الثلاثاء، 29 مارس 2016

البسايسة ... أمل ومخاوف و عقبات

البسايسة ... أمل و مخاوف وعقبات
سامح سعيد عبود
 بعيدا عن الأضواء الإعلامية، وبعيدا عن الصخب السياسى الذى تدور طواحينه ولا تنتج سوى ضجيجا بلا طحين، هناك فى عمق المجتمع الحى والحقيقى، تجرى ثورة كل يوم، بدأب وهدوء و بلا ضجيج و لا إعلان، و لا هتافات و لا شعارات، و لا استعراضات تنفس عن الغضب، وتحافظ على النظام، و تزيد من مبررات قمعه...... ليذكرك ممارسيها العفويون غالبا، لكنهم الممتائين بالحكمة فى نفس الوقت... ببطل فيلم شاوشنك الذى أخذ يحفر 19 عاما فى جدار السجن، وفى صمت تام ليحصل على حريته فى النهاية.
 ثورة كل يوم، تنطلق من أن التغيير الاجتماعى ممكن ومتاح فقط من الأسفل الاقتصادى الاجتماعى الثقافى، رغم كل ما يمكن أن يواجهها من عقبات ويحيطها من مخاوف الفشل، قبل أن يمكن أن يحدث من الأعلى السياسى المرتبط بشروط موضوعية منفصلة عن إرادة الناس، و لا يد لهم فيها، و قوى مادية لا حيلة لجماعتهم الصغيره ولا نواياهم الطيبة أو الشريرة فيها، وأنك عمليا وواقعيا، لن يمكنك تغير واقع كل الناس، و فى كل مكان مرة واحدة وللأبد ، بالعكوف على القراءة و الكتابة والنقاش والصراخ ليل نهار، منتظرا للثورة السياسية أو الإصلاح السياسى، ومعتمدا على وصولك أو وصول من تراه أصلح من يمكن أن يحقق أحلامك لسلطة الدولة، سواء بالعنف أو بالانتخابات. بل يمكنك أن تفعلها بنفسك، بدلا من اقتصارك على الاستنماء السياسى، ليس على نطاق العالم بالطبع، و لكن فى حدود المحيطين بك، فى عالمك المحلى الصغير، من هؤلاء القابلين أن يشاركوك أحلامك فى الحرية والاستقلالية والكرامة، أو لتغير حياتك وحياتهم للأفضل، و تحسين ظروف حياتكم و معيشتكم، و لحل مشاكلكهم المشتركة متضامين جماعيا، معتمدين على أنفسكم  لا على غيركم، فى حياتكم القصيرة المؤكدة لا ما بعد موتكم، الآن وليس غدا .
 قصة البسايسة هى قصة من  قصص ثورة كل يوم التى أود أن أحكيها لكم بناء  على معلومات جمعتها من وفد من المهتمين بالتعاونيات كأداة للتحرر والتقدم ، زار قرية البسايسة الجديدة فى راس سدر الشهر الماضى للإطلاع على التجربة فضلا عن أورق بحثية ومقالات منشورة على النت.
بدأت قصتنا في عام 1971 حين توجه الدكتور صلاح عرفة أستاذ الفيزياء بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى قرية البسايسة التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية بمصر، و هى قرية صغيرة المساحة، فقيرة الموارد،  لا يتعدى سكانها الثلاث ألاف، و بلا مؤسسات تعليمية، و ليست قريبة من المواصلات العامة، لكنها استطاعت محو أمية أبنائها، و اكتفت ذاتيا من الكهرباء بتوليد الطاقة من الشمس و تدوير المخلفات بالجهود الذاتية، ثم قام شبابها  بغزو الصحراء لاستصلاحها فى سيناء و واحة الفرافرة.
       استأذن صلاح عرفة إمام مسجد القرية في الحديث ، وتحدث للمصلين بأن لديه تجربة يريد فيها النهوض بالقرية و اقترح أن ينعقد اللقاء للحديث المفصل عن مشروعه في مضيفة القرية (حجرة كبيرة يتم فيها اللقاء بالضيوف) .و قد شارك الدكتور أهل القرية فى إعداد المضيفة للاجتماع بما فى ذلك تنظيفها، وهو ما أكسبه مصداقية كبيرة لدى أهل القرية.. ثم قال لهم: يمكننا أن نبدأ بما نستطيعه؛ لدينا شباب متعلم و لكن القرية بها نسبة عالية من الأميين، و من ثم علينا أن يقوم شباب المتعلمين بمحو أميتهم ، وأضاف أن ما يمكن يقدمه في حدود اختصاصه العلمى هو الاستفادة من الطاقة الشمسية و تدوير المخلفات لتوليد الطاقة و  لتنمية القرية، وتم الاتفاق على أن يوم الجمعة هو ميعاد الاجتماع الثابت له مع أهل القرية حتى يحضر أكبر عدد من الفلاحين.
