الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

القسم الرابع:الاشتراكية التحررية1

القسم الرابع:الاشتراكية التحررية1

سامح سعيد عبود
الاشتراكية التحررية التي تسمى أحيانا الأناركية الاجتماعية، أو اليسار التحرري  هي تعبير عن المجموعات و الفلسفات والتيارات السياسية التي تكافح الاتجاهات الاستبدادية  داخل الحركة الاشتراكية، والتي ترفض الاشتراكية باعتبارها ملكية الدولة المركزية لوسائل الإنتاج وسيطرة الدولة على الاقتصاد، مثلما ترفض الدولة نفسها كشكل هرمي من أشكال التنظيم الاجتماعي. وتنتقد علاقات العمل المأجور، وبدلا من ذلك تركز على الإدارة الذاتية للعمال في مكان العمل، والهياكل اللامركزية في التنظيم السياسي، مؤكدة على أنَّ المجتمع القائم على الحرية والمساواة لا يمكن أنْ يتحقق إلَّا من خلال إلغاء المؤسسات السلطوية التي تتحكم في وسائل الإنتاج، وإنهاء إخضاع الغالبية التي لا تملك سوى قوة عملها  لطبقة ملاك  الثروة الرأسماليين، أو النخبة السياسية والاقتصادية البيروقراطية.
تضع الاشتراكية التحررية عموما آمالها في وسائل اللامركزية الإدارية، والديمقراطية المباشرة، واتحادية أو تعاهدية الجمعيات التعاونية، واستقلال البلديات (الكوميونات) الذاتي، والمجالس والنقابات العمالية، ومجالس المنتجين والمستهلكين. كل هذا يتم عادة ضمن دعوة عامة للتحررية، وطوعية العلاقات الإنسانية  من خلال التحديد والنقد والتفكيك العملي للسلطة الهرمية غير شرعية في جميع جوانب حياة الإنسان.
وتشمل الفلسفات والحركات السياسية الشائعة في الماضي والحاضر التي يتم وصفها بأنها اشتراكية تحررية... الأناركية (خصوصا الأناركية الشيوعية، والأناركية الجمعية، والأناركية النقابية، وأناركية تبادل المنافع والمصالح، وكذلك الميول الأخرى مثل الاستقلالية الذاتية، والكوميونالية، والتشاركية، والاشتراكية النقابية، والنقابية الثورية، واتجاهات الماركسية التحررية، مثل شيوعية المجالس واللكسمبرجية؛  وكذلك بعض الإصدارات من “الاشتراكية الطوباوية”.
الاشتراكية التحررية فلسفة لها تفسيرات متنوعة، على الرغم من بعض القواسم المشتركة العامة التي يمكن العثور عليها في العديد من أوجهها. وتدعو إلى نظام توجيه العمال الذاتي للإنتاج والتنظيم في مكان العمل، وتبتعد في بعض الجوانب جذريا عن الاقتصاد الكلاسيكي لصالح التعاونيات الديمقراطية، أو الملكية الاجتماعية  لوسائل الإنتاج (الاشتراكية). و سوف يتحقق هذا النظام الاقتصادي عن طريق محاولات تحقيق أقصى قدر من حرية الأفراد، وتقليل تركيز السلطة أو إقامة السلطة (التحررية).
ينتقد الاشتراكيون التحرريون بشدة المؤسسات القسرية، والتي غالبا ما تؤدي بهم إلى رفض شرعية الدولة لصالح الأناركية. ويقترحون تحقيق ذلك من خلال لا مركزية السلطتين السياسية والاقتصادية، وعادة ما ينخرطون في التشريك الاجتماعي للغالبية واسعة النطاق من الممتلكات والمشاريع الخاصة (مع الاحتفاظ والاحترام للحيازة الشخصية). وتميل الاشتراكية التحررية إلى إنكار شرعية معظم أشكال الملكية الخاصة الهامة اقتصاديا، وتنظر لعلاقات الملكية الرأسمالية كشكل من أشكال الهيمنة المعادية للحرية الفردية.
أول مجلة أناركية استخدمت مصطلح “التحررية” كانت جورنال دو لي ليبراتير، ونشرها في مدينة نيويورك بين عامي  1858 و1861 الأناركي الشيوعي الفرنسي جوزيف دي جاك. وكان التسجيل التالي لاستخدام المصطلح في أوروبا، عندما استخدمت “الشيوعية التحررية” في المؤتمر الأناركي الإقليمي الفرنسي في لوهافر (16-22 نوفمبر 1880). وشهد العام التالي البيان الفرنسي الصادر في يناير:“الشيوعية التحررية أو الأناركية”. وأخيرا، 1895 رأيَ الرواد الأناركيون سيباستيان فور ولويز ميشال وآخرون نشر لا ليبراتير في فرنسا. وأصل الكلمة من كلمة ليبراتير الفرنسية، وكانت تستخدم للتهرب من الحظر الفرنسي على منشورات الأناركية. وفي هذا التقليد، يستخدم مصطلح “التحررية” في “الاشتراكية التحررية” عموما كمرادف للأناركية، التي يقول البعض بأنه المعنى الأصلي للكلمة، وبالتالي “الاشتراكية التحررية” تعادل “الأناركية الاجتماعية” عند هؤلاء العلماء وفي سياق الحركة الاشتراكية الأوروبية، وتقليديا استخدمت التحررية لوصف أولئك الذين عارضوا اشتراكية الدولة، مثل ميخائيل باكونين.
ربط الاشتراكية بالتحررية في الواقع يسبق ربطها بالرأسمالية، والعديد من المعادين للسلطات الاستبدادية ظلوا ينتقدون ما يرونه الجمع الخاطئ للرأسمالية مع التحررية في الولايات المتحدة. وكما قال نعوم تشومسكي ذلك، في التحررية الحقيقية “يجب أنْ تعارض الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعبودية الأجور، وهما مكونان رئيسيان للنظام الرأسمالي، لأنهما لا يتفقان مع المبدأ القائل بأن العمل يجب القيام به بحرية، وأن يكون تحت سيطرة المنتج”.
في فصل سرد تاريخ الاشتراكية التحررية، واصل الخبير الاقتصادي روبن هانل حتى أبعد من تلك  الفترة التي كان فيها للاشتراكية التحررية  أكبر الأثر في نهاية القرن الـ19 خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين.
ففي أوائل القرن العشرين، كانت الاشتراكية التحررية حركة قوية مثلها مثل الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية السلطوية. وقد تأسست الأممية التحررية في مؤتمر سان إمير بعد بضعة أيام من الانقسام بين الماركسيين والتحرريين في مؤتمر الاشتراكية الدولية الذي عقد في لاهاي في 1872- ونافسوا بنجاح ضد الاشتراكيين الديموقراطيين والشيوعيين على حد سواء وكسبوا ولاء نشطاء من الثوار والعمال والنقابات والتيارات السياسية المناهضة للرأسمالية، لأكثر من خمسين عاما. وقد لعبت الاشتراكية التحررية دورا رئيسيا في الثورتين الروسيتين عامى 1905 و1917. كما لعبت الاشتراكية التحررية دورا مهيمنا في الثورة المكسيكية عام 1911. وبعد عشرين عاما من انتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت الاشتراكية التحررية لا تزال قوية بما يكفي لقيادة الثورة الاجتماعية التي اجتاحت الجمهورية الإسبانية في عامي 1936 و1937.
من ناحية أخرى نشأ الاتجاه التحرري أيضا ضمن الاتجاهات الماركسية، الذي سادت رؤيته في جميع الأنحاء وفي كل أوساط المعاديين للرأسمالية، أواخر عشريات القرن العشرين كرد فعل ضد صعود البلشفية واللينينية إلى السلطة، وتأسيس الاتحاد السوفييتي.
الاشتراكية التحررية مناهضة للرأسمالية، وبالتالي يمكن تمييزها عن التحررية اليمينية. ففي حين أنَّ مبادئ الرأسمالية التى يتبناها (اليمين التحرري) تركز القوة الاقتصادية في أيدي أولئك الذين يملكون معظم رأس المال، فإنَّ الاشتراكية التحررية تهدف لتوزيع السلطة على قدم المساواة بين أفراد المجتمع. والفرق الرئيسي بين التحررية الاشتراكية والتحررية الرأسمالية هو أنَّ دعاة الأولى عموما يعتقدون أنَّ درجة حرية الشخص تتأثر بالوضع الاقتصادي والاجتماعي للشخص، في حين أنَّ دعاة الأخيرة يركزون على حرية الاختيار في إطار الرأسمالية. ويتميز هذا في بعض الأحيان برغبة في تحقيق أقصى قدر من “الإبداع الحر” في مجتمع الأفضلية فيه لـ”التجارة الحرة”.
ويرى العديد من الاشتراكيين التحرريين أنَّ الإدارة الصناعية، يجب أنْ تتم عبر الجمعيات التعاونية الطوعية على نطاق واسع في حين يحتفظ العاملون بالحق في المنتجات الفردية لعملهم. وعلى هذا النحو، يرون التمييز بين مفهومي “الملكية الخاصة”و”الحيازة الشخصية”. في حين أنَّ“الملكية الخاصة” تمنح عنصر تحكم حصري للفرد على الشيء المملوك سواء كان ذلك في استخدامه أم لا، وبغض النظر عن قدرته الإنتاجية، أما “الحيازة” فلا تمنح أيَّ حقوق على الأشياء التي لا تكون قيد الاستعمال، وفي حدود الاستعمال فقط لا التصرف والاستغلال.
تُستخدم الاشتراكية التحررية كمرادف للأناركية الاجتماعية، حيث يشترك الأناركيون الاجتماعيون في تيار أكبر يسمى بالاشتراكية التحررية، يضمهم مع تيارات الاشتراكية التحررية الأخرى المختلفة عنهم نسبيا، ولكن القريبة من الأناركية في نفس الوقت مثل، التيار الشيوعي اليساري، وشيوعيو المجالس، والاستقلاليون، والمواقفيون، واللوكسمبرجيون....إلخ، أيْ كل المعارضين لاشتراكيات الدولة المختلفة، سواء الثورية مثل المدارس اللينينية المختلفة، الستالينية والماوية والتروتسكية.....إلخ، أو الإصلاحية مثل الاشتراكية الديمقراطية..وغيرهم..ويظل الفرق بين الأناركيين الاجتماعيين ومشاركيهم الآخرين في التيار الاشتراكي التحرري الأكبر أنَّ الأوائل يرفضون كلًا من السلطة والدولة والحزب السياسي حتى ولو في الحد الأدنى، في حين أنَّ الآخرين مع تقليل السلطة للحد الأدنى الضروري، وتقليص دور الدولة لمستوى الدولة الحارسة المحدودة في الوظائف الأمنية والعدالة، وتوزيع السلطات  أفقيا دون تسلسل هرمي، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لاقصى حد ممكن بدلا من مركزتها في الشكل الهرمي، ومقرطتها لأقصى حد ممكن لمستوى الديمقراطية المباشرة، ويقبل بعضهم بمفهوم للحزب السياسي مختلف عن الفهم اللينيني أو الاشتراكي الديموقراطي التقليدي للحزب السياسي ودوره.
تدعم الاشتراكية التحررية نظام الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج والإدارة الديمقراطية لجميع المنظمات الاجتماعية، دون أيِّ سلطة حكومية أو إكراه، وترفض الأناركية الاجتماعية الملكية الخاصة، وترى أنها تعد مصدرا لعدم المساواة الاجتماعية (مع الاحتفاظ باحترام الحيازة الشخصية)، وتؤكد على التعاون والمساعدة المتبادلة.
ويستخدم مصطلح الأناركية الاجتماعية لتحديد فئة واسعة من المستقلين عن الأناركية الفردية. حيث تؤكد الأشكال الأناركية الفردية على الاستقلال الشخصي والطبيعة العقلانية للبشر، في حين ترى الأناركية الاجتماعية:“الحرية الفردية مرتبطة من الناحية النظرية مع المساواة الاجتماعية، وتؤكد على الطبيعة الاجتماعية للبشر، وضرورة المساواة، والمساعدة المتبادلة بينهم”. وتستخدم  الأناركية الاجتماعية لوصف الميول الأناركية التي تركز على الجوانب المجتمعية والتعاونية في النظرية والممارسة الأناركية تحديدا.
الاتجاهات الماركسية التحررية:
تشير الماركسية التحررية إلى نطاق واسع من الفلسفات الاقتصادية والسياسية التي تؤكد على الجوانب المناهضة للسلطوية في الماركسية، وتتخلى عن معالمها السلطوية في نفس الوقت. وهناك تيار ظهر في وقت مبكر من الماركسية التحررية، والمعروف باسم الشيوعية اليسارية، الذي ظهر في المعارضة ضد الماركسية اللينينية ومشتقاتها، مثل الستالينية، والماوية، والتروتسكية. كما أنَّ الماركسية التحررية بالغة الأهمية أيضا في رفضها المواقف الإصلاحية، التي يتمسك بها الاشتراكيون الديموقراطيون. وتستند التيارات الماركسية التحررية غالبا على بعض أعمال ماركس وإنجلز، والتأكيد على الاعتقاد الماركسي في قدرة الطبقة العاملة على صياغة مصيرها دون الحاجة إلى وجود حزب ثوري، أو دولة تحررها، أو مساعدة طليعية لتحريرها، وهيَ تقف في ذلك جنبا إلى جنب مع الأناركية، ولذلك فالماركسية التحررية هي واحدة من التيارات الرئيسية في الاشتراكية التحررية.
وتشمل التيارات الماركسية التحررية، اللكسمبرجية، وشيوعية المجالس، والشيوعية اليسارية، واشتراكية أو بربرية، واتجاه جونسون فورستر، والاشتراكية الأممية، والأممية المواقفية، والاستقلالية الذاتية، واليسار الجديد. وقد كان للماركسية التحررية في كثير من الأحيان تأثير قوي على كل من أناركييِّ ما بعد اليسار والأناركية الاجتماعية. والمنظرين البارزين في الماركسية التحررية يضمون كل من روزا لوكسمبرج، وانطون بانيكوك، ورايا دنايفسكايا، وأنطونيو نيجري، وكورنيليوس كاستورياديس، وموريس برينتون، وجي ديبور، ودانيال جيرين، وارنستو سكربانتي،  وراؤول  فانجيم.
بدأت الماركسية في تطوير فرعها التحرري بعد ظروف معينة. “وجدت التعبيرات الأولى لها في أعمال وليام موريس والحزب الاشتراكي البريطاني (لSPGB)، ثم مرة أخرى حول الأحداث التي وقعت عام 1905، مع تزايد القلق من البيروقراطية واجتثاث الثورية الجذرية من الأممية الثانية الاشتراكية الديمقراطية على يد كاوتسكي وبرنشتين وشركائهم”. وقد أنشأ ليام موريس رابطة الاشتراكيين في ديسمبر عام 1884، والذي كان فريدريك إنجلز فضلا عن  إلينور ماركس متحمسين جدا لها. وشرع وليام موريس في سلسلة لا هوادة فيها من الخطابات والأحاديث على نواصي الشوارع، وفي نوادي الرجال العاملين، وقاعات المحاضرات في جميع أنحاء إنكلترا واسكتلندا. من عام 1887، وبدأ عدد الأناركيين يفوق عدد الاشتراكيين الماركسيين في رابطة الاشتراكيين. ولذلك تميز المؤتمر السنوي الثالث للرابطة، الذي عقد في لندن يوم 29 مايو 1887 بالتغيير في سياسته التقليدية، حيث صوتت أغلبية المندوبين 24 فرعا لصالح  القرار الأناركي الذي تقدم به وليام موريس معلنا أنَّ“هذا المؤتمر يؤيد سياسة الامتناع عن العمل البرلماني، ولا يرى سببا كافيا لتغيير ذلك” وهو ما اتبعته الرابطة حتى الآن. وحاول وليام موريس لعب دور صانع سلام بين الفريقين، ولكنه وقف في النهاية مع مناهضي البرلمانية، الذين فازوا بالسيطرة على الرابطة التي فقدت بالتالي دعم إنجلز، وشهدت رحيل إليانور ماركس وشريكها إدوارد إيفلنج.
ومع ذلك، فإنَّ“التصدعات الأهم في أوساط الماركسيين ترجع إلى التمرد على الإصلاحيين أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. والشعور بخيبة الأمل مع استسلام الاشتراكيين الديموقراطيين، لموقفهم المتحالف مع حكوماتهم الوطنية في الحرب، مما عُدَّ خيانة للأصول الأممية للحركة الاشتراكية، كما انتشر الولع بين اليسار الثوري بالظهور العفوي لمجالس العمال، وببطء ابتعدوا عن اللينينية التي تشابهت معهم في الموقف من الإصلاحيين في بعض القضايا، كما ابتعدوا عن الإصلاحية، وأصبح العديد من الشيوعيين اليساريين يرفضون مطالبات الأحزاب الاشتراكية بالتعاون معهم حيث وضعوا ثقتهم بدلا من ذلك في الجماهير. فقد اعتقدوا أنَّ الحدس لدى الجماهير في العمل يمكن أنْ يكون أكثر عبقرية في ذلك من عمل أعظم عبقرية فردية لدى الاشتراكيين”.
كما أنَّ عمالية وعفوية لوكسمبورغ، ونقدها العميق لكثير من عناصر اللينينية الفكرية والتنظيمية، ولممارسات البلاشفة قبل استيلاءهم على السلطة وبعدها (راجع كتابها الهام حول تاريخ الثورة الروسية)، تعد مثالا تم احتذاؤه في المواقف التي اتخذت في وقت لاحق من اليسار المتطرف في تلك الفترة مثل أنطوني بانيكوك، ورولاند هولست، ورتيير في هولندا، وسيلفيا بانكهيرست في بريطانيا، وغرامشي في إيطاليا، ولوكاش في المجر. في هذه الصيغ على يسار اللينينين، تم اعتبار ديكتاتورية البروليتاريا ديكتاتورية طبقة، “وليست ديكتاتورية حزب أو زمرة تدعي تمثيل الطبقة ومصالحها”، ولكن في هذا الخط من التفكير“، فإنَّ التوتر بين مناهضي الطلائعية من غير اللينينين، وأنصار الطلائعية من اللينينين في كثير من الأحيان حل نفسه بطريقتين على طرفي نقيض: تضمنت الطريقة الأولى الانجراف نحو الحزب، ولكنه حزب جماهيري واسع مختلف عن الحزب اللينيني النخبوي القائم على المركزية الديمقراطية. وتضمنت الطريقة الثانية خطوة نحو فكرة العفوية البروليتارية الكاملة...وتجسدت الطريقة الأولى أكثر وضوحا في أعمال غرامشي ولوكاش وروزا لوكسمبرج...وتجسدت الطريقة الثانية في اتجاه وتطوير اليسار الجذري الهولندي والألماني، والذي يميل نحو القضاء التام على شكل الحزب”.
ظهرت المعارضة اليسارية في الدولة السوفيتية الناشئة ضد البلاشفة، وقادت ودعمت سلسلة من الانتفاضات ضد البلاشفة مثل انتفاضة كرونشتاد. وقد بدأت من عام 1918 واستمرت خلال الحرب الأهلية الروسية، و حتى بعد عام 1922. وردا على محاولات البلاشفة المتزايدة لرفض انضمام هذه المجموعات إلى الحكومة التي قمعت اليسار الشيوعي كما قمعت الأناركيين وغيرهم، وقد كتب لينين في مواجهتهم كتابه الشهير “الشيوعية اليسارية لعب أطفال”الذي كرسه لمهاجمة النقاد المتنوعين للبلاشفة الذين اتخذوا  مواقف على يسارهم.
يطلق البعض من الأناركيين غير المتأثرين بالماركسية على التيارات الأناركية المتأثرة بالماركسية، أنهم أطفال لينين، لأنه سفه أسلافهم التاريخيين، ووصف شيوعيتهم اليسارية بأنها لعب أطفال، ولكن التجربة التاريخية في هذه الحالة، أثبتت أنَّه أحيانا ما يكون لعب الأطفال أكثر حكمة وصوابا وعقلانية من عمل الراشدين.
* في مارس 1921، طالبت المعارضة العمالية بأن يكون الإنتاج والخدمات تحت إدارة النقابات العمالية ومجالس العمال، إلَّا أنَّ لينين نعت الاقتراح في تعبير يليق ببابا الفاتيكان بأنه “انحراف نقابي أناركي واضح وجلي”، وذلك في التقرير الذي قدّمه أمام المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي البلشفي لروسيا، وطرح في مقابل هذا نموذج لدولة تتجاوز مهامها السيادية التقليدية إلى إدارة مجمل شئون المجتمع في الإنتاج والخدمات، مأخوذا ومنبهرا في ذلك بنموذج إدارة جهاز الدولة الألماني لمرفق البريد، وانتهيَ اقتراح لينين البالغ الذي أخذ فرصته في التطبيق إلى أنْ يتحول كبار العاملين في الجهاز البيروقراطي للدولة لطبقة منفصلة عن الطبقة العاملة مثقلة بالامتيازات، ومحصنة من النقد، وأتاحت لها سلطاتها الكلية القدرة، أنْ تفسد دون حسيب، وتخرب دون رقيب، وانتهيَ الأمر بها أنْ تدمر بنفسها دولتها، وأهدت بسهولة معظم ثروات الاتحاد السوفيتي التي بنيت بكم هائل من التضحيات عبر ثمانين عاما إلى حفنة من اللصوص، دون أنْ يبدي العمال أيَّ دفاعٍ عما يملكوه، وما شيدوه بالدم والعرق والحرمان، لأنهم في الحقيقة لم يشعروا يوما أنَّهم مالكين لكل تلك الثروة، فقد كان تخطيط الدولة العقلاني جدا لكل من الإنتاج والاستهلاك، يعني تكديس السلاح وغزو الفضاء، وفي نفس الوقت حرمان الناس من احتياجاتهم الاستهلاكية البسيطة.أما ما اقترحه الأطفال، ولم يجد الفرصة للتطبيق، فكان يعني ببساطة أنْ يتحرر العمال فعليا من عبودية العمل المأجور التي استمرت لدى الدولة كما كانت لدى الرأسماليين، كما استمر انفصالهم عن وسائل الإنتاج، وعن ما ينتجوه كما كانوا في الوضع الذي ثاروا عليه، في حين كان الأخذ بكلام الأطفال، سوف يعني عدم إتاحة الفرصة للفساد، ولتنامي الثروات من الاقتصاد السري، طالما ظل بأيدي العمال أنفسهم إدارة ما يملكوه، وما كان يمكن أنْ يسلب منهم أحد ما بنوه، بمثل هذه البساطة والسهولة التي حدثت، فضلا عن أنهم في النهاية كانوا سوف ينتجون ما يحتاجونه فعلا من احتياجات استعمالية، دون هدر للإمكانيات الموارد وجهودهم الهائلة فيما لا طائل من وراءه، وبالتالي ما كان يمكن أنْ يفقد البشر فرصتهم التاريخية للتحرر من القهر والاستغلال، والتي قد لا تتكرر في المدى المنظور، نتيجة هذا الفشل المروع، برغم ما يمثله الوضع الحالي من تهديدات لاستمرار البشر أنفسهم في الوجود، وبرغم الأزمة التي تعتري الرأسمالية مؤخرا، بسبب عزوف الناس في نفس الوقت عن سماع من يطرحون البديل عن هذا الوضع، والذين يقترحون تجاوز الرأسمالية فورا.
* شرحت “ألكسندرا كولنتاي” مميزات ظاهرة انتشرت عفويا مثلها مثل ظاهرة المجالس العمالية في بدايات الثورة، وهيَ تحول الأعمال المنزلية من طهو وغسل ملابس ورعاية أطفال وخلافه من أعمال تخص كل أسرة على حدة، وتُلقى على عاتق المرأة وحدها، إلى أنشطة جماعية يشترك في إنجازها العديد من الأسر والأفراد المتعاونين، والذين ينتجون ويستهلكون ويعيشون سويا، ومدى انعكاس ذلك على تحرر المرأة من مشاق العمل المنزلي وسلبياته، إلَّا أنَّ فكرة أنْ ينتج ويستهلك ويعيش الناس سويا في جماعات يربط أفرادها نشاط اقتصادي وجيرة، تحمل من الإيجابيات ما هو أكثر من ذلك ما لا يتسع المجال لذكرها، ولكن الظاهرة انتهت بسحق المعارضة العمالية، وقمع عفوية تحرير الناس لأنفسهم، وتنظيم حياتهم بإرادتهم، وتمت العودة مجددا إلى نموذج الأسرة النووية التقليدية، واستمرار التناقض بين الإنتاج الجماعي والاستهلاك الفردي، وهذا أدى لانتعاش الفردية واستمرار الأنانية في الناس، وتنافسهم البغيض على المناصب والمغانم، بدلا من تضامنهم وتعاونهم سويا في مواجهة الحياة، وهذا أدى لفساد بعضهم من الذين أتيحت لهم فرص الفساد..كما أتاح الاستهلاك الفردي، انتعاش ثقافة الاستهلاك بين الأفراد، وكانت النتيجة أنْ وقع الكثير من الأفراد تحت تأثير الإعلانات الاستهلاكية للكوكاكولا والماكدونالدز، وأوهام التطلعات الاستهلاكية في الغرب الرأسمالي، مما ساعد على سهولة الانهيار، الذي ما أنْ تم حتى تورط عشرات الآلاف في مافيا الاتجار في البشر سواء كمجرمين أو ضحايا.
* تم بناء الاتحاد السوفيتي على أنقاض الإمبراطورية الروسية التي كانت تضم أكثر من 160 مجموعة إثنية وقومية، أكبرهم الروس الذين كانوا يشكلون حوالي نصف السكان، وبعض تلك المجموعات كان لا يتجاوز أفرادها بضعة آلاف، وكانت رؤى الأطفال الذين عبرت عنهم روزا لوكسمبرج أنْ تنتظم الأجهزة السياسية والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بشكل منفصل عن انتماءات الأفراد الإثنية والقومية والعرقية مع تمتع هؤلاء كأفراد في نفس الوقت بحقوق إنسانية متساوية، والذين يمكن لهم كجماعات الحفاظ على تراثهم الإثني والقومي من خلال أنشطة ثقافية وتعليمية لا غير..ولكن البالغين بقيادة لينين قرروا أنْ يمنحوا تلك المجموعات كيانات سياسية وإدارية داخل الدولة في شكل جمهوريات اتحادية وجمهوريات وأقاليم ذوات حكم ذاتي داخل الجمهوريات الاتحادية..مكرسين هيمنة الجمهورية الروسية داخل الاتحاد على الجمهوريات الأخرى، ومن ثم استمر وضع الإمبراطورية الروسية مع تغير في الشكل، مما أعطى الفرصة لتنامي النزاعات القومية والانفصالية بين شعوب الاتحاد، وكان نتيجة تبني الفكر القومي والطائفي وعدم اجتزازه أنْ تفكك الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا لكيانات قزمية بسهولة غير عادية، لا بد وأن تستمر تبعيتها للكيانات الأكبر رغم الاستقلال المزعوم، فكثير من تلك الكيانات لا تتجاوز سكانا ومساحة المدينة التي أسكنها..في حين لو تم تبني أفكار الأطفال ما كان يمكن لهذا الانهيار أنْ يحدث، فثمانين عاما من العيش والعمل معا بين الأفراد دون اعتبار للاختلافات العرقية والثقافية والقومية بينهم، كانت كفيلة بصهر تلك الجماعات القومية والإثنية معا مثلما انصهر المهاجرون الآتون من شتى بقاع العام في دول المهجر في العالم الجديد، برغم كل اختلافاتهم التي لا تعيرها دول المهجر اهتماما كما لا تلتفت إليها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والبنية السياسية والإدارية هناك، وتظل الظاهرة القومية متجسدة ومحصورة في أنشطة ثقافية واجتماعية تمارسها مؤسسات المجتمع المدني للجماعات القومية والإثنية المختلفة.
وفقا للعديد من الاشتراكيين التحرريين الماركسيين، فإنَّ الإفلاس السياسي للاشتراكية الديمقراطية بجناحيها الثوري  والإصلاحي استلزم قطيعة نظرية معها. أخذت هذه القطيعة معها عددا من الأشكال والتيارات والمواقف. مثل البوردريجيين في إيطاليا والحزب الاشتراكي لبريطانيا العظمى الذين تمسكوا بالتشدد الفائق بالماركسية في المسائل النظرية. وكثيرا ما ترتبط الاشتراكية التحررية بالتطلعات السياسية المناهضة للسلطوية مع هذا التمايز النظري.
كارل كورش هو مفكر ماركسي ألماني عرف بمعارضته للماركسية الأرثوذكسية، حيث عارض طرح كاوتسكي الإصلاحي للماركسية، وعارض أيضا الطرح الثوري اللينيني للماركسية، مما يجعله ماركسيا من نوع مختلف، حيث يرى كورش أنَّ رغبة ماركس في تأسيس حزب سياسي ثوري كانت مختلفة تماما عن الحزب اللينيني، فلينين يرى الثورة فعلا أحاديا يؤدي إلى نتائج محددة، بينما ماركس اعتقد أنَّ الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية هي عملية ثورية ممتدة من داخل المجتمع البرجوازي.
اختلف كورش أيضا علي طبيعة التجارب الاشتراكية القائمة في عهده. فقد أعلن بوضوح أنَّ الاقتصاد المركزي المخطط، وحكم الحزب الواحد سينتج نوعا مختلفا من الرأسمالية، وهي رأسمالية الدولة. وستتحول الاشتراكية إلى حلم يوتوبي مثالي لا يمكن تحقيقه طالما استمرت المركزية المفرطة.
إنَّ كورش يعلن نفسة ماركسيا رغم رؤيتة أنْ بعضا من كتابات ماركس لم تعد صالحة، ورفضه التام لمجمل أفكار إنجلز ولينين، فهيِ السبب الأساسي حسب رأيه في عجز الماركسية عن تجديد نفسها، وفشلها في فهم حركة تطور الرأسمالية ومواكبته. وهو يقول هذا في إطار ما أسماه “نقدا ذاتيا”.
الماركسيون التحرريون يؤيدون الأناركيين في المعارضة للديمقراطية التمثيلية الرأسمالية والأشكال السلطوية للماركسية على حد سواء. كما يشاركونهم في رفض كل من الرأسمالية والدولة على الرغم من أنَّ الأناركيين والماركسيين يتقاسمون الهدف النهائي للمجتمع عديم الدولة، ينتقد الأناركيون الماركسيين السلطويين لمناصرتهم المرحلة الانتقالية والتي بموجبها يتم استخدام الدولة لتحقيق هذا الهدف. ومع ذلك، فقد تشابكت تاريخيا الميول الماركسية التحررية مثل التسيير الذاتي الماركسية وشيوعية المجالس مع الحركة الأناركية. وتنخرط مع التحركات الأناركية في صراعها مع كل القوى الرأسمالية والماركسية السلطوية، في نفس الوقت، كما كان الحال في الحرب الأهلية الإسبانية، حيث كان الماركسيون في الحرب غالبا ما ينقسمون على أنفسهم في تأييد أو معارضة الأناركية. وقد أدت الاضطهادات السياسية الأخرى في إطار حكم الأحزاب البيروقراطية في العداء التاريخي القوي بين الأناركيين والماركسيين التحرريين من جهة والماركسيين اللينينيين ومشتقاتهم مثل الماويين من جهة أخرى.
ومع ذلك، في التاريخ الحديث، فإنَّ الاشتراكيين التحرريين قد شكلوا مرارا تحالفات مؤقتة مع الجماعات الماركسية اللينينية لأغراض احتجاج ضد المؤسسات التي رفضها كلاهما. وجزء من هذا العداء يمكن أنْ يعزي إلى جمعية العمال الدولية؛الأممية الأولى، بين ميخائيل باكونين، ممثلا الآراء الأناركية، وكارل ماركس، الذي اتهمه الأناركيون بأنه “استبدادي”، الذي خلق صراعا حول مختلف القضايا. كان يقابلها وجهة نظر باكونين على عدم شرعية الدولة كمؤسسة، ودور السياسة الانتخابية المجهض لتحرر البروليتاريا، مناقضا بشكل صارخ لأفكار ماركس في الأممية الأولى. وقد انتهت نزاعات ماركس وباكونين في نهاية المطاف إلى سيطرة ماركس على الدولية الأولى، وطرد باكونين وأتباعه من المنظمة.
وكان سبب بداية النزاع والانقسام منذ فترة طويلة بين الاشتراكيين التحرريين وما يسمونه “الشيوعيين السلطويين”، ليس مجرد “الاستبدادية”. فقد صاغ بعض الماركسيين وجهات النظر التي تشبه النقابية الثورية، وبالتالي عبروا عن ألفة أكثر مع الأفكار الأناركية. ويعتقد العديد من الاشتراكيين التحرريين، ولا سيما نعوم تشومسكي، أنَّ لدى الأناركية الكثير من القواسم المشتركة مع تيارات معينة من الماركسية، مثل الشيوعي المجالسي الماركسي انطون بانيكوك. وفي ملاحظات تشومسكي على الأناركية، قال إنَّه يشير إلى احتمال “أنَّ شكلا من أشكال شيوعية المجالس هو الشكل الطبيعي للاشتراكية الثورية في المجتمع الصناعي. ويعكس هذا الاعتقاد أنَّ الديمقراطية محدودة للغاية عندما يتم التحكم في النظام الصناعي بأيِّ شكل من النخبة الاستبدادية، سواء من الملاك أو المدراء، أو التكنوقراط، أو  حزب “الطليعة”، أو بيروقراطية الدولة”.
في منتصف القرن 20 ظهرت بعض الجماعات الاشتراكية التحررية بعد ظهور خلافاتها مع التروتسكية التي قدمت نفسها بوصفها اللينينية المعادية للستالينية، والتي خرجت من الأممية الرابعة التروتسكية، حيث شكل كورنيليوس كاستورياديس وكلود يفورت واتجاه  شيلو-مونتال في فرنسا الحزب الشيوعي الأممي في عام 1946. و هم من الذين أعلنوا عن “خيبة الأمل النهائية في التروتسكية”، مما أدي بهم إلى الانفصال لتشكيل المجموعة الفرنسية اشتراكية أو بربرية، ونشر المجلة التي بدأت تظهر مارس بنفس الاسم عام 1949، قال كاستورياديس في وقت لاحق من هذه الفترة إنَّه“تم تشكيل الجمهور الرئيسي للمجموعة وللمجلة من جماعات من اليسار الراديكالي القديم: وشيوعيِّي المجالس، وبعض الأناركيين وبعض من ذرية اليسار الشيوعي الألماني من عشرينات القرن 20”. وأيضا في المملكة المتحدة تأسست مجموعة التضامن في عام 1960 من قبل مجموعة صغيرة من أعضاء طردوا من رابطة العمل الاشتراكي التروتسكية. متأثرين بشدة بمجموعة  “اشتراكية أو بربرية” الفرنسية، ولا سيما بزعيمها الفكري كورنيليوس  كاستورياديس، الذي كتب العديد من المقالات في نشرات التضامن. وكان الزعيم الفكري للجماعة كريس باليس (الذي كتب تحت اسم موريس برينتون). في عام 1969  ثم نشر الفرنسي الأناركي الشيوعي البرنامجي دانيال جيران مقال بعنوان “ الماركسية التحررية؟” الذي عالج النقاش بين كارل ماركس وميخائيل باكونين في الأممية الأولى، وبعد ذلك أشار إلى أنَّ“الماركسية التحررية ترفض الحتمية والقدرية، وتعطي مكانا أكبر لإرادة الفرد، والحدس والخيال، وسرعة رد الفعل، والغرائز العميقة للجماهير، التي تكون رؤيتها أعمق كثيرا في ساعات الأزمة من تفكير 'النخبة؛ فالماركسية التحررية تعتقد بآثار المفاجأة والاستفزاز والجرأة، وترفض تشوش وشلل الجهاز “العلمي” الثقيل، الذي لا يراوغ أو يخدع، ويحرس نفسه من المغامرة بقدر خوفه من المجهول”. وفي الولايات المتحدة 1970-1981 كانت هناك نشرة الجذر والفرع  والذي كان عنوانا فرعيا لـ”جريدة الماركسية التحررية”. وفي عام 1974 بدأ نشر مجلة الشيوعية التحررية في المملكة المتحدة من قبل مجموعة داخل الحزب الاشتراكي البريطاني.
وتعتبر تيارات الاستقلالية الماركسية والماركسية الجديدة والنظرية المواقفية أيضا من تيارات مكافحة الاستبدادية الماركسية التي ظهرت بقوة داخل التقاليد الاشتراكية التحررية. خارج وضد عملية تحويل الماركسية إلى عقيدة هيمنة.
 كانت مختلف النزعات الثورية التي لا تزال تعتمد على عمل ماركس، والتي رفضت إصدارات كل من الاشتراكية الديمقراطية والماركسية اللينينية لنظريته. الأكثر إثارة للاهتمام، والتي أصرت على أولوية النشاط الذاتي، والإبداع من الناس في النضال ضد الرأسمالية. ففي إطار هذه الميول تم وضع نقد متماسك لـ“الماركسية الأرثوذكسية”الذي شمل ليس فقط رفضا لمفهوم “الانتقال”، ولكن إعادة صياغة مفهوم عملية تجاوز الرأسمالية الذي لديه تشابه ملحوظ بتفكير كروبوتكين في هذا الموضوع.
 وهكذا فإنَّ واحدة من أقدم التيارات السياسية التي أعلنت هذا النهج بعد الثورة الروسية عام 1917 كان تيار “شيوعية المجالس” الذي رأى “المجالس العمالية العفوية” في ألمانيا (الجمهورية البافارية السوفياتية)، أو السوفييتات في روسيا، باعتبارها الأشكال التنظيمية الجديدة التي شيدت من قبل الشعب. وكما هو الحال مع الأناركيين، رأوا أيضا استيلاء البلشفية على السوفييتات (مثلها في ذلك مثل النقابات)، تخريبا للثورة والبدء في استعادة السيطرة والاستغلال...وعلى مر السنين قد أدى هذا التركيز على استقلالية الطبقة العاملة لإعادة تفسير النظرية الماركسية التي أبرزت الطابع ذو الوجهين من الصراع الطبقي...ونتيجة لذلك كان هناك اعتراف بأن الرأسمالية تسعى لإخضاع حياة كل فرد لها “من عامل المصنع إلى الفلاح والحرفي وربة البيت والطالب، وصراع كل  هؤلاء الناس يشمل كل شكل من مقاومة هذه التبعية، ومحاولة بناء طرق بديلة لحياتهم، لا مجرد الصراع فقط بين العمال والرأسماليين كما تركز الماركسية التقليدية”.
الديليونية:
اتجاه الديليونية، والمعروف أحيانا باسم ماركسية ديليون، هو شكل من أشكال النقابية الماركسية التي صاغها دانيال دي ليون. وكان دي ليون زعيم أول حزب اشتراكي في الولايات المتحدة الأمريكية، حزب العمل الاشتراكي الأمريكي. وجمع دي ليون بين نظريات النقابية الثورية التي صعدت في وقته مع الماركسية التقليدية. وفقا لنظرية دي ليون، الاتحادات الصناعية (خاصة النقابات) هي قاطرة الصراع الطبقي. والنقابات الصناعية التي تخدم مصالح البروليتاريا سوف تحدث التغيير المطلوب لإقامة النظام الاشتراكي.
الطريقة الوحيدة التي يختلف فيها مع بعض التيارات في الأناركية النقابية هي أنَّه، وفقا لتفكير دي ليون، فإنَّ الحزب السياسي الثوري ضروري أيضا للقتال من أجل البروليتاريا في المجال السياسي مثل النقابة الثورية. وتقع الديليونية خارج التقليد اللينيني الشيوعي الخاص المتمسك بالحزب الطليعي، والمركزية الديمقراطية. إلَّا أنَّه سبق اللينينية في وضع القواعد التنظيمية للحزب الثوري حيث وضعت مبادئ الديليونية في أوائل تسعينات القرن التاسع عشر بقيادة دي ليون، وهو ما ينفي افتراض أنَّ حزب العمل الاشتراكي. أخذ اللينينية وفكرة حزب الطليعة بعد نشر كتاب لينين “ما العمل؟” الصادر عام 1902. فضلا عن الطبيعة اللامركزية للغاية والديمقراطية في إدارة الحزب في الديليونية التي هيَ على النقيض من المركزية الديمقراطية اللينينية، و هى ما يعتبرونه سببا في الطبيعة الديكتاتورية للاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية، وغيرها من الدول “الشيوعية”. فنجاح خطة التغيير الثوري في الديليونية يعتمد على تحقيق تأييد أغلبية الشعب على حد سواء في أماكن العمل، وعند صناديق الاقتراع، وعلى النقيض من مفهوم لينين أنَّ حزب طليعي صغير يجب أنْ يقود الطبقة العاملة للقيام بالثورة.
شيوعية المجالس:
 شيوعية المجالس هيَ حركة اليسار الراديكالي التي نشأت في ألمانيا وهولندا في عشرينات القرن العشرين. وشيوعية المجالس اليوم تمثل موقف نظري وناشط في الماركسية، وأيضا داخل الاشتراكية التحررية. والحجة المركزية للشيوعية المجالسية، التي تضعها على النقيض من الديمقراطية الاجتماعية والشيوعية اللينينية، هي أنَّ مجالس العمال الناشئة في المصانع والبلديات هي الشكل الطبيعي والشرعي لتنظيم العمال وسلطة الحكومة. ويعارض هذا الرأي الإصلاحية والاعتماد البلشفي على الأحزاب الطليعية، والبرلمانات، أو الدولة.
المبدأ الأساسي لشيوعية المجالس هو أنَّ الدولة والاقتصاد ينبغي أنْ يدارا من قبل مجالس العمال، التي تتألف من المندوبين المنتخبين في أماكن العمل والذين يمكن استدعائهم في أيِّ لحظة. وعلى هذا النحو، شيوعيو المجالس يعارضون “الاشتراكية البيروقراطية” التي تديرها الدولة. كما أنهم يعارضون فكرة “الحزب الثوري”، حيث يعتقد شيوعيو المجالس أنَّ الثورة التي تقاد من قبل حزب سوف تنتج بالضرورة ديكتاتورية الحزب. ولذلك يدعم شيوعيو المجالس “الديمقراطية، التي تنتج من خلال اتحاد العمال في مجالس العمال.
الكلمة الروسية للمجلس هي “السوفيت”، وخلال السنوات الأولى من الثورة فإنَّ مجالس العمال أو سوفيتات العمال كانت متميزة سياسيا في روسيا. ولذلك كان علي فلاديمير لينين الاستفادة من هالة السلطة التي يملكها السوفيت في مكان العمل فرفع شعار كل السلطة للسوفيتات، حيث أنَّ الكلمة أصبحت تستخدم لتصف مختلف الهيئات السياسية المنتخبة على أساس مواقع العمل. ومن هنا “السوفيت الأعلى”، كان اسم البرلمان في الاتحاد السوفيتي السابق. لكن السوفيتات بعد سيطرة البلاشفة بقيادة لينين عليها أصبحت لا تعبر بأيِّ حال عن اللامركزية ولا عن إرادة الناخبين من العمال، ولا عن الشعب، ولكن تعبر عن إرادة الحزب الخاضع للجنته المركزية الخاضعة في النهاية لإرادة سكرتيرها العام. ولذلك تمسك شيوعيو المجالس بنقد الاتحاد السوفييتي كدولة رأسمالية، معتبرين أنَّ الثورة البلشفية في روسيا أصبحت “ثورة برجوازية” عندما حلت بيروقراطية الحزب محل الأرستقراطية الإقطاعية القديمة. ورغم أنَّ الغالبية ترى  أنَّ الثورة الروسية عمالية الطابع، فإنَّ شيوعيو المجالس اعتقدوا أنَّ العلاقات الرأسمالية لا تزال موجودة (لأن العمال ليس لديهم رأيٌ في إدارة الاقتصاد و لا في اتخاذ القرار السياسي)، مما أدى لأنْ ينتهيَ الاتحاد السوفيتي إلى دولة رأسمالية دولة، مع استبدال الدولة للرأسمالية الفردية. وهكذا فشيوعو المجالس يدعمون الثورات العمالية، ولكنهم يعارضون ديكتاتوريات الحزب الواحد. ويعتقد شيوعيو المجالس أيضا في التقليل من دور الحزب إلى مجرد مؤسسة للتحريض والدعاية، ورفض المشاركة في الانتخابات أو البرلمان، ويجادلون بأن العمال يجب أنْ يغادروا النقابات الرجعية، ويشكلوا اتحادا عماليا واحدا ثوريا كبيرا.
الشيوعية اليسارية:
“الشيوعية اليسارية” هي مجموعة من وجهات النظر الشيوعية التي يتمسك بها اليسار الشيوعي، الذي أخذ ينتقد الأفكار السياسية للبلاشفة في فترات معينة، من منطلق يؤكد على أنهم الأكثر تمسكا بالأصول الماركسية والميول البروليتارية الأكثر أصالة من وجهة نظر اللينينية التي تمسكت بها الأممية الشيوعية اختصارا “الأممية الثالثة” خلال مؤتمرها الثاني وبعده. ويرى الشيوعيون اليساريون أنفسهم على يسار اللينينيين الذين  يراهم اليساريون الشيوعيون كيسار رأسمالي، وليسوا اشتراكيين، والأناركيون من ناحية أخرى يعتبرون الشيوعيين اليساريين اشتراكيين أمميين، ولكنهم ليسوا أناركيين، وكذلك بعض النزعات الاشتراكية الثورية الأخرى (على سبيل المثال الدي ليونيين، الذين يميلون لرؤيتهم على أنهم اشتراكيين أمميين إلَّا في حالات محدودة).
على الرغم من أنها ماتت قبل أنْ تصبح “الشيوعية اليسارية” اتجاها واضحا ومتميزا، فإنَّ روزا لوكسمبورغ مؤثرة بشدة في الشيوعيين الأكثر يسارا، سياسيا ونظريا. وانتقادتها الحادة للينينية والبلاشفة أساسية في تكوين الاتجاه الشيوعي اليساري الذي يعتبر قنطرة أو حالة وسطى بين الماركسية والأناركية، ويتضمن أنصار الشيوعية اليسارية أماديو بورديجاو، وهيرمان جورتر، وأنطون بانيكوك، وأوتو رهل، وكارل كورش، وسيلفيا بانكهيرست وباول ماتيك.
وتشمل أبرز الجماعات الشيوعية اليسارية القائمة لليوم الحالي التيار الشيوعي الأممي، والمكتب الدولي للحزب الثوري. أيضا، الفصائل المختلفة من الحزب الشيوعي الأممي البورديجي القديم  تعتبر منظمات شيوعية يسارية.
اتجاه جونسون فورستر:
اتجاه جونسون فورستر، الذي يسمى أحيانا الجونسونية، ينتمي إلى اتجاه اليسار الجذري في الولايات المتحدة، ويرتبط مع النظري الماركسي C. L. R. جيمس ورايا دونافيسكايا، اللذان استخدما أسماء مستعارة J. R. جونسون وفريدي فورستر على التوالي. وانضمت إليهما جريس لي بوجز، وهي صينية أمريكية تعتبر المؤسس الثالث بعد خروجها من حزب العمال الاشتراكي التروتسكي، وأسس جونسون فورستر منظمتهم، وأسماها المراسلات. وهذه المجموعة غيرت اسمها إلى لجنة نشر المراسلات في العام التالي. ومع ذلك، فالتوترات التي ظهرت بينهم كانت نذير انقسام، وقع نهائيا في عام 1955. ومن خلال عمله النظري والسياسي في أواخر أربعينيات القرن 20، كان جيمس خلص إلى أنَّ حزب الطليعة لم يعد ضروريا، لأن تعاليمه قد تم استيعابها في الجماهير. وفي عام 1956، فإنَّ رؤية جيمس للثورة المجرية عام 1956 كانت تأكيدا على ذلك. وأولئك الذين أيدوا  سياسة جيمس اتخذوا اسم مواجهة الواقع، بعد كتاب 1958 من قبل جيمس، والذي شارك في كتابته غريس لي بوجز وبيار شاليو، وهو اسم مستعار لكورنيليوس كاستورياديس، عن ثورة الطبقة العاملة المجرية لعام 1956.
اشتراكية أو  بربرية:
اشتراكية أو  بربرية مجموعة اشتراكية تحررية راديكالية كان مقرها فرنسا لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (الاسم يأتي من العبارة المستخدمة لفريدريك إنجلز، والتي استشهدت بها روزا لوكسمبورغ في مقال عام 1916، “كراسة جونيوس”). وظلت المجموعة موجودة منذ عام 1948 حتى عام 1965. والشخصية الملهمة لها كانت كورنيليوس كاستورياديس، المعروف أيضا باسم بيير شاليو أو بول كاردان. لأنه رفض وانتقد صراحة كلا من الطليعية اللينينية والعفوية المجالسية، ووفقا...لكورنيليوس كاستورياديس تحرر جماهير  الناس مهمة هؤلاء الناس. ومع ذلك، فإنَّ المفكر الاشتراكي لا يمكن ببساطة ليُّ ذراعه. ولذك قال كاستورياديس إنَّ المكانة الخاصة الممنوحة للمثقف يجب أنْ تنتمي إلى كل مواطن مستقل. ومع ذلك، رفض القصدية، وللحفاظ على ذلك، في النضال من أجل مجتمع جديد؛ فالمثقفين يحتاجون إلى“وضع أنفسهم على مسافة من حياة كل يوم ومن الواقع”. وقد أعجب الفيلسوف السياسي كلود يفورت بما كتبه كورنيليوس كاستورياديس عندما التقي به لأول مرة، حيث نشروا كتابات ضد الدفاع عن الاتحاد السوفياتي، ونقدا كل من الاتحاد السوفيتي وأنصاره الستالينيين والتروتسكيين، واقترحوا أنَّ الاتحاد السوفياتي يسيطر عليه طبقة اجتماعية من البيروقراطيين، وأنه يؤلف نوعا من المجتمعات الطبقية القمعية  مثل المجتمعات الرأسمالية الأوروبية الغربية.
الأممية المواقفية:
كانت الأممية المواقفية مجموعة محدودة من الثوريين الأمميين تأسست في عام 1957، و مارست ذروة تأثيرها في الإضرابات العامة غير المسبوقة في مايو 1968 في فرنسا مع أفكارهم المتجذرة في الماركسية والحركة الفنية الأوروبية الطليعية، في القرن الـ20، وتبنوا خبرات الحياة اليومية المستقلة، كونها البديل لتلك التي يعترف بها النظام الرأسمالي، لتحقيق الرغبات البدائية للإنسان، والسعي لنوعية متفوقة عاطفيا من الحياة جماعية وفرديا عن الحياة المعتادة في المجتمع الرأسمالي. ولهذا الغرض اقترحوا وجربوا بناء مواقف عملية واقعية، والإعداد لبيئات مواتية لتلك الحياة، كالكوميونات لتحقيق هذه الرغبات. واستخدام أساليب مستمدة من الفنون، وطوروا  سلسلة من الحقول التجريبية للدراسة لإنشاء مثل هذه المواقف، وفي هذا السياق كان العمل النظري الرئيسي الذي برز من هذه المجموعة راؤول فانجام الثورة في الحياة اليومية.
وحاربوا العقبة الرئيسية للوفاء بهذه المعيشة العاطفية الأعلى، من خلال تحديد هويتهم الرافضة للرأسمالية المتقدمة. وبلغوا ذروة عملهم النظري النقدي في الكتاب ذو التأثير الكبير “مجتمع الفرجة” التي كتبه جي ديبور وترجمه للعربية أحمد حسان. قال ديبور في عام 1967 إنَّ للمظاهر المشهدية التي تقدمها وسائل الإعلام والدعاية لها دورا مركزيا في المجتمع الرأسمالي المتقدم، الذي هو إظهار حقيقة واقعة وهمية من أجل إخفاء التدهور الرأسمالي الحقيقي للحياة البشرية. وللإطاحة بهذا النظام، ولذلك فلابد من تقديم مشاهد بديلة لإظهار هذا التدهور، ودعمت الأممية الموقفية ثورات مايو 68، وطلبت من العمال احتلال المصانع وتشغيلها بالديمقراطية المباشرة، من خلال مجالس العمال المكونة من لجان المندوبين يمكن سحب تفويضهم على الفور. بعد النشر في العدد الأخير من مجلة تحليل للثورات مايو 1968، والاستراتيجيات التي سوف تحتاج الاعتماد عليها الثورات في المستقبل، تم حل الأممية المواقفية في عام 1972.
الاستقلالية الذاتية:
تشير الاستقلالية الذاتية لمجموعة من الحركات والنظريات اليسارية السياسية والاجتماعية وثيقة الصلة بالحركة الاشتراكية التحررية. فقد ظهرت لأول مرة في إيطاليا في ستينيات القرن 20 في  من خلال الترجمات التي وفرها دانيلو مونتالدي وغيره، التي لفتت نظر الاستقلاليين الإيطاليين إلى بحوث الناشط السابق في الولايات المتحدة جونسون فورستر وفي فرنسا من قبل مجموعة اشتراكية أو بربرية وفي وقت لاحق، أصبحت ما بعد الماركسية والاتجاهات الأناركية لها تأثير كبير من المواقفين، وفشل حركات اليسار المتطرف الإيطالية في السبعينيات، وظهور عدد من المنظرين الهامين بما في ذلك أنطونيو نيجري، الذي كان قد ساهم في تأسيس سلطة العمال عام 1969، وكذلك ماريو ترونتي، و باولو  فارنو، وفرانكو بيراردي، بيفو....إلخ.

وخلافا لأشكال أخرى من الماركسية، فالماركسية الاستقلالية تؤكد على قدرة الطبقة العاملة على فرض تغييرات في النظام الرأسمالي مستقلة عن الدولة والنقابات أو الأحزاب السياسية. والاستقلاليون أقل اهتماما بالمنظمة السياسية الحزبية من الماركسيين الآخرين، مع التركيز بدلا من ذلك على عمل المنظمة ذاتيا خارج الهياكل التنظيمية التقليدية. وتتبنى الاستقلالية الماركسية بالتالي نظرية من “أسفل إلى أعلى”،وتلفت الانتباه إلى الأنشطة التي يراها الاستقلاليون في العمل كل يوم لمقاومة الطبقة الرأسمالية، على سبيل المثال التغيب عن العمل، والعمل البطيء. 

الأحد، 27 أغسطس 2017

القسم الثالث:مدارس الأناركية الفكرية6

القسم الثالث:مدارس الأناركية الفكرية6
سامح سعيد عبود
الأناركيات البيئية والخضراء:
الأناركية الخضراء (أو الأناركية البيئية) هيَ مدرسة فكرية داخل الأناركية تؤكد على محورية القضايا البيئية، وقد سبقها في ذلك أناركيو المذهب الطبيعي، والذين ألهموا التيارات الأناركية البيئوية والأناركية البدائية وأناركية البيئة الاجتماعية.
من المؤثرين المبكرين الهامين في الفكر الأناركي في هذا الاتجاه الأمريكي هنري ديفيد ثورو وكتابه والدن  وليو تولستوي  والجغرافي الأناركي الفرنسي أليسي ريكلو، وفي أواخر القرن الـ19 ظهر هناك أناركيو المذهب الطبيعي.
الكتاب المعاصرون البارزون الذين يتبنون الأناركية الخضراء  يشملون موراي بوكتشن، ودانيال جودركوف، والأنثروبولوجي بريان موريس، والملتفون حول معهد البيئة الاجتماعية. وأولئك الذين ينتقدون التكنولوجيا مثل ليلى عبد الرحيم، وديريك جينسين، وجورج درافان، وجون زرزان.
أما أنصار البيئة الاجتماعية، وهم أيضا ينتمون إلى الأناركيات الاجتماعية، فغالبا ما ينتقدون التيارات الرئيسية  للأناركية لتركيزها في المناقشات والنضال حول السياسة والاقتصاد بدلا من التركيز على النظام البيئي ( وعلاقة الإنسان والبيئة). وهذه النظرية تعزز استقلال البلديات الذاتي التحرري، والتكنولوجيا الخضراء غير الملوثة للبيئة، والمهدرة للموارد الطبيعية.
تنتقد الأناركية البدائية غالبا الأناركية السائدة لدعمها الحضارة والتكنولوجيا الحديثة التي يعتقدون أنها تستند في جوهرها على الهيمنة والاستغلال، وأنهم بدلا من ذلك يدعون إلى عملية إعادة التوحش أو إعادة الارتباط مع البيئة الطبيعية. أما النباتيون فهم أنصار الفلسفة السياسية الخضرية (والمهتمون أكثر بتحرير الحيوانات من السيطرة والاستغلال البشريين). وهذا يشمل إظهار الدولة باعتبارها غير ضرورية وضارة لكل من الإنسان والحيوان، في حين يتبعون نظاما غذائيا نباتيا.
الأناركية الطبيعية:
ظهرت الأناركية الطبيعية (العراة) في أواخر القرن الـ19 باسم الاتحاد الأناركي للعراة. وكان له أهمية في الأوساط الأناركية الفردية في المقام الأول  في إسبانيا، وفرنسا، والبرتغال. وكوبا.
تدعم الأناركية الطبيعية، النظم الغذائية الطبيعية النباتية، والحب الحر، والعري، والمشي، والتجوال، وتبنى وجهة نظر العالم البيئية  ضمن الجماعات الأناركية وخارجها. وتروج الأناركية الطبيعية للنظرة البيئية إلى العالم، وتدعم القرى البيئية  الصغيرة، والحياة البسيطة المندمجة في الطبيعة، والعري كوسيلة لتجنب التصنع المميز للمجتمع الصناعي والحداثة، والعراة مثلهم مثل الأناركيين الفرديين، يركزون على حرية الجوانب البيولوجية، الجسدية والنفسية للفرد في حياته ويحاولون إلغاء القيود الاجتماعية.
أناركية البيئة الاجتماعية:
أناركية البيئة الاجتماعية هي الفلسفة التي وضعها موراي بوكتشن في ستينيات القرن 20. وهو يذهب إلى أنَّ أصل المشاكل البيئية الحالية هي مشاكل اجتماعية عميقة الجذور، لا سيما في النظم السياسية والاجتماعية الهرمية التحكمية، التي أدت للقبول غير النقدي بنمو التنافسية الشديدة على حساب الموارد البشرية والطبيعية وتوازن البيئة. ويشير إلى أنَّ هذه لا يمكن مقاومتها عن طريق العمل الفردي مثل الاستهلاك الأخلاقي أو التفكير الأخلاقي بشكل أكثر دقة مثلما يفعل الطبيعيون والبدائيون، ولكن يجب أنْ تعالج من خلال النشاط الجماعي، وترتكز على المثل الديمقراطية الراديكالية. وتشدد على تعقيد العلاقات بين الناس وبعضهم وبينهم وبين الطبيعة، جنبا إلى جنب مع أهمية إنشاء البنى الاجتماعية التي تأخذ في الاعتبار هذا الارتباط.
ولطالما كانت قضايا البيئة والاستدامة قضايا للأناركيين لزمن يعود إلى كروبوتكين 1899 في كتابه “الحقول والمصانع وورش العمل”، ولكن منذ سبعينات القرن العشرين  ازداد تحريض الأناركيين في الدول المتقدمة للحفاظ على البيئة الطبيعية. ويتبنى الأناركيون الخضر قضايا البيئة، والحفاظ على التنوع البيولوجي، والاستدامة، ضد التدهور البيئي. وغالبا ما يستخدم الأناركيون البيئيون العمل المباشر ضد ما يعتبرونه مؤسسات تدمير الأرض. وتكتسب أهمية حركة “الأرض أولا” أهمية خاصة في هذا المجال، والتي يتخذ أعضاؤها إجراءات مثل الجلوس على الأشجار لحمايتها من القطع. كما أنَّ هناك “جبهة تحرير الأرض” الأكثر تشددا، التي انبثقت من حركة “الأرض  أولا” ولها أيضا اتصالات مع الحركة الأناركية. بالإضافة إلى عنصر آخر مهم هو النسوية البيئية، التي ترى مفهوم في السيطرة على الطبيعة رمزا للهيمنة الذكورية على النساء.
عمل موراي بوكتشن على البيئة الاجتماعية، وعمل ديفيد واتسون وستيف بوث في نشر الأناركية الخضراء في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى كتابات جراهام بورشاس عن النقابية الخضراء، وساهمت جميعها في خلق مجموعة واسعة النطاق من الأناركية الخضراء، ونشر الفكر الأناركي للبيئة. وتشمل أدبيات الأناركية الخضراء أيضا على نقد الرأسمالية الصناعية، وبالنسبة لبعض الأناركيين الخضر، نقد الحضارة نفسها.
يرى معظم الأناركيين البيئيون الاجتماعيون، المجتمع الطبقي باعتباره السبب الرئيسي للتلوث البيئي. ويقولون إنَّ طبقة صغيرة من الملاك أو المتحكمين لديهم الثروة لتفادي أسوأ تداعيات التلوث في الهواء والماء والغذاء، وكذلك فئة أكبر من ذلك بكثير جدا من العمال لأنهم دون هذه الثروة فليس لهم أيُّ رأيٍ في تسيير العمل و من ثم يدفعون ثمن تلك التداعيات من صحتهم وصحة أسرهم.
وهكذا في ظل الرأسمالية واالمجتمعات الطبقية الأخرى أولئك الذين يسيطرون على أماكن العمل أيضا هم أنفسهم أولئك الذين يجنون أقل فائدة من الحد من التلوث، وفي الواقع التدابير الأكثر مكافحة للتلوث تضاف إلى تكاليف تلك الطبقة، ومن ثم سوف يكون لها مصلحة في التقليل من مثل هذه التدابير حتى ولو حساب سلامة البيئة وصحة البشر.
في ظل الرأسمالية التلوث غالبا ما يكون ناتج تقليص التكاليف، لزيادة الربح، على سبيل المثال نقل الملوثات من ممتلكات المالك، للنهر العام بتحويل تكلفة التخلص من النفايات من الرأسمالي إلى المجتمع ككل. والحل الشيوعي الأناركي هو التأكد من أنَّ جميع أولئك الذين يعملون ويعيشون داخل التأثير البيئي للمصنع لابد وأن يكون لديهم السيطرة على جميع مخرجاته، بما في ذلك الملوثات.
الأناركية البدائية:
هي الفلسفة التي تدعو إلى العودة إما إلى المجتمع ما قبل الصناعي (أيْ القرن الثامن عشر)، أو ما قبل المجتمع الزراعي التقليدي أيْ من 10 آلاف سنة، و قد طورت الأناركية البدائية نقد الحضارة الصناعية، حيث نقدت التكنولوجيا الآلية، وأشكال التنمية التي يكون فيها الناس منفصلين عن العالم الطبيعي. وهذه الفلسفة تعيد الاعتبار لممارسات سابقة لمحطمي الآلات، وقد تأثرت بكتابات جان جاك روسو. وتتجسد الحركة  البدائية في حركات “استصلاح الشوارع”، و”الأرض أولا”، و”جبهة تحرير الأرض”. وكتب جون زرزان، أحد مفكريها:“إنَّ الحضارة وليس الدولة فقط  ما تحتاج الأناركية لاسقاطه حتى يمكن تحقيقها”. وتشير الأناركية البدائية إلى الطبيعة اللاسلطوية  في كثير من “المجتمعات البدائية”أو البدائية على مر التاريخ في العالم، وتقدمها كأمثلة للمجتمعات الأناركية.
وفقا للأناركية البدائية، أدى التحول من الصيد وجمع الثمار إلى زراعة الكفاف التقليدية إلى نشوء الطبقات الاجتماعية، والإكراه، والاغتراب، والرق. ويدعو الأناركيون البدائيون إلى العودة إلى الطرق غير “المتحضرة” في الحياة من خلال إلغاء الصناعة، وإلغاء تقسيم العمل أو التخصص، والتخلي عن التقنيات على نطاق واسع. وهناك أشكال أخرى غير أناركية من البدائية، فليس كل البدائيين يشيرون إلى نفس الظاهرة كمصدر للمشاكل العصرية والمتحضرة.
كثير من الأناركيين التقليديين يرفضون نقد الحضارة في حين أنَّ البعض يوافقون على النقد، ولكن لا يعتبرون أنفسهم أناركيين بدائيين. وغالبا ما تتميز الأناركية البدائية بتركيزها على التطبيق العملي لتحقيق حالة التوحش والحياة البدائية البسيطة بالعودة للطبيعة، بعيدا عن حياة المدن والصناعة من خلال “إعادة التوحش”.
على الرغم من أنَّ معظم المجتمعات في العصر الحديث تتميز بوجود التسلسل الهرمي للسلطة، أو الدولة، فقد درس علماء الأنثروبولوجيا العديد من المجتمعات المساواتية عديمة الدولة، بما في ذلك معظم المجتمعات البدائية من الصيادين وجامعي الثمار ومن يمارسون الزراعة البستانية والرعي البدائي. فكثير من هذه المجتمعات يمكن اعتبارها أناركية بمعنى أنها ترفض صراحة فكرة السلطة السياسية المركزية.
تثير المساواتية النموذجية  للبشر الصيادين جامعي الثمار الاهتمام عندما ينظر إليها في سياق تطوري. فواحد من اثنين من أقرب الأقارب من الرئيسيات للبشر، وهو الشمبانزي العادي، لا تعرف مجتمعاته المساواة، حيث تتشكل جماعات الشمبانزي العادي في تسلسلات هرمية غالبا ما يهيمن عليها الذكر الأقوي، على عكس جماعات الشمبانزي القزم المعروف بالبونوبو الأناركية تماما في بنيتها. لذلك يكون تناقض مجتمعات الشمبانزي العادي مع مجتمعات  البشر من الصيادين جامعي الثمار مبررا لأن يناقش على نطاق واسع بين علماء الأنثروبيولوجي للعصور الحجرية فكرة أنَّ مقاومة الهيمنة السلطوية في القطيع البشري، كانت عاملا رئيسيا في دفع الظهور التطوري للوعي واللغة والقرابة والتنظيم الاجتماعي لدى البشر.
حاول ديفيد جريبير الأنثروبيولوجي الأناركي تحديد مجالات الأبحاث التى يمكن للمثقفين عبر استكشافها، إنشاء نظرية متماسكة للأناركية الاجتماعية من شظايا المعارف الأنثروبولوجية الأناركية، وقد افترض جريبير أنَّ الأنثروبولوجيا في“وضع جيد بشكل خاص” كفرع أكاديمي يمكن أنْ ننظر عبره إلى سلسلة من المجتمعات والمنظمات الأناركية، لدراسة وتحليل وفهرسة البنى الاجتماعية والاقتصادية البديلة عن المجتمعات والنظم السلطوية في جميع أنحاء العالم، والأهم من ذلك، تقديم هذه البدائل له.
درس بيير كلستر المجتمعات بلا دولة، وسجل بعض الممارسات والاتجاهات الثقافية السائدة فيها، والتي تتفادى تطور التدرج الهرمي للسلطة، ومن ثم نشوء  الدولة. وقال بناء على ذلك إنَّه يرفض فكرة أنَّ الدولة هي نتيجة طبيعية لتطور المجتمعات البشرية، أيْ أنَّه كان يمكن للبشر أنْ يحققوا كل ما حققوه من تقدم دون دولة.
يؤسس الأناركيون البدائيون نقدهم للحضارة الحديثة جزئيا على الدراسات الأنثروبولوجية عن البدو الرحل والصيادين وجامعي الثمار، مشيرين إلى أنَّ التحول نحو التمدين ربما كان سببا في زيادة المرض، والعمل، وعدم المساواة، والحرب، والاضطرابات النفسية. ويقول جون زرزان أنَّه يتم استخدام الصور النمطية السلبية عن المجتمعات البدائية (على أنها عادة ما تكون عنيفة للغاية أو فقيرة على سبيل المثال) لتبرير قيم المجتمع الصناعي الحديث، وإبعاد الأفراد عن المزيد من الظروف الطبيعية والمنصفة للحياة.
الأناركية النسوية:
تجمع الأناركية النسوية بين الأناركية والحركة النسائية. وتعتبر الأبوية (هيمنة الرجل على المرأة) التي كثيرا ما يعارضها الأناركيون عموما كمظهر من مظاهر التسلسل الهرمي  القسري الإجباري الذي ينبغي الاستعاضة عنه بحرية تكوين الجماعات اللامركزية، وتعتقد النسويات أنَّ النضال ضد النظام الأبوي هو جزء أساسي من الصراع الطبقي، والصراع الأناركي ضد الدولة. وترى النضال الأناركي باعتباره عنصرا ضروريا من النضال النسوي والعكس بالعكس. وتدعي سوزان براون أنَّ“الأناركية هي الفلسفة السياسية التي تعارض كل علاقات السلطة، ومن ثم فهيَ نسوية بطبيعتها”. وبدأت النسوية الأناركية مع كتابات القرن الـ19 من الأناركيات النسويات، مثل إيما غولدمان ولوسي بارسونز، وفولتاريني دي كليري، واللواتي مثل النسويات الراديكاليات الأخريات، انتقدن ودعون إلى إلغاء المفاهيم التقليدية لأدوار الأسرة، وإلى المساواة بين الجنسين، وموقف النسويات كان حاسما خصوصا من الزواج. فعلى سبيل المثال، الأناركية النسوية إيما غولدمان قد جادلت بأن الزواج هو اتفاق اقتصادي بحت. تدفع فيه إمراة ثمن ذلك الاتفاق من اسمها، وخصوصيتها، واحترام ذاتها، وكل حياتها”.
وتنتقد النسويات أيضا في كثير من الأحيان آراء بعض الأناركيين التقليديين مثل ميخائيل باكونين، الذين آمنوا أنَّ النظام الأبوي الذكوري ليس سوى مشكلة بسيطة وتعتمد فقط على وجود الدولة والرأسمالية، وسوف تختفي فورا بعد أنْ يتم إلغاء هذه المؤسسات. أما النسويات من وجهة نظر أخرى فإنه بالنسبة إليهن الأبوية والذكورية مشكلة أساسية في المجتمع، ويعتقدن أنَّ النضال النسوي ضد التمييز على أساس الجنس والنظام الأبوي هو عنصر أساسي من الصراع الأناركي ضد الدولة والرأسمالية.
النسويات الفرنسيات من وقت مبكر، مثل جيني دي هيريكوت وجولييت آدم، انتقدن كراهية النساء في أناركية برودون خلال خمسينات القرن 19.
الأناركية النسوية هي نوع من الحركة النسوية الراديكالية التي تتبنى الاعتقاد بأن النظام الأبوي هو المشكلة الأساسية في المجتمع. ومع ذلك، لم تُصَغ بشكل صريح من الأناركية النسوية حتى أوائل سبعينات القرن 20، أثناء الموجة الثانية من الحركة النسوية.
تنظر الأناركية النسوية للأبوية باعتبارها أول مظهر من مظاهر التسلسل الهرمي في التاريخ البشري؛ وهكذا، حدث أول شكل من أشكال القمع في هيمنة الذكور على الإناث قبل حتى ظهور الطبقات. ثم تختتم الأناركية النسوية استنتاجاتها بأنَّه يجب على الناشطات ضد النظام الأبوي، أنْ تكنَّ أيضا ضد كل أشكال الهرمية في العلاقات حتى داخل الأسرة، وبالتالي يجب أنْ يرفضن الطبيعة الاستبدادية للدولة والرأسمالية.
في الموجة النسوية الأولى تمسكت ماري ولستونكرافت بوجهات النظر الأناركية، وغالبا ما يعتبر ويليام غودوين أحد أسلاف الأناركية النسوية. في حين أنَّ معظم الأناركيين في تلك  الفترة لم يأخذوا هذه الأفكار على محمل الجد، في حين أنَّ آخرين، مثل فلورنسا فينش كيلي وموسى هارمان اعتبروا المساواة بين الجنسين موضوع ذو أهمية كبيرة. وفي أوائل القرن العشرين حصلت الأناركية النسوية على مزيد من الاهتمام من خلال عمل الكاتبات والمنظرات الأناركيات، مثل إيما غولدمان وفولتاريني دي كليري، وتأسست منظمة موخيريس يبريس الإسبانية (بالعربية: المرأة الحرة)، وهي جماعة أناركية نسوية قامت للدفاع عن كل من الأناركية والأفكار النسوية في الحرب الأهلية الإسبانية.
على عكس الحركة النسوية الماركسية والنسوية الاشتراكية، فالأناركية النسوية لا تعتمد بالضرورة على النموذج التاريخي للنظام الأبوي الذي درسه إنجلز في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”. فبدلا من ذلك، تعرض الأناركيات-النسويات الأبوية الذكورية كأحد مكونات وأعراض النظم المترابطة من القمع. وفي مثل هذا النموذج، المعارضة للنظام الأبوي ليست هي الوسيلة الوحيدة لمعارضة القمع السلطوي، ولكن بدلا من ذلك تصبح مكونا رئيسيا من مكونات حركة معارضة كل الأشكال المترابطة من القمع.
أناركية  الكوير:
 هو اتجاه في الأناركية يقترح الأناركية كحل للقضايا التي تواجه جماعات LGBT، الذي تضم أساسا متعددي الميول الجنسية، والمثليِّي الجنس، والمتحولين جنسيا والمزدوجين جنسيا. وقد نشأت أناركية الكوير خلال أواخر القرن 20 على أساس عمل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية.
الأناركيات الدينية المعاصرة:
أوحت النظرات الدينية المناهضة للسلطوية بإشكالية هامة فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان كل من الأناركية والدين متوافقين أم لا؟ في ظل وجود التيارات الأناركية اللادينية الأكثر انتشارا. والمعارضة  لكل أشكال السلطة بما فيها سلطة المؤسسات الدينية السلطوية بطبيعتها، والمرتبطة عضويا بالدين وبالكهنوت باعتباره السلطة الدينية.
“معظم الأناركيين تاريخيا من أنصار التفكير الحر، وهيَ الحركة المعادية أساسا للمسيحية، والمناهضة لمؤسسات الكهنوت، ورجال الدين  الذين يجعلون الفرد سياسيا و روحيا مترددا في اتخاذ القرار بنفسه في المسائل الدينية وغير الدينية والاحتكام اليهم. وطالما نظروا للكنيسة كحليف مشترك مع الدولة، و كقوة قمعية في حد ذاتها “.
بينما لا تعارض الأناركية في حد ذاتها المعتقدات والممارسات الروحانية الفردية طالما لم تشجع على ممارسة التسلط والقمع والخضوع للسلطة، إلَّا أنَّ معظم الأناركيين مثل برودون وباكونين وكروبوتكين وغيرهم، عارضوا الدين المنظم معتبرين أنَّ الأديان الأكثر تنظيما، هرمية أو سلطوية بطبيعتها، وأنها تتماشى مع هياكل السلطة المعاصرة مثل الدولة ورأس المال في أكثر الأحيان. ومع ذلك، فالبعض الآخر وفق الأناركية مع الدين المنظم فيما يعرف بالأناركيات الدينية المعاصرة، التي تجد جذورها في العصور الوسطى والقديمة، و تشير الأناركيات الدينية لمجموعة من الاتجاهات الأناركية المستوحاة من تعاليم الأديان (المنظمة). ومع أنَّ الغالبية من الأناركيين لا دينيون تقليديا سواء (لا ربوبيون أو لا أدرييون أو ربوبيون)،مثلهم مثل خمس سكان العالم، ومشككون عموما في الغيبيات والروحانيات، ويعارضون الدين المنظم، ويناهضون المؤسسات الدينية و رجال الدين والكهنوت، لكنْ الأناركيون الدينيون اتخذوا  كثيرا من الديانات المنظمة المختلفة مصدر إلهام لأشكال من الأناركيات الدينية المتنوعة.
الأناركية المسيحية:
تجمع بين الأناركية والمسيحية، بدعوى أنَّ الأناركية لها ما يبررها ويسندها في تعاليم يسوع المسيح. وقد وصف الأناركيون المسيحيون وبعض المؤرخين الطوائف المسيحية الأولى بالأناركية. ويعتقد الأناركي المسيحي ليو تولستوي أنَّ تعاليم بولس الرسول المؤسس الفعلي للمسيحية السائدة المخالفة للمسيحية الحقيقية، قد تسببت في التحول من التعاليم الأصلية ليسوع المسيح الأكثر مساواتية واللاسلطوية إلى تعاليم سلطوية وأقل مساواتية. ويعتقد الأناركيون المسيحيون أنَّه لا توجد سوى سلطة واحدة هيَ سلطة الله، ولذلك يعارضون كل السلطات الدنيوية، وكل الكنائس القائمة..ويرى بعضهم أنَّ تعاليم ونصوص المجموعات المسيحية اللاسلطوية الأولى تم إتلافها من قبل الكنائس السلطوية، وعلى الأخص عندما أعلن ثيودوسيوس الأول في مجمع نيقية أنَّ المسيحية هيَ الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، وبذلك أصبحت المسيحية دينا لدولة يبرر مظالمها وقمعها واستغلالها بدلا من كونها طائفة دينية متمردة على الدولة والسلطة في أصولها الفكرية والتاريخية. وكان هذا هو السبب الرئيسي فيما تلقاه أتباعها الأوائل من اضطهاد وتعذيب في الامبراطورية الرومانية، ويتبع الأناركيون المسيحيون، توجيهات يسوع المسيح حرفيا، ولذلك عادة ما يكونون دعاة سلام وتسامح صارمين، على الرغم من أنَّ بعضهم يعتقد في تبرير محدود لحق الدفاع عن النفس، وخاصة الدفاع عن الآخرين. وكان المدافع الأكثر شهرة عن الأناركية المسيحية هو الروائي والمفكر الروسي ليو تولستوي، مؤلف كتاب “ملكوت الله في داخلك”، وهو الكتاب المرجعي للأناركية المسيحية، والذي دعا إلى مجتمع قائم على مبادئ الرحمة، واللاعنف، والحرية. ويميل الأناركيون المسيحيون إلى تشكيل المجتمعات المستقلة (الكوميونات)، كما أنهم يقاومون في بعض الأحيان دفع الضرائب للدولة، ويرفضون الانخراط في الخدمة العسكرية. فهم دعاة سلام ونزع سلاح، ومعارضين لكل أشكال العنف والعسكرية والحرب، وينسحب الأناركيون المسيحيون عادة من الارتباط بالدولة محاولين تحقيق أكبر قدر من الاستقلال عنها، حيث يقولون إنَّ الدولة عنيفة، ومخادعة، وتمجيدها، ما هو إلَّا شكل من أشكال الوثنية.
فالأناركية المسيحية هيَ الاعتقاد بأن هناك مصدرا واحدا فقط للسلطة التي يكون المسيحيين مسؤولين أمامها في نهاية المطاف، هيَ سلطة الله على النحو المنصوص عليه في تعاليم يسوع المسيح الداعية لعدم مقاومة الشر والتسامح والتقشف والمحبة. فموعظة الجبل التي تهاجم بوضوح الأغنياء والكهنوت والأنانية والعنف هيَ مصدرهم المعتمد أكثر من أيِّ مصدر آخر من مصادر الكتاب المقدس الأخرى، وما ورد فيها من تعاليم تستخدم كأساس للأناركية المسيحية.
التولستويّون هيَ المجموعة الأناركية المسيحية الصغيرة التي شكلها رفيق تولستوي، “فلاديمير شيرتكوف”  (1854-1936) في روسيا، لنشر تعاليم تولستوي. وكان بيتر كروبوتكين قد كتب عن تولستوي في مقاله عن الأناركية في الموسوعة البريطانية عام 1911، في حين كتب تولستوي مئات من المقالات على مدى السنوات العشرين الأخيرة من حياته مؤكدا على النقد الأناركي للدولة، وناقش رؤياه الأناركية المسيحية في رواية “البعث” إحدى أعظم رواياته، والتي تحمل في سطورها ظلالا من سيرته الذاتية، وأوصى مساعديه بكتب كروبوتكين وبرودون لقرائتها له، وتخلى عن أسلوب حياته الأرستقراطي ليعيش مثل الفلاحين في ضيعته، وحاول أنْ يتنازل عن ضيعته للفلاحين، في حين رفض في نفس الوقت اعتناق الوسائل الثورية العنيفة.
الأناركية البوذية:
نشأت في سياق الحركة الأناركية الصينية التي كانت قوية التأثير في عشرينات القرن 20، ويعتبر تاكسيو، واحد من مفكري وكتاب هذه المدرسة الرائدة، وقد تأثر بشدة بأعمال الأناركيين المسيحيين مثل تولستوي والمفاهيم البوذية والأفكار والنصوص الطاوية القريبة من الأناركية السابق ذكرها. وتأثرت في أواخر القرن الـ19 حركة جدار في الهند بالفكر الأناركي البوذي وأفكار سوامي دايانانادا ساراسواتي، وبرزت الأناركية البوذية في وقت لاحق في  ستينيات القرن 20 من قبل كتاب مثل جاري سنايدر، وقد أبرز تلك المدرسة الفكرية جاك كيرواك في كتابه دارما المتشردين.
الأناركية الوثنية:
أدى تركيز حركات الوثنية الجديدة، على قضايا البيئة والمساواة جنبا إلى جنب مع نزعتها نحو اللامركزية لظهور عدد من الأناركيين الوثنيين الجدد، وابرزهم ستار هاوك، الذي يكتب على نطاق واسع حول كل من الروحانية والنشاطات الأناركية.
الأناركية الإسلامية:
في سياق مناقشات الحركة الأناركية في بريطانيا في عام 2002، حول الأصولية الإسلامية المتصاعدة قال آدم كي: إنَّ“هناك تصورا جاهلا ومهيمنا عن المجتمع الإسلامي لدى كثير من الأناركيين الإنجليز”، وهو ما عزاه إلى“طبيعة حركتهم المتمركزة على إنجلترا”. منتقدا ما نقله عن بيان منشور في مجلة أناركية جاء فيه أنَّ“الإسلام عدو لكل حريات الناس”،وقال إنَّ هذا الخطاب “لا يختلف عن الخطاب المتعصب لجورج بوش أو حتى زعيم الحزب القومي البريطاني نيك جريفين”.
أما الأناركية الإسلامية فهي مصطلح يستخدم لتفسير الأفكار الأناركية بين المسلمين التي تقوم على المفهوم الإسلامي القائم على التسليم لله وحده، ويرفض أيَّ دور لأيِّ سلطة بشرية. وقد ظهرت الأفكار الأولية لهذه الحركة فيما يعرف بـ”العهد الأناركي الإسلامي” الذي نشره البريطاني المسلم يعقوب إسلام في يوليو 2005.
وكتب حكيم باي وهو لاسلطوي متصوف، يعرف أيضا بمفهومه عن الشبكات المستقلة المؤقتة، عن الحركات التي اعتبرها مهرطقة في التاريخ الإسلامي، كتاب يوتوبيا القراصنة، ومفهوم إمامة الفرد لذاته.
كما كتبت الأستاذه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة د. “هبة رؤوف عزت” الإسلامية والتحررية التوجه، مقال:“الفوضوية، الفلسفة التي ظلمتها الترجمة” مدافعة فيها عن المفاهيم الأناركية، وربطها بمفهومها عن الأمة الإسلامية والشريعة الإسلامية.
وكتب الأناركي الإسلامي المصري الكندي محمد جين فينوس دراسة الهيمنة، هيمنة الهيمنة، والأناركية الإسلامية المترجم للعربية، والمنشور ترجمته بمدونة الأناركية بالعربية.
أما يعقوب إسلام فهو مسلم بريطاني نشر عهد اللاسلطوي المسلم الذي يقوم على مجموعة أفكار أناركية وفقا للتوجهات الإسلامية، كالإيمان بالله، والنبي محمد، والنزعة الإنسانية، حيث يرى أنَّ الطريق الروحي للمسلم لا يمكن تحقيقه إلَّا عبر التجرد من السلطة بكل أشكالها، القضائية، والدينية، والاجتماعية والسياسية.
ورغم أنَّ الإسلام دين منظم وثيق الصلة بالسياسة والدولة والتشريع، لكنه وفقا للرؤية الأناركية الإسلامية فإنَّ هناك ما يجمع بين الأناركية والإسلام فيما يتعلق بالملكية، والاحترام الاجتماعي، وقضايا الاضطهاد والعنف. فالفكر الأناركي عموما يهدف لمجتمع يقوم على التجمع الحر للأفراد الأحرار، وغياب الدولة وأيِّ شكل اضطهاديٍّ، وإسقاط الرأسمالية والملكية بالمفهوم الرأسمالي، والتركيز على التعاون والمعونة المتبادلة. ويرى الأناركيون المسلمون أنَّ هناك سماتٍ مشتركة بين الإسلام واللاسلطوية.
فوفقا للأناركية الإسلامية فإنَّ كل شيء على الأرض يعود لله وحده، والناس فقط مؤتمنين على إدارتها واستثمار موارد الأرض لصالحهم. لذا فإنها ترفض الرؤية الرأسمالية للملكية القائمة على الاستغلال والاستعباد.
كما تنظر الأناركية الإسلامية لموضوع الملكية من ناحية بيئية، لذا تقول بأن النباتات والحيوانات التي هي مخلوقات الله يجب أنْ لا تستهلك إلَّا عند الضرورة القصوى. كما يرفض هذا الفكر الربا، بما في ذلك الفائدة على القروض والفائدة المبالغة في التجارة.
ويرى الأناركيون الإسلاميون ضرورة إعادة توزيع الثروة، ويرفضون تراكم الثروة في أيدي القلة. كما أنهم يدعمون تشكيل مجتمعات تقوم على المعونة المتبادلة والصلات الاجتماعية الوثيقة، وعلى رفض القوانين الرأسمالية للعمل حيث يباع العمل، ويشترى كسلعة، لذا فإنهم يدعمون بناء المجتمعات وفقا للرؤى الاشتراكية الأناركية.
يرفض الأناركيون الإسلاميون وجود مؤسسة دينية منظمة ويرون أنَّ الامامة تعني دراسة الإسلام والمعرفة به، ودور الأئمة هو النصح لا الحكم، وتنطلق في هذا من مبدأ التسليم لله لا لرجال الدين. كذلك تقول الأناركية الإسلامية بالأخوة بين كل البشر رجالا ونساء.
ترى الأناركية الإسلامية بأن العنف يستخدم فقط للدفاع عن النفس، كما ترفض التوسع العسكري، والإكراه الفكري، لذا فإنها تؤمن بمبدأ لا إكراه في الدين حيث تقول بوجوب الحرية الدينية، فترفض أحكاما مثل حكم الردّة. كما أنها ترفض الاضطهاد بكافة أشكاله لذلك ترفض وجود الدولة من الأساس، وتقول أنها تريد مجتمعا لاسلطويا لاطبقيا ولادولتيا.
الأناركية الرأسمالية:
الأناركية الرأسمالية تدعو للقضاء على الدولة لصالح السيادة الرأسمالية ليس في السوق الحرة فقط ولكن مجمل المجتمع البشري. الأناركية الرأسمالية تطورت من الليبرالية الراديكالية المناهضة للدولة والأناركية الفردية، وتنطلق من اقتصاد المدرسة النمساوية التي انطلقت منها مدرسة شيكاغو والليبرالية الجديدة في الاقتصاد. وهناك تيار أغلبية قوي داخل الأناركية  يرى أنَّ الأناركية الرأسمالية لا يمكن اعتبارها بأيِّ حال جزءا من الحركة الأناركية، ويرجع ذلك إلى حقيقة أنَّ الأناركية تاريخيا حركة مناهضة للرأسمالية، وذلك للأسباب التعريفية التي ترى الأناركية تتعارض مع كل أشكال الرأسمالية خاصة وحكومية. في معظم تاريخها، قد عرف أنصار الأناركية بأنهم معارضين للرأسمالية، التي يعتقدون أنها لا يمكن أنْ تستمر إلَّا من خلال عنف الدولة، ومعظم الأناركيين الفرديين غير رأسماليين،حيث يتبعون برودون في معارضة ملكية الرأسماليين لأماكن العمل، ويهدفون إلى استبدال العمل المأجور باتحادات تعاونية عمالية. ويتفق هؤلاء الأناركيون مع كروبوتكين في تحديده أنَّ“أصل نشأة الأناركية في المجتمع...[يكمن في] الانتقادات...للتنظيم الهرمي والمفاهيم السلطوية في المجتمع” وليس في المعارضة البسيطة للدولة أو الحكومة. وهم يقولون بأنَّ نظام الأجور هرمي وسلطوي بطبيعته، وبالتالي، فإنَّ الرأسمالية لا يمكن أنْ تكون أناركية.
كثير من الأناركيين الفرديين، يدعي أنَّ الأسواق أمر ضروري لمجتمع حر. ومع ذلك، يعتبر معظم الأناركيين الفرديين منذ وقت مبكر أنفسهم من “المناهضين المتحمسين للرأسمالية...والذين لا يرون أيَّ تناقض بين موقفهم كفرديين، ورفضهم للرأسمالية”. بل ويعرف الكثيرون منهم أنفسهم كاشتراكيين. الأناركيون الفرديون المبكرون يعرفون “الرأسمالية” بطرق مختلفة، ولكن في كثير من الأحيان يناقشونها إنطلاقا من مصطلح الربا:
“هناك ثلاثة أشكال من الربا، الفائدة على المال، وإيجارات الأراضي والمنازل، والربح من التبادل. وكل من يستلم أيَّا من هذه المداخيل  مرابٍ”. فإذا استثنينا هؤلاء، فإنهم يميلون إلى دعم التجارة الحرة، والمنافسة الحرة، والمستويات المتفاوتة من الحيازة الخاصة مثل تيار تبادل المنافع والمصالح. ومن هذا التمييز الذي أدى إلى الخلاف بين الأناركية والأناركية الرأسمالية. تاريخيا، يعتبر الأناركيون أنفسهم اشتراكيين ومعارضين للرأسمالية. وبالتالي، تُعتبر الأناركية الرأسمالية من قبل العديد من الأناركيين اليوم على أنها ليست أناركية حقيقية.
فالأناركية الرأسمالية في حقيقتها هيَ إطلاق الحرية للرأسماليين في استغلال وقهر البروليتاريا دون حمايتها بالحد الأدنى من الحقوق التي تمنحها الدولة لمواطنيها، وترك الجميع نهبا لقواعد السوق العمياء، فيتم استعباد الغالبية من البروليتاريا في مواجهة الحرية المطلقة لسادتهم الرأسماليين في استغلالهم  وقهرهم، ومن ثم فهيَ تنكر كل سلطة إلَّا سلطة الرأسماليين على عمالهم، فيا لها من أناركية!.

المنظمات الأناركية، على سبيل المثال CNT (إسبانيا) والاتحاد الأناركي (بريطانيا وأيرلندا)، عموما اتخذوا موقفا صريحا مناهضا للرأسمالية. في القرن 20، وبدأ العديد من رجال الاقتصاد ينتقدون شكل التحررية الأمريكية المتطرفة المعروفة باسم الأناركية الرأسمالية. ويرون أنَّ الرأسمالية  قمعية بطبيعتها أو دولتية. وكثير من الأناركيين والأكاديمين لا يعتبرون الأناركية الرأسمالية متماسكة بشكل صحيح مع روح ومبادئ وتاريخ الأناركية. ومع ذلك، فالأناركيون وغيرهم من الأكاديمين يعتبرون أنَّ الأناركية الرأسمالية تشير فقط إلى معارضة عدم خصخصة جميع جوانب الدولة، وبالتالي لا يرون الأناركية الرأسمالية يمكن أنْ تكون شكلا من أشكال الأناركية. 

الجمعة، 25 أغسطس 2017

القسم الثالث: مدارس الأناركيى الفكرية 5

القسم الثالث: مدارس الأناركية الفكرية 5
سامح سعيد عبود
الأناركية النقابية:
شهد أوائل القرن العشرين نشوء حركة الأناركية النقابية كمدرسة مستقلة من الفكر الأناركي تركز أساسا على الحركة العمالية أكثر من سابقاتها من المدارس الأناركية. وتعتبر الأناركية النقابية الاتحادات والنقابات والتعاونيات العمالية كقوة ثورية كامنة للتغيير الاجتماعي، الذي سوف يستبدل الرأسمالية والدولة بمجتمع جديد محكوم ديمقراطيا من قبل العمال. وتبحث الأناركية النقابية عن إزالة النظام الاحتكاري الطبقي، وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، باعتبار هذه الملكية هي سبب نشوء الطبقات الاجتماعية.
تتميز الأناركية النقابية بثلاثة مبادئ أساسية: تضامن العمال، العمل المباشر، والإدارة الذاتية لمنشئات العمل من قبل العمال، كما يظهر أحيانا ذكر لمصطلح الإضراب العام كممارسة ثورية جوهرية لتحقيق الهدف النهائي.
رودولف روكر أحد أهم الأصوات في الأناركية النقابية، حيث قام بكتابة أبحاث مهمة تشرح وجهات نظره حول أصل الحركة، ولماذا يعتقد أنها ذات أهمية لمستقبل العمال نشرها في كتابه 1938 تحت عنوان “الأناركية النقابية”: مع أنَّ نشوء هذه المدرسة تزامن على الأكثر مع نضال العمال في أوائل القرن العشرين خاصة في فرنسا وإسبانيا، فما زال هناك العديد من الحركات الأناركية النقابية فعالة إلى اليوم. إلَّاأنَّ بعض الأناركيين المعارضين لها يحاولون إخراجها من دائرة الأناركيين.
تعارض الأناركية النقابية العمل المأجور، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وترى أنها تؤدي إلى الانقسامات الطبقية.
يعتقد الأناركيون النقابيون أنَّ العمل المباشر فقط، وهو العمل الذي يتركز على تحقيق هدف مباشر سوف يسمح للعمال بتحرير أنفسهم، في مقابل رفضهم العمل غير المباشر، مثل انتخاب ممثلين للعمال لمؤسسات  الحكومة التشريعية والتنفيذية وعلاوة على ذلك، يعتقد الأناركيون النقابيون أنَّ منظمات العمال النقابية والتعاونية، يجب أنْ تقوم على أساس الإدارة الذاتية الديمقراطية المباشرة. ولا ينبغي أنْ يكون الزعماء أو “وكلاء الأعمال”والبيروقراطيون بديلا عن العمال في إدارتها، ويجب أنْ يكون العمال قادرين على اتخاذ جميع القرارات التي تؤثر عليهم بأنفسهم. وأن تسعى النقابات الأناركية للقضاء على نظام العمل المأجور، لا الإبقاء عليه بالاقتصار على تحسين شروطه.
جمعية العمال العالمية، هيَ اتحاد النقابات الأناركية الدولية المكون من مختلف النقابات العمالية الأناركية من مختلف البلدان، وأهم المنظمات المشاركة فيه التعاهدية الوطنية للعمل الإسباني التي لعبت ولا تزال تلعب دورا رئيسيا في الحركة العمالية الإسبانية. وكانت أيضا قوة هامة في الحرب الأهلية الإسبانية. وهناك العديد من المنظمات الأناركية النقابية التي تنشط اليوم، بما في ذلك SAC في السويد، وUSI في إيطاليا، متحدون في عدد من هذه المنظمات عبر الحدود الوطنية من خلال العضوية في جمعية العمال العالمية.
لا تستبعد الأناركية النقابية وغيرها فروع الأناركية، فغالبا ما تشترك الأناركية النقابية مع الأناركية الشيوعية أو الجمعية في أفكارهما. ما يميزها هو ما يقترحه أنصارها باعتبار منظمات العمال الاقتصادية والاجتماعية وسيلة لخلق أسس المجتمع الأناركي  غير الهرمي داخل النظام الحالي، وإحداث ثورة اجتماعية من أسفل إلى أعلى، أما النظم الاقتصادية الأناركية، فالأناركية النقابية غالبا ما تأخذ شكل إما نظام اقتصادي أناركي جمعي أو نظام اقتصادي أناركي شيوعي.
عموما فإنَّ الأناركيين الشيوعيون ينتقدون بعض جوانب الأناركية النقابية أو السينديكالية التي تعتبر الإدارة الذاتية لأماكن العمل من قبل العمال أساسية كأهداف للحركة الأناركية، كما أنها ضرورية كوسائل  لتحقيق الثورة الاجتماعية حيث تحافظ على العلاقات الاقتصادية التي تقوم على مكافأة الجهد والتبادل.
كما لا تسعى الأناركية النقابية إلى إلغاء النقود في حد ذاتها. يقول رالف شابلن أنَّ“الهدف النهائي من الإضراب العام فيما يتعلق بالأجور هو إعطاء كل منتِج المنتَج الكامل من عمله. إنَّ الطلب على أجور أفضل يصبح ثوريا فقط عندما يقترن ذلك مع المطالبة بتوقف  استغلال العمل”.
بالإضافة إلى ذلك، ينظر النقابيون الأناركيون إلى الدولة باعتبارها مؤسسة لاضطهاد العمال. وهم يرون أنَّ الغرض الأساسي للدولة هو الدفاع عن الملكية الخاصة، وبالتالي نشوء واستمرار الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى حين تنكر مثل هذا الدفاع فهيَ تمنع مواطنيها من القدرة على التمتع بالاستقلال المادي والحكم الذاتي الاجتماعي فتخضعهم لها بدلا من خضوعهم لرأسالمال. وعلى النقيض من (الماركسية اللينينية على سبيل المثال)، تنكر الأناركية النقابية أنَّه يمكن أنْ يكون هناك أيُّ نوع من دولة للعمال، أو دولة تعمل في مصالح العمال، خلافا لتلك الدولة التي للرأسماليين. وهو ما يعكس الفلسفة الأناركية التي تستمد منها الإلهام الأساسي، حيث أنَّ الأناركية النقابية تتبنى فكرة أنَّ السلطة تفسد في حد ذاتها من يمارسها مثلما تستعبد وتستغل من تمارس عليهم.
الأناركية بدون صفات:
نشأت “الأناركية دون الصفات”، كأحد ردود الفعل  ضد الانقسامات الحادة داخل الوسط الأناركي، وهيَ دعوة للتسامح بين الفصائل الأناركية المختلفة، اعتمدها لأول مرة فرناندو تاريدا ديل مارمول في عام 1889 ردا على“المناقشات المريرة” حول النظرية الأناركية في ذلك الوقت. ودعت “الأناركية دون الصفات”، للتخلي عن الأناركيات الموصوفة (أيْ الجمعية، الشيوعية، التبادلية، الفردية)، وسعت إلى التأكيد على فكرة مكافحة السلطوية، وهيَ الصفة المشتركة لدى جميع مدارس الفكر الأناركي.
فالأناركية دون الصفات، مذهب يرفض أيَّ نعوت إضافية، أو وصفية للأناركية، مثل الشيوعي، أو الجمعي، أو المتنافع، أو الفردي أو النقابي، وهو  المفهوم الذي يتخذه كثير من الأناركيين ببساطة باعتباره الموقف الذي يؤدي للتسامح والتعايش بين المدارس الأناركية المختلفة بدلا من تصارعها.
تؤكد الأناركية دون الصفات على الانسجام بين مختلف الفصائل الأناركية وتحاول توحيدهم حول المعتقدات المشتركة فيما بينهم لمكافحة الاستبدادية..ويرى أنصارها أنَّ أنواع الأناركية المختلفة  قدمت “أساليب مختلفة فقط من الاقتصاد، والإمكانيات العملية والتي حتى الآن لم يتم اختبارها، وأن الهدف الأول هو ضمان الحرية الشخصية والاجتماعية للبشر، بغض النظر عن الأساس الاقتصادي الذي يمكن أنْ يتحقق”.
فولتاريني دي كليري أيضا أناركية دون صفات، وقد عرفت في البداية نفسها باعتبارها أناركية فردية، حتى تبنت في وقت لاحق شكلا من أشكال الأناركية الجمعية، في حين رفضت تحديد نفسها بعد ذلك مع أيٍّ من المدارس المعاصرة. وقالت:“ أفضل شيء للعمال والعاملات العاديين يمكن القيام به لتنظيم صناعتهم للحصول على المال معا، هو أنْ ينتجوا معا، تعاونيا بدلا من انقسامهم بين صاحب عمل وعاملين....والسماح لهم بعلاقات ودية في كل مجموعة، دعونا كلنا نستخدم  ما نحتاجه من المنتج، ونودع الباقي في المخزن العام، ونتركه للآخرين الذين يحتاجون إلى تلك البضائع كلما دعت مناسبة”. وعلقت قائلة:“إنَّ الجمعية والشيوعية على حد سواء تتطلب درجة من الجهد المشترك والإدارة التي من شأنها أنْ تمهد الطريق أمام مزيد من التنظيم يتسق تماما مع الأناركية المثالية، في حين أنَّ الفردية وتبادل المنافع والمصالح، يبقوا على الملكية، التي تنطوي على تطوير ظرف خاص لا يتوافق على الإطلاق مع مفهوم الحرية”، على الرغم من أنها لم تصل إلى حد شجب هذه الميول ووصفها بأنها ليست أناركية. “لا يوجد شيء لا أناركي في أيٍّ من [هذه الأنظمة] حتى عنصر الإلزام لا يدخل ويلزم الأشخاص غير الراغبين في البقاء في المجتمع بالترتيبات الاقتصادية التي لا يوافقون عليها”. وكان إريكو مالاتيستا مؤيدا آخر للأناركية دون الصفات، مبينا أنَّ“ليس من الصواب بالنسبة لنا، على أقل تقدير، الوقوع في الفتنة لمجرد أكثر من فرضيات”.
وظهر بعد ذلك اتجاه التوليف الأناركي كبديل تنظيمي عن اتجاه الأناركية البرنامجية  الذي لا يقبل بالتعددية الفكرية داخل المنظمات الأناركية، وهو يضم الأناركيين من اتجاهات مختلفة وفقا لمبادئ الأناركية دون الصفات. وفي عشرينيات القرن 20 وجد هذا النموذج رواده الرئيسيين في فولين وسيباستيان فور. وهو المبدأ الرئيسي الكامن وراء الاتحادات الأناركية المتجمعة حول الأممية العالمية المعاصرة للاتحادات الأناركية.
الأناركية البرنامجية:
خلصت مجموعة ديلو ترودا  المكونة من الأناركيين الروس المنفيين في باريس، والتي ضمت نيستور ماخنو، إلى أنَّ الأناركيين بحاجة إلى تطوير أشكال جديدة من التنظيم ردا على هياكل التنظيم البلشفية، باعتبار أنَّ افتقادهم للتنظيم الجيد كان سببا في هزيمتهم أمامها. ولذلك أصدروا  بيانهم التاريخي في 1926، دعوا فيه إلى (مشروع) المنهج التنظيمي للاتحاد العام للأناركيين، وأيدوا تكوين مجموعات دعاية برنامجية تشمل اليوم حركة التضامن العمالي في أيرلندا، واتحاد شمال شرق أمريكا الشمالية الأناركي الشيوعي.
الأناركية البرنامجية هو اتجاه داخل الحركة الأناركية الأوسع قائمة على النظريات التنظيمية الواردة في البرنامج التنظيمي للاتحاد العام للأناركيين (مشروع) ديلو ترودا. واستندت الوثيقة على تجارب الأناركيين الروس في ثورة 1917، والتي أدت في النهاية إلى انتصار البلاشفة على الأناركيين، والمجموعات الأخرى من الجماعات ذات التفكير المماثل. فقد حاول البرنامج معالجة وتفسير فشل الحركة الأناركية أثناء الثورة الروسية. ولذلك أصدروا هذا الكتيب المثير للجدل داخل الحركة الأناركية التي رأى فيه الكثيرين تراجعا أمام المنتصر وتماهيا معه، ولذلك واجه البرنامج كلا من الثناء والنقد من الأناركيين  في جميع أنحاء العالم.
كثير من البرنامجيين (أو البلاتفورميين نسبة للبلاتفورم أو لمسودة البرنامج التنظيمي للاتحاد العام للشيوعيين التحرريين الذي كتبه ماخنو، وعدد من رفاقه في 1926 كنتيجة لتجربتهم في الثورة الروسية) يشيرون إلى أنفسهم كشيوعيين لاسلطويين (أناركيين) رغم أنَّ عددا من الشيوعيين اللاسلطويين (الأناركيين) لا يشعرون براحة من بعض أجزاء وثيقة البرنامج التنظيمي مثل مسألة “المسؤولية الجماعية” التي دعمها ماخنو لكن عارضها مالاتيستا.
أدت البرنامجية لظهور انتقادات شديدة من العديد من القطاعات في الحركة الأناركية في هذا الوقت بما في ذلك بعض الأناركيين الأكثر تأثيرا مثل فيولين، وإريكو مالاتيستا، ولويجي فابري، وكاميلو بيرنيري، وماكس نيتاليو، وألكسندر بيركمان، وإيما غولدمان وغريغوري ماكسيموف. لكن   مالاتيستا، بعد معارضته في البداية للبرنامجية، وصل في وقت لاحق إلى اتفاق مع البرنامجية مؤكدا أنَّ الخلاف في الرأي يرجع أصلا إلى الارتباك اللغوي: “أجد نفسي في اتفاق أكثر أو أقل مع طريقتهم في تصور المنظمة الأناركية (الذي يبتعد جدا عن الروح السلطوية الذي بدا أنَّ“البرنامج” يحملها) وأؤكد اعتقادي أنَّ وراء الاختلافات اللغوية التي أدت للجدال تكمن حقا مواقف متطابقة”. وقدم سيباستيان فور وفيولين نصين لهما كردين على البرنامج، واقترح كل منهما  نماذج مختلفة، هي الأساس لما أصبح يعرف باسم تنظيم التوليف، أو ببساطة التركيبية، فيولين نشر في سنة 1924، ورقة تدعو إلى“توليف الأناركية” وكان أيضا قد كتب مقالا في الموسوعة الأناركية حول نفس الموضوع، وكان الهدف الرئيسي من وراء التوليف أنَّ الحركة الأناركية في معظم البلدان تم تقسيمها إلى ثلاثة توجهات رئيسية: الأناركية الشيوعية، والأناركية النقابية، والأناركية الفردية، وهكذا فمثل هذا التنظيم يمكن أنْ يحتوي على الأناركيين من هذه النزعات الثلاثة بشكل جيد للغاية. أما فور في نصه “التوليف بين الأناركيين”، فكان رأيه أنَّ“هذه التيارات ليست متناقضة لكنها متكاملة، ولكل منها دور في الأناركية: الأناركية النقابية تطرح قوة منظمة للتغيير هيَ المنظمات الجماهيرية النقابية، وهيَ أفضل وسيلة لممارسة الأناركية، ووضعها على المحك العملي، الشيوعية التحررية تقترح مجتمع المستقبل على أساس توزيع الثمار وفقا لاحتياجات كل شخص،الأناركية الفردية بمثابة نفي الظلم والتأكيد على حق الأفراد في تنمية ذواتهم، والسعي لإرضائهم في كل شيء، ولقيَ برنامج ديلو ترودا في إسبانيا أيضا انتقادات قوية من ميغيل خيمينيز، أحد الأعضاء المؤسسين للاتحاد الأناركي الأيبيري (FAI)، لخصه على النحو التالي:
نظرا للتأثير الكبير جدا للماركسية فيه، فإنه يقسم ويختزل بشكل خاطئ الأناركيين بين الأناركيين الفرديين والأناركيين الشيوعيين، وأنَّه يريد توحيد الحركة الأناركية على طول خطوط الأناركية الشيوعية، أما هو فيرى الأناركية باعتبارها أكثر تعقيدا من ذلك؛أنَّ الميول الأناركية لا يستبعد بعضها بعضا كما يرى البرنامجيون، وأنَّ كلا من الفردانية والآراء الشيوعية يمكن أنْ تستوعبها الأناركية النقابية. وكان  سيباستيان فور له اتصالات قوية في إسبانيا، وحتى أنَّ اقتراحه كان أكثر تأثيرا في الأناركيين الإسبان من برنامج ديللوترودا على الرغم من التأثير الأناركي الفردي في إسبانيا كان أقل قوة مما كان عليه في فرنسا، والهدف الرئيسي كان هناك دمج الأناركية الشيوعية مع الأناركية النقابية.
الأناركية المتمردة:
هي نظرية ممارسة أناركية ثورية، واتجاه داخل الحركة الأناركية يؤكد على التمرد العنيف في الممارسة الأناركية. وينتقد المنظمات الرسمية مثل النقابات والاتحادات والأحزاب العمالية التي تستند على برنامج سياسي، والمؤتمرات الدورية التي تحدد مواقف الحركة وتوجهاتها. وبدلا من ذلك، يدعو الأناركيون التمرديون إلى منظمات سرية غير شرعية، وجماعات ألفة صغيرة العضوية. ويركز الأناركيون التمرديون في الهجوم على المؤسسات الحكومية والرأسمالية وأعمال التخريب، والانخراط في الصراع الطبقي الدائم، ورفض التفاوض أو المساومة مع الأعداء الطبقيين..ورافق هذا الاتجاه المناهض للإصلاحيين توجهات معادية للتنظيم، وأعلن أنصارها أنفسهم أنهم  مع التحريض بين العاطلين عن العمل لمصادرة المواد الغذائية، وغيرها من المواد، وللإضراب لنزع الملكية، وفي بعض الحالات، أعمال “الإرهاب”.
في عام 1876، في مؤتمر برن لجمعية العمال الدولية، ناقش الأناركي الإيطالي إريكو مالاتيستا فكرة أن الثورة “تتكون من الأفعال أكثر من الكلمات”، وكان الإجراء العملي هو الوسيلة الأكثر فعالية في الدعاية، وأعلن في نشرة اتحاد جورا:“يعتقد الاتحاد الإيطالي أنَّ حقيقة تمردية، متجهة إلى تأكيد المبادئ الاشتراكية التي كتبها الفعل، هي الوسيلة الأكثر فاعلية للدعاية”.
ورثت الأناركية المتمردة المعاصرة آراء وتكتيكات مكافحة التنظيمية واللاشرعية القديمة في الحركة الأناركية نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وينتقد “الأناركيون التمرديون”، النقابات العمالية الأناركية، والاتحادات الأناركية، ويدعون لتنفيذ أعمال المقاومة العنيفة في مختلف النضالات. والمنظرين الهامين للأناركية التمردية ولفي لاندشتريشر وألفريدو ماريا بونانو، وله مؤلفات من بينها “الفرح المسلح”و”التوتر الأناركي”. ويمثل هذا الاتجاه في الولايات المتحدة في مجلات مثل العصيان المتعمد.
لكن يلاحظ عموما أنَّ عنف التمردية الحديثة أقل دموية بكثير من التمردية القديمة، وجماهيري جماعي أكثر منه فردي بطولي، موجهة للإضرار بالأشياء لا بالأشخاص، فالعنف لديهم لا يتعدى تدمير واجهات الشركات الزجاجية للشركات والبنوك، ومؤسسات الدولة، وتعطيل المرور، وحماية المظاهرات من قمع الشرطة، أو ممارسة أشكال استعراضية تهكمية أثناء التحركات الجماهيرية في الشوارع والمياديين كقنابل الألوان، واستفزاز وانهاك رجال الشرطة القمعية، وغيرها مما لا يلحق أذًى بأيِّ إنسان.
الأناركية السلمية ومناهضة العسكرية:
الأناركية السلمية هيَ الاتجاه الذي يرفض العنف في النضال من أجل التغيير الاجتماعي، ولها وجود قوي في الحملات المتلاحقة لنزع السلاح من العالم، وعلى رأسها السلاح النووي، وتتقدم الصفوف في معارضة الحروب، وظهرت في هولندا وبريطانيا، والولايات المتحدة، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية”. وترفض تماما استخدام العنف بأيِّ شكل من الأشكال لأيِّ غرضٍ من الأغراض، ورائدها الرئيسي هنري ديفيد ثورو، الذي من خلال عمله العصيان المدني أثر على حد سواء في كل من ليو تولستوي والمهاتما غاندي في تبنيهما المقاومة اللاعنفية.
كان استخدام العنف دائما مثيرا للجدل في الأناركية. ففي حين أنَّ العديد من الأناركيين خلال القرن الـ19 تبنوا دعاية الفعل العنيفة السابق الإشارة إليها عند مناقشة الأناركية التمردية، فقد عارض ليو تولستوي وغيره من دعاة الأناركية مباشرة العنف كوسيلة للتغيير. مستندا على أنَّ الأناركية يجب أنْ تكون بطبيعتها لاعنفية، لأنها بحكم التعريف، معارضة للقهر والقوة، وأنه لما كانت الدولة عنيفة بطبيعتها، فيجب أنْ تكون الأناركية مسالمة بطبيعتها بالمثل. وفلسفته تعتبر مصدر إلهام كبير لغاندي، زعيم الاستقلال الهندي وداعية السلام الذي عرف نفسه باعتباره أناركيًا.
 وكان لفرديناند نيوفنهويس أيضا دور فعال في تأسيس الاتجاه السلمي داخل الحركة الأناركية، وفي فرنسا في ديسمبر 1902 كان جورج يفتو واحدا من مؤسسي رابطة ضد العسكرة  الفرنسية، جنبا إلى جنب مع زملائه هنري بيلي، وبراف جافال، وألبرت ليبرتاد وإميل جانفو. وأصبحت رابطة ضد العسكرة  القسم الفرنسي للجمعية الدولية ضد العسكرة (AIA) التي تأسست في أمستردام في عام 1904.
يعتبر معظم الأناركيين معارضتهم للنزعة العسكرية متأصلة في فلسفتهم الأناركية. وأخذ بعض الأناركيين المبدأ لأبعد من ذلك، واتبعوا اعتقاد ليو تولستوي في اللاعنف (مع ذلك فإنَّ  الأناركيين السلميين ليسوا بالضرورة أناركيين مسيحيين كما كان تولستوي)، ويدعون إلى المقاومة غير العنيفة باعتبارها الطريقة الوحيدة لتحقيق ثورة أناركية حقا.
غالبا ما يصور الأدب الأناركي الحرب كنشاط تسعى عبره الدولة  للحصول على السلطة، وتوطيد السلطة، سواء محليا أو في أراضٍ أجنبية. ولذلك يشارك كثير من الأناركيين الرأي مع  راندولف بورن أنَّ“الحرب هي تضحية لصالح صحة الدولة” كما أنَّ السلام هو مرضها. ويعتقد أناركيون آخرون أنهم إذا دعموا الحرب فإنهم يدعمون الدولة في الواقع، ومن ثم نشأ نفور الأناركيين الآخرين من بيتر كروبوتكين رغم مكانته بينهم، عندما أعرب عن دعمه البريطانيين ضد الألمان في الحرب العالمية الأولى، اعتقادا منه أنَّ سلطوية الألمان أشد وطأة من سلطوية الإنجليز.
يرفض الكثير من الأناركيين في الحركة الحالية السلمية الكاملة، وبدلا من ذلك يفضلون الدفاع عن النفس، وممارسة العنف أحيانا ضد القوات القمعية والإجراءات الاستبدادية باعتباره عنفا دفاعيا. ويشكك معظم الأناركيين في إمكانية الفوز في نزاع مسلح مباشر مع الدولة، ولذلك يهتمون في الغالب بالتنظيم الاجتماعي الاقتصادي الأناركي من هامش وباطن المجتمع الحالي من أسفل لامتلاك القدرة المادية على إسقاطها بدون الاضطرار لممارسة العنف في مواجهتها.
أناركية ما بعد اليسار:
أناركية ما بعد اليسار هيَ تيار ظهر مؤخرا في الفكر الأناركي يشجع على نقد علاقة الأناركية بالسياسة اليسارية التقليدية. ويسعى أناركيو ما بعد اليسار إلى التحرر من قيود الأيديولوجيا في العموم، ويقدمون أيضا نقدا للمنظمات اليسارية و نقد الأسس الأخلاقية للأناركية تأثرا بأعمال ماكس شتيرنر، والماركسية الأممية الوضعية، وتتميز حالة الأناركية ما بعد اليسار بالتركيز على التمرد الاجتماعي، ورفض التنظيم الاجتماعي اليساري.
انخرطت المجلات الأناركية: مثل الرغبة المسلحة، و الأناركية الخضراء  في تطوير أناركية ما بعد اليسار. أما الكتاب الفرديين المرتبطين بهذا الاتجاه فمنهم حكيم باي، وبوب بلاك، وجون  زرزان، وجيسون  ماكوين، وفريدي بيرلمان، ولورانس جاراش والشبكة المعاصرة للتعاونيات  CrimethIncهيَ الشارحة لوجهات نظر أناركية ما بعد اليسار.
ادعت حركة أناركية ما بعد اليسار أنَّها تسعى لتنأى بنفسها عن “اليسار” التقليدي - الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين الاجتماعيين، وما إلى ذلك - والتحرر من قيود الأيديولوجية بشكل عام. ويقول الأناركيون ما بعد اليساريين إنَّ الأناركية قد ضعفت عن طريق التصاقها الطويل بالحركات “اليسارية”، وقضايا الأسباب الواحدة (المناهضة للحرب، المناهضة للأسلحة النووية، وما إلى ذلك). وتدعو لتركيب الفكر الأناركي، والحركة الثورية المكافحة للسلطوية خارج الوسط اليساري على وجه التحديد. المجموعة الهامة والأفراد المرتبطين بأناركية ما بعد اليسار تشمل، مجلة الفوضى: مجلة الرغبة المسلحة ورئيس تحريرها جيسون ماكوين، بوب بلاك، حكيم باي وغيرهم.
ما بعد الأناركية:
ما بعد الأناركية هى الخطوة النظرية نحو توليف نظرية الأناركية الكلاسيكية، والفكر ما بعد البنيوي، مستفيدة من الأفكار المتنوعة بما في ذلك أفكار ما بعد الحداثة، والاستقلالية الماركسية، وأناركية ما بعد اليسار، والأممية المواقفية، وما بعد الاستعمارية.
وقد نشأت مرحلة ما بعد الأناركية  كمصطلح من قبل شاول نيومان، والذي حصل فورا على اهتمام شعبي بسبب كتابه "من باكونين إلى لاكان"، للإشارة إلى الخطوة النظرية نحو توليف نظرية الأناركية الكلاسيكية والفكر ما بعد البنيوي. وبعد استخدام نيومان للمصطلح، فقد أخذ في الحياة من تلقاء نفسه، مع مجموعة واسعة من الأفكار بما في ذلك ما بعد الحداثة، والاستقلالية الذاتية، وحالة الأناركية ما بعد اليسار، والمواقفية، وما بعد الاستعمار، والزاباتية. و ترفض ما بعد الأناركية فكرة أنَّه ينبغي أنْ يكون هناك مجموعة متماسكة من المذاهب والمعتقدات. وعلى هذا النحو فإنَّه من الصعب، إنْ لم يكن من المستحيل القول بأيِّ درجة من اليقين ما الذي ينبغي أو لا ينبغي أنْ يصنف تحت عنوان الأناركية. المفكرون الرئيسيون الذين يرتبطون مع مرحلة ما بعد الأناركية يشملون شاول نيومان، تود مايو، لويس كول، جيل دولوز، فيليكس جيوتار وميشيل أونفراي.