤديه، بل أن يكون شأنا خاصا بالأفراد و بمؤسسات المجتمع المدنى بما فيها المؤسسات الدينية التى يجب أن تتمتع بالحرية و الاستقلالية عن الدولة، و أن لا تكون مندمجة معها مما يشوه دور كل منهما.
* مشكلة المواد المتعلقة بالمبادىء العامة والحقوق والحريات فى المسكوت عنه أكثر مما  فى المذكور فى أحيان كثيرة، برغم أن المذكور كثيرا ما يكون مجرد ثرثرة إنشائية محلقة فى الفراغ، و لغو قول لا أكثر و لا أقل، لأن القائمين على وضع المواد أرادوا  صياغات مائعة يمكن التملص من الالتزام بها  فيرضون دعاة أنصار الحرية والمساواة  بمفهومها الواسع،  و أعداء تلك المبادىء فى نفس الوقت، وتركزت نواياهم عند الصياغة فى التملص الكامل مع المعايير المستقرة دوليا للحقوق والحريات الإنسانية كما وردت فى المواثيق والمعاهدات الدولية، فعلى سبيل المثال تحرم تلك المواثيق والمعاهدات تماما العمل الجبرى والمجانى وكافة أشكال الاتجار فى البشر والرق، فتجدهم لم يضمنوا تلك المبادىء فى مواد الدستور من البداية، و لا أعلنوا التزامهم بتلك المواثيق والمعاهدات، و لذلك وضعوا  المادة 63 التى تنص على "أنه لا يجوز فرض أى عمل جبرا إلا بمقتضى قانون" و كان من المفروض أن يطلق الحذر على العمل الجبرى والقسرى والرق والسخرة، بلا أى قيد من أى قانون بما في ذلك التجنيد الجبرى نفسه الذى تنص عليه المادة 7 التى تتنافى وحرية الضمير، وهو نص كارثى يتنافى والكرامة الإنسانية والحرية التى ما أتت ثورة 25 يناير إلا لتحقيقها ليسمح النص فى جوهره بالعمل الجبرى و المجانى و بالسخرة التى هى أحد أشكال الرق المخففة طالما نظمه القانون، فى ظل عدم تناول مسودة الدستور أصلا أى نص يمنع الرق والسخرة والاتجار فى البشر.
و استمرار لنفس التناقض فالمسودة تنص على أن مبادىء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع فى حين أن المشرع لن يستطيع عمليا أن يطبق الحدود الجزائية منها لأنها تتعارض مع مبدأ عدم جواز توقيع عقوبات جسدية أو وحشية أو حاطة بالكرامة البشرية و التى تنتهك حرمة الجسد وسلامته  المنصوص عليها فى المعاهدات الدولية ومنها الرجم وقطع اليد والجلد و التى لا تتوافق أيضا  
ونص المادة 41 من المسودة " و لجسد الإنسان حرمة"،  ونص المادة . 
المادة 36 من المسودة  
 التى تنص على أن كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته بأى قيد، تجب معاملته بما يحفظ كرامته. ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيا أو معنويا. 
Top of Form
* المواد الأربعة الأولى كلها شكلا ومضمونا تتنافى و مبدأ المواطنة  وذلك  بنصها على دين معين رسمى للدولة، و الدولة  جهاز لا يدرك و لا يعقل، حتى يؤمن أو لا يؤمن بعقيدة ما، وهو غير مكلف و لا محاسب و لا مراقب إلا من قبل ملاكه، و هم المواطنين المتجنسين بجنسية الدولة، و المتساوين فى الحقوق والواجبات بلا استثناءات ولا  تمايزات بينهم، والعقلاء و من ثم المنتمين لشتى العقائد و الأفكار، و الدولة لا عقل لها و لا وجدان حتى تتبنى أو تنتمى لقومية معينة أو لثقافة بذاتها، و لا معنى مفيد من ذكر أن إقليمها جغرافيا موجود  بمكان ما على كوكب الأرض، أو أن شعبها و هو جموع الأفراد المتجنسين بجنسيها ينتمى ككتلة متجانسة لهويات جماعية أخرى خارج حدود الدولة أو هوية واحدة داخلها، و هو ما يتنافى والواقع فعليا، ومن ثم يصبح مجرد نص انشائى لا معنى له، ، فالمصريون هم كل حاملى الجنسية المصرية، بالأصالة أو بالتجنس، و لا شىء غير ذلك، عربا كانوا أو غير عرب، مسلمون كانوا أو غير مسلمين،  و إن كان   هناك ثمة ضرورة عملية للنص على استخدام لغة ما لتسهيل أداء الدولة لوظائفها الرسمية، فيمكن الاكتفاء بأن ينص على أن تكون لغة غالبية السكان، و هى اللغة العربية مع النص على حق استخدام الأقليات غير العربية للغاتهم الخاصة فى بعض الظروف.
*  المادة 81  تنص على "تُمارس هذه الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المبادئ الواردة فى باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور" و هى المواد المطاطية والإنشائية وغير المتوافقة مع المعايير المنضبطة لممارسة الحقوق والحريات الإنسانية السابق نقدها.
فتقييد الحقوق والحريات المنصوص عليها بالدستور بالنص على أن تكون  فى حدود القانون، أو بما ينظمه القانون أو تحديدها فى حدود أحكام الشريعة، أو بما لا يخالف قيم المجتمع الخ، هى  كلمات فضفاضة، يفرغ تلك الحقوق والحريات من مضمونها فى حين أنه من المفروض النص على إطلاقها، فالأصل فى الحقوق والحريات الإنسانية هو الإباحة المطلقة، و أنها لا ينبغى أن  تقيد إلا للحفاظ على الصحة العامة، والأمن العام، والسكينة العامة، و النظام العام، و فيما يتعلق بالثلاث تحديدات الأولى، فالمسألة واضحة و لا تحتاج لنقاش، و المشكلة تكمن فى عبارة النظام العام فهى كلمة مطاطة و مرنة لا يمكن تحديدها بدقة، و هى البوابة التى ينفذ منها الطغاة والمستبدين وأعداء الحرية، ومن ثم يجب أن تحدد  بمبادىء الدستور، و الإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق وحريات الإنسان، و مبادىء العدالة الطبيعية، و مبادىء ثورة يناير نفسها، وهى العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، باعتبارها أفضل تحديدات وتخصيصات ممكنة لعمومية كل من النظام والصحة والسكينة والأمن، فبشكل عام تكررت الإحالة للقانون كثيرا مما يضع القانون فوق الدستور، و يمنح للدولة سطوة كبيرة فى تقييد تلك الحقوق والحريات، و من ناحية أخرى يضع للدولة وصاية شمولية على المجتمع  باسم حماية القيم والأخلاق والعادات والتقاليد، وهو ليس دور الدولة المحصور فقط فى تشريع القوانين و تطبيقها لا غير،  و التى تحفظ الأمن والسكينة والصحة والنظام العموميين لسائر المواطنين بحيث  لا تتعدى حرياتهم تلك الحدود.
*  المواطنة معناها أن يكون المواطن الفرد الحر المستقل هو أساس المجتمع و الدولة، و ليست الأسرة أو أى كيان آخر غير الأسرة، بعيدا عن علاقة التجنس التى تجعله منتميا للدولة، و حاملا لوثائقها الرسمية، و هى علاقة تعاقدية متبادلة حرة، لا ينبغى أن تكون قائمة على الإذعان، و فى مضمونها لا يجب أن تعطى للدولة هيمنة فوقية بلا حدود تتجاوز حدود التعاقد الذى يضع أصوله الدستور، و لا ينبغى لتلك الهيمنة،و إن كانت مقبولة فى شئون سيادية بعينها تخص حماية المصالح العامة للمواطنين، أن تصل إلى حد تهذيب المواطنين وإصلاحهم بما تراه السلطه من صلاح، ومراقبة كل سلوكياتهم و إجبارهم على تبنى سلوكيات و أفكار معينة تراها الدولة تتخطى حواجز الحريات الشخصية للمواطنين، مما يضع قيودا على الفرد واستقلاليته وحريته، كما تنص المادة العاشرة، و وفقا  لما سبق فإنه  لا يجوز ربط الأسرة باعتبارها كيان تعاقدى حر بين أفراد أحرار مستقلين ومسئولين عن أنفسهم و عن أبنائهم  بدين ما، أو بقيم فضفاضة و غير محددة كالأخلاق و الوطنية التى تحتمل تفسيرات و تأويلات متعددة بين نفس المواطنين المتساوين فى الحقوق والواجبات.
* مشكلة هذا الدستور أيضا شأنه شأن الدساتير السابقة فى عدم التجانس و فى التناقضات بين مواده المختلفة، فالمادة 33 
تنص على أن المواطنون لدى القانون سواء؛ و هم متساوون فى الحقوق و الواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك فى حين أن  المادة 4 الخاصة بالأزهر، و المادتين 43 و 44 تقيد كلها حرية العقيدة لدى بعض المواطنين، و لا تساوى بينهم، و تميز بين المواطنين بسبب عقائدهم المختلفة، و تعطى امتيازات لأتباع الدين الإسلامى عن باقى اتباع الأديان الأخرى من ناحية، و لأتباع الأديان التى تطلق عليها مسودة الدستور سماوية عن باقى أتباع الأديان غير السماوية بضمان كفالة الدولة لبناء دور عبادتهم، فى حين تمنع هذا عن المواطنين غير المنتمين للديانات الأخرى، فضلا عن أن تعبير سماوية نفسه ملتبس لأنه يمكن أن يطلق على أديان الصينيين الذين يعبدون السماء نفسها، وهو ما لم يكن فى حسبان واضعى النص بالطبع إذا حكمنا بظاهره، و الذين سوف يقعون فى نفس المشكلة عند استخدام الإبراهيمية مثلا فالبهائيون إبراهميون وفق التقسيم العلمى لأديان العالم، أو استخدام كتابية مثلا فالهندوس والزرادشت يقولون أن لهم كتب منزلة، وعلى العموم فبناء  دور العبادة شأنا من شئون المواطنين و المجتمع المدنى  لا يجب أن تكون للدولة أى علاقة به إلا فى حدود التنظيم الإدارى، طالما أن كل المواطنين من شتى العقائد يسددون التزاماتهم الضريبية للدولة، فوحدة الواجب والإلتزام توجب وحدة الحق و إلا انهار مقياس العدالة .
حتى لا أطيل على القارىء فسوف أذكر بعض الملاحظات السريعة قبل أن اختم المقال
*  المادة 53 تنص على "ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة مهنية واحدة" تقيد الحريات النقابية بمنع التعددية النقابية
* المادة 60  تتنافى وحرية التعليم بالنص على و التربية الدينية و التاريخ الوطنى مادتان أساسيتان فى التعليم قبل الجامعى بكل أنواعه. 
* أبواب ترتيب مؤسسات الدولة تتوافق مع النظام المختلط الرئاسى البرلمانى و هى أكثر ديمقراطية عموما من دستور 71  لكن ما لوث هذه الديمقراطية وقيدها أن المسودة لم تحصن البرلمان من الحل  على يد رئيس الجمهورية، و لا أعطت سلطة للبرلمان لعزل الرئيس،  ولم تلزم الرئيس بتعيين رئيس الوزراء من الأغلبية البرلمانية ولم تنص على ضرورة استقالة الحكومة عند سحب الثقة منها برلمانيا.
* المادة 128 تنص على "يجوز لرئيس الجمهورية أن يعين عددا لا يزيد على عُشر عدد الأعضاء المنتخبين فى مجلس الشورى،  و هو حق يعطى رئيس الجمهورية القدرة على تحديد اتجاهات المجلس و أغلبيته وأقليته و هو حق  سلطوى خطير كما تعطيه المادة 149 حق العفو عن العقوبة أو تخفيفها وهو تدخل فى السلطة القضائية.  
* يشترط فيمن يترشح رئيسا للجمهورية أن يكون مصريا من أبوين مصريين، وألا يكون قد حمل جنسية دولة أخرى، وأن يكون متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية، وألا يكون متزوجًا من غير مصرى، كما تنص 195 و هو شرط عنصرى.
*الوزير هو منصب سياسى ولكن تم استثناء وزارة الدفاع فتم النص على أن يكون وزير الدفاع هو القائد العام للقوات المسلحة، ويعين من بين ضباطها.  . 
* تنص المادة  219 على أن   مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة. و هى مادة شارحة للمادة الثانية وتؤكد التمييز بين المواطنين بسبب الدين.
* المسودة  لم تحدد وظائف مجلس الشورى و تم النص فيها على  منح سلطة غير عادية للقضاء العسكري تشمل محاكمة المدنيين.
فى النهاية مسودة الدستور لم تنص على احترام المعاهدات والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان و حرياته، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا على تلك الحقوق والحريات.