      أبدى طلاب المدارس والجامعات حماسهم لمشروع محو الأمية، لكنهم صرحوا بأن وقتهم محدود بسبب سيرهم يوميا على الأقدام 3 كم للوصول من وإلى أقرب وسيلة مواصلات ليذهبوا لمؤسساتهم التعليمية المختلفة.
فكر الدكتور صلاح مع أهل القرية في شراء دراجات للطلاب الراغبين في مشروع محو الأمية، حتى يتسنى لهم توفير وقت لتعليم أهل قريتهم،  و ذلك  بالتشارك بين أهل القرية في شراء الدراجات، وإعطائها بالتقسيط حسب أولوية الاستفادة من الوقت للمشترك في مشروع محو الأمية، و روعي أن يكون القسط في حدود الإنفاق الشهري على المواصلات، وكانت ثمرة هذا المشروع تعليم عدد كبير من أهل القرية.
صمم الدكتور صلاح نموذجا صغيرا لتشغيل مروحة بالطاقة الشمسية، وعرضه على شباب القرية، وطلب من أحدهم أن يمر على بيوت القرية لتعريفهم بإمكانية الاستفادة من الطاقة الشمسية. لتشغيل أجهزتهم الكهربائية، ومن هنا بدأوا  في تعميم الطاقة الشمسية  في القرية، ووجدوا أنفسهم في حاجة لصناعة بعض مكونات أجهزة توليد الطاقة و حواملها المعدنية والخشبية، التى يمكن صناعتها يدويا، فتم عمل ورشة لتدريب الشباب على أعمال تشكيل المعادن والنجارة.
وما إن تم تشغيل الأجهزة الكهربائية بالمنازل في القرية بالطاقة الشمسية، حتى تحمسوا للفكرة ، و تم التوسع في استخدام هذه الطاقة في تسخين المياه وأغراض أخرى. و كانت الخطوة الثانية لتوفير المزيد من الطاقة هو استخدام البايوجاز الناتج من مخلفات الحيوان والإنسان فيما يسمى تدوير المخلفات، التى مكنتهم من توفير أسمدة طبيعية لاستخدامها فى الزراعة.
قرر أهل القرية في عام 1983 إنشاء جمعيتين؛ الأولى لتنمية المجتمع، والأخرى جمعية تعاونية إنتاجية حتى يمكنهم من خلالها جمع الأموال واستثمارها، أي بمثابة الأداة التمويلية لمشروعاتهم، ولم يقتصر نطاق عمل الجمعيتين على سكان هذه القرية، إنما امتد لسكان القرى المجاورة (الطيبة وأم رماد ودويدة وبني عبيد). واستطاعت جمعية تنمية المجتمع تدريب وتأهيل الشباب وتسليحهم بالمهارات التي تحتاجها سوق العمل، فضلا عن تنظيم الجمعية معرضا عن استخدام الطاقة الشمسية في تنمية القرية المصرية، وكذا إنشاء مركز التكنولوجيا الريفية المتكاملة للإنتاج والتدريب.
     اهتمت الجمعية بإقامة دورات عن التنمية الزراعية واستصلاح الأراضي.. ومن هنا تولدت فكرة جديدة عند أهل البسايسة ومعهم الدكتور صلاح: لماذا لا نغزو الصحراء، خاصة في ظل وجود بطالة داخل القرية في أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين؟!.
    فكر شباب القرية في غزو الصحراء باقامة مجتمع جديد  يقوم على التعاون فى الإنتاج والخدمات والتسويق واستخدام الطاقة الشمسية والبيوجاز والكومبوست للزراعة العضوية، والعمارة الخضراء والرى بالتنقيط, لكن هؤلاء الشباب من الفقراء الذين لا يملكون شيئا، وأعضاء الجمعية التعاونية التي تمثل الأداة التمويلية للبسايسة ليسوا سوى مستثمرين صغار. و الحل كان في التشارك والتعاون فيما بينهم،  فقاموا  بشراء مساحات من الأراضي الصحراوية من البدو في منطقة رأس سدر جنوب سيناء التي تبعد عن الزقازيق 200 كم، وبلغت المساحات المشتراة 150 فدانا (تم التوسع فيما بعد إلى 750 فدانا)، بسعر 500 جنيه للفدان. و تم دفع ثمن الأرض على أقساط، بعد أن أقنع شباب البسايسة البدو بأهمية تجربتهم، وإمكانية الاستفادة بهم في تقديم خدمات الطاقة الشمسية والبايوجاز لهم؛ لذلك أُسست الجمعية التعاونية الزراعية برأس سدر عام 94، ثم جمعية كنوز سيناء للتنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة عام 95، بحيث يتم هناك انعاش وتنمية المنطقة المحيطة بالمشروع. وأطلق على المشروع اسم "البسايسة الجديدة"، وتم تشغيل الشباب أعضاء الجمعية التعاونية براتب 450 جنيها شهريا، يدفعون ثلثها لقسط الأرض، والباقي لرعاية أنفسهم وأسرهم في البسايسة القديمة.
 في البداية تم حث الشباب على العمل الجماعي بالأرض كلها (كاملة) قبل تقسيمها إلى قطع مملوكة للأفراد؛ فالفكرة هي أنك إن كنت تعرف حدود الأرض التي تملكها فإنك لن تعمل سوى في تلك الأرض وستهمل باقي الأجزاء، أما بهذه الطريقة فسيكون هناك اهتمام كامل من الجميع بتجهيز الأرض بالكامل للزراعة.
      وبعد ذلك قسمت الأراضي ما بين 5 و10 أفدنة، و وضعت الجمعية عددا من القواعد، منها أنه لا يجوز تملك أي عضو أكثر من 20 فدان، و يتم توزيع الأراضي بالقرعة، كما يجوز التبديل بين الأعضاء. أما زراعة الأرض فحسب مقدرة كل شخص المالية، ولكن البنية الأساسية من آبار وطرق ومصدات الرياح فقد تم إعدادها قبل توزيع الأراضي، ووزعت تكلفتها على الفدان. أما بيوت القرية فقد تم تدريب الشباب على البناء الجماعى وفق طراز عمارة حسن فتحى، باستخدام خامات البيئة، لكنهم اضطروا لاستجلاب الحجر الجيرى من خارج سيناء لندرته فى جبال سيناء، واعتمدوا التصميم المعمارى المناسب لمناخ الصحراء. المطبق في قرية القرنة جنوب مصر، وبالنسبة للإضاءة والإنارة الليلية فقد اعتمدوا على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتمت زراعة بعض الأسطح بنباتات مثمرة  ونماذج مصغرة لمزارع سمكية  وتربية دواجن.
وبما أن الأرض شاسعة المساحة فقد تم السماح لكل فرد أن يقيم منزلا على مساحة 200 متر تحيط به حديقة على نفس مساحة البيت لكي يزرع فيها ما يريد من خضراوات وفاكهة ويربي ما يريد أيضا من حيوانات منزلية.
اعتمدت الزراعة في البسايسة الجديدة على زراعة الزيتون والنخيل والجاجوبا. و زراعة الفدان من الزيتون تحقق عائد ربح صافيا 500 جنيه لو بيع خاما، أما لو تم استخلاص الزيت منه فإنه يحقق ضعف هذا المبلغ، وهو ما تم اللجوء إليه في مرحلة تالية حيث تم انشاء معاصر لزيت الزيتون. أما نبات الجاجوبا فهو نبات يتم استخدامه في مستحضرات التجميل وصناعة الأدوية ويستخلص منه زيت يستخدم وقودا لمحركات الطائرات.
وفي عام 2000 كان بداية أعوام الحصاد أي بعد 7 سنوات من بدء التجربة. ولأن التجربة أثمرت ونجحت فقد حصلت الجمعية في البسايسة الجديدة على تخصيص 1000 فدان لإقامة تجمع آخر في الفرافرة فى الوادى الجديد ، وهناك محاولة للحصول على أرض فى منطقة الكريمات بالجيزة
أنشأ مبنى خصص الدور الأرضى كورش لتشكيل المعادن والنجارة ، وخصص الدور الثانى كحضانة للأطفال ومكتبة، وفى الدور الثالث روضة ومدرسة  لتعليم الأطفال. كما تم بناء مضيفة لزوار المزرعة التى تبعد بمسافة كيلو متر عن ساحل البحر فى راس سدر،  تبلغ تكلفة الإقامة  فيها ثلاثين جنيها باليوم للفرد.
و ختاما أحب أن أعبر عن مخاوفى من استمرار نجاح التجربة التى أرغب فى نجاحها واستمرارها كنموذج ملهم للآخرين.
أولها مخاوف امتداد  يد بيروقراطية الدولة الغاشمة و الفاسدة التى يمكن أن تتدخل فى أى لحظة لتدمر المشروع أو تفسده، مثلما تحدثت الأخبار مؤخرا بانهم سوف يستولون على مشروع مستشفى مجدى يعقوب لضمه لمستشفيات الجامعة فى أسوان، بعد اثباته عمليا إنك يمكن أن تقدم خدمة طبية مجانية تماما و متميزة بالفعل على المستوى الاسكندنافى المتقدم فى أبعد مدينة عن العاصمة، بطاقم عمل مصرى و بقيادة وبإدارة مصرية، مما يعرض الدولة وجهازها ومسئولييها كلهم لموقف حرج يفضحهم ويثبت عجزهم وفشلهم و فسادهم جميعا أمام الشعب، و من ثم يريدون التخلص منه والاستيلاء على المشروع لتمتد قدرتهم على نهبه وتخريبه و إفساده.
ثانيها المخاوف من البدو الذين يمكن فى أى لحظة عند خلافهم مع المشروع ان يهاجموه ويتسببوا فى فشله، وحلها هو ربط مصالح البدو بمصالح القرية وإدماجهم فى المشروع و بهذه الطريقة سوف يتم تفادى مشكلة الأمن.

ثالثها  مخاوف الرضوخ لمنطق الفردية والمصالح الفردية المتناقض مع منطق التعاونية والمصالح الجماعية، وذلك بالسماح للأعضاء بالملكية الخاصة للأرض والبيوت داخل التعاونية، وهذا سوف يؤدى لصراعات بين الأعضاء عندما تنشب الخلافات الحتمية بينهم، ثم بين ورثة الأعضاء وصراعاتهم على الميراث، التى لا تردعها أى درجة قرابة و لا نسب، و الذين سوف يتسببون فى تفتيت الملكية بعد جيل أو جيلين بالوراثة، مثلما حدث فى الأرض الزراعية بالوادى القديم، فاطلاق الملكية الخاصة وحرية الاستغلال والتصرف لكل عضو فيما يملكه سوف يؤدى لتضارب المصالح و العشوائية التى خربت للأبد  الوادى القديم الخصيب فى ظرف سبعة عقود من الزمن، فما بالكم بأرض صحراوية مستصلحة،  فما الذى يمنع مالك منزل صحى ملائم تماما للبيئة، صممه حسن فتحى، لتحويله لعمارة كئيبة غير صحية تستهلك طاقة أكثر لتكييف الجو، لأحفاده أو للمستأجرين أو أن يستخدمها لضيافة السياح والزوار للاستمتاع بالبحر، ما الذى يمنع المزارع من استخدام أرضه للبناء أو لزراعة الممنوعات أو لأى غرض آخر غير الزراعة أكثر ربحية له لكنها سوف تضر بالمصالح المشتركة لأعضاء المشروع، ما الذى يمنعه من بيع منزله أو أرضه لآخرين لا يتفقون و الهوية التعاونية للمشروع .... الصحيح أن يقتنع الأعضاء بخطورة سماحهم لشرور الملكية الخاصة الحتمية أن تفسد تجربتهم الناجحة، وإن عليهم أن يقبلوا بالملكية التعاونية الشائعة غير المفرزة لكل ما فى القرية من عقارات لكل أعضائها طالما ظلوا أعضائها يتشاركون فيها بالمال والجهد والعمل، فالحقيقة إن الإنسان لا يحتاج فعليا إلا ما يستعمله وينتفع به، إلا أن غباء البشر و جشعهم اللاعقلانى هو الذى يجعلهم يقدسون الاستحواز و الملكية الخاصة ، التى لن يأخذوها معهم إلى القبر، و سوف يتصارع عليها أبنائهم و يفتتوها رغم روابط الدم، ومن ثم على أعضاء االتعاونية السماح فقط بحق الحيازة والانتفاع المشروط بالعضوية فى التعاونية و بالاستعمال للأفراد والعائلات للأرض والمنازل مثلها مثل المرافق المشتركة ، وهذا سوف يؤمن القرية فى مواجهة ما ينجم عن الملكية الخاصة من صراعات مؤكدة وفوضى و عشوائية هم فى غنى عنها